الى حين دورة ثانية لمهرجان الهيتي والكنوز البشرية والفنون الحية بتازة..

تازة بريس
عبد السلام انويكًة
هو جزء من الأثر الذي بطبيعة وذاكرة أدبية شفهية جماعية، وهذا الأثر الذي بأهمية كمصدر من مصادر المعلومة عن الثقافة المغربية وتراث البلاد الحضاري، هو أيضا بأهمية في كتابة تاريخها بما في ذلك تاريخ الفنون المغربية ونشأتها وتعبيراتها وتباينها الايقاعي والمجالي. ولعل من هذا الأثر اللامادي الذي يحفظ تفاعل الانسان المغربي بالجبل والسهل والساحل والصحراء مع محيطه عبر الزمن، والذي بقدر ما يعني الإحساس بالانتماء بقدر ما يعد وثيقة حية شاهدة على ما هناك من هوية وثقافة محلية وصور حياة ممتدة منذ الماضي. وعن زخم المغرب التراثي الحضاري الفني البدوي في هذا الاطار، والذي بحاجة لعناية وانصات وتوثيق وتعريف وابراز واستدامة. هناك فن “الهيتي” أو “الهيت” الذي يرتب ضمن كنوز المغرب البشرية الحية وفنون الذاكرة، ذلك الذي كان مؤخرا مساحة مهرجان وطني بتازة في دورة أولى من تنظيم جمعية تازة الكبرى للتنمية، وعيا منها وتثمينا لذخائر تراث المنطقة الرمزي من اجل ما ينبغي أن يسهم به هذا التراث في الإقلاع الترابي المحلي والتنمية المنشودة. ويظهر أن موعد تازة الاحتفائي بالتراث ممثلا في فن “الهيتي”، كان برؤية وهدف مزدوج، أولا: اتاحة بقاء واستمرارية هذه الثقافة والهوية والفرجة والتعبير الإنساني، عبر اثارة جميع ما هو داعم من السبل لهذا الغرض على وقع ما هناك من متغيرات وتدفق ثقافي وتقني. وثانيا: تثمين هذا الموروث المحلي اللامادي من خلال ما ينبغي من ملفات وتصنيف وتسويق رافع للتنمية، مع حفظ ما لا يزال قائما من هوية وتعبير فني، وما لايزال أيضا اصيلا حيا في الوجدان المحلي رغم ما هناك من جديد حديث.
و”الهيتي” الذي يعرف محليا ب “الفرايجية” و”تشكلل” على مستوى مقدمة الريف شمال تازة حيث قبيلة “البرانس” و”اتسول”، هو ذلك العبير الفني البدوي الشفهي الأكثر حضورا وتناغما مع الذهنية المحلية بهذه الربوع من المرتفعات، وعليه ما يطبعه من ذاكرة جماعية وصور حياة وحضن منذ القدم فضلا عن تناقل وتلاقح عبر الأجيال بين سلف وخلف. مع أهمية الإشارة لما يسجل للمنطقة من خلال فرقها الفنية وشيوخها الأموات منهم والأحياء، من دور في حفظ هذا التراث الذي بحاجة لسبر أغواره من خلال باحثين دارسين موسيقيين أولا ثم مؤرخين وسسيولوجين وانتروبولوجيين وغيرهم ثانيا، لابراز ما هناك من بصمات وتميزات في خريطة التعبير الفرجوي الوطني الشعبي الفلكلوري والإنساني، في أفق ما ينبغي من استدامة رافعة لما هناك من تطلعات ترابية إنمائية محلية وجهوية ووطنية. علما أنه بقدر ما يطبع هذا الإرث المحلي “الهيتي” من غنى وقدم واصول ثقافية تعبيرية واستمرارية عبر قرون من الزمن، بقدر ما يعترضه من تحديات غير خافية قد تكون بأثر في تآكله تدريجيا، وعليه ما هناك من حاجة لتوعية وتحسيس وتوثيق وحفز وجرد ومرافق حاضنة واستدامة، وهذا من مسؤولية الجميع كل من موقعه حفظا للذاكرة وللهوية المحلية والوطنية.
والهيتي هذه الفرجة والغناء البدوي المحلي، هو طاقة تعبير نابع من الذات عبر ايقاعات وحركة جسد ولحن وزجل مرتجل عفوي متدفق، وهو أيضا الحفل والموسم والنطق المحلي والقبيلة والخصوصية البيئية والثقافية والاجتماعية، ولعل بقدر ما لهذا الفن الشعبي من بساطة ووظيفية وتلقائية وقوة زجل وارتجالية نصوص وقضية وقول عابر في لحظة من لحظات حفل واحتفاء، بقدر ما له من خصائص جامعة بين امتداد وقدم في الزمن وأسلوب تعبير خاص ومناسبات، وكذا ما يقوم عليه من قواعد فرجة مؤطرة وتلاقح اجيال وانصات لبيئة وماض وحاضر فضلا عن وظيفة سياقية وقيم ومعاني حياة. بل الهيتي المحلي على مستوى تازة حيث أعالي حوض ايناول وقبيلة “البرانس” و”اتسول” وكذا “الحياينة”، جزء من ذاكرة المنطقة وتاريخها وجغرافيتها وتركيبها الثقافي القبلي. ومن هنا ما يمكن الحديث عنه من هوية محلية سسيو ثقافية، لا تزال بحضور ومساحة متلقي وجذب ومكانة رمزية وتنشئة اجتماعية وثقافية. مع أهمية الإشارة الى أن رقصة الهيتي بالمنطقة رقصة ذكورية جماعية، من أثاثها ما يعرف ب”المقدم” ثم “المغنين” فضلا عن حركة جسد جماعي واصوات وايقاع وفقرات وسيرورة فرجة وابداع عفوي تعد البيئة المحلية مرجعا له. ويسجل أن من الأدوات الموسيقية المعتمدة في حفل وفن الهيتي المحلي الذي كان موضوع مهرجان تازة للهيتي في دورته الأولى هناك آلة المقص والتعريجة والغيطة ” والدفوف، كل هذا وذاك على إيقاع لباس تقليدي موحد وفرجة جماعة في حدود العشرة أفراد مبنية على تكامل أدوار بين هؤلاء، علما أن الرقصة ذكورية كما سبقت الإشارة لذلك، بحيث لا أثر لصوت النساء الا من خلال ما يحضر من زغاريد ضمن جمهور متفرجين دون اختلاط. مع أهمية الإشارة أيضا الى أن من الطقوس التي لا تزال تؤثث الرقصة وفقراتها ودفئ لحظاتها ورسائلها واحالاتها، ما يعرف ب” الغرامة” التي تعني التبرع بأوراق نقدية لفائدة الراقصين والمغنين من حين لآخر، تعبيرا عن الرضى والمتعة والتأثر بالأداء وتحفيزا لمزيد من التنافس والابداع في القول والزجل عبر ما يعرف في ثقافة الرقصة ب”الزريع”.
إشارات بمختصر مفيد حول فن “الهيتي” و”الهيت”الذي كانت تازة على موعد معه على امتداد الأيام الثلاثة الأخيرة من شهر نونير الماضي، من خلال مهرجان خاص والذي لم يكن احتفالا وقربا وتثمينا لهذا التراث اللامادي فقط، عبر ما توزع عليه من عروض لفقرات فروسية و”تبوريدة” ومعارض فنية تشكيلية ومنتوج محلي لحرف تقليدية .. الخ، بل مناسبة للفكر والقراءات والتحليل من خلال ندوات ومائدة مستديرة، أطرها باحثون منهم مبدعون روائيون ومؤرخون وأدباء وانتروبولوجيون واعلاميون ..، وقد استهدفت جميعها “الهيتي” تعريفا وهوية وخصوصية وتراثا وانسانا ومكانا وذاكرة وتحولات، فضلا عن واقع وتحديات وسبل حماية وحفظ وتوثيق وإنقاذ واستدامة، وكذا ادراج فيما ينبغي من أوراش مندمجة تخص التنمية المحلية. ولعل “الهيت” الذي توجهت اليه جمعية تازة الكبرى للتنمية من خلال هذه التظاهرة الثقافية الكبرى تثمينا لكنوز المنطقة البشرية الحية، لا يزال حيا شامخا بالمنطقة رغم ما هناك من تدفق ثقافي فني حديث من كل حدب وصوب، ولا يزال صانعا للفرجة جاذبا صامدا مستمدا قوته واستمراريته وبقاءه من تاريخ وذاكرة المنطقة الجماعية، ولعله التراث الفني الشعبي المحلي الذي يضع المهرجان أمام سؤالين أساسيين، الأول منها ماذا يريد مهرجان تازة من هذا الكنز البشري الحي؟ وأما الثاني فهو ماذا يريد هذا الكنز البشري الحي من هذا المهرجان؟.
والى حين ما ينبغي من قراءات وتأمل وتبصر وتطلع ورأي ومقترح وتفاعل مع هذا وذاك من السؤال في أفق دورات قادمة بحول الله، نسجل كون جمعية تازة الكبرى للتنمية عبر مهرجانها الذي كان بما كان من أثر وصدى وغنى وتجاوب وفرجة ودينامية غير مسبوقة، نجحت وتمكنت من صنع الحدث والاحتفاء بامتياز في دورة أولى استكشافية وتجريبية بالمدينة. مستهدفة تثمين موارد المنطقة الثقافية الرفيعة المستوى ورد الاعتبار لِما هي عليه من ذاكرة وتراث لامادي وكنوز بشرية حية، من قبيل فن “الهيتي” أو”الهيت” في جميع تجلياته الرمزية والتعبيرية والهوياتية محليا. مستهدفة أيضا تأسيس وترسيخ تقليد احتفالي سنوي يخص هذا المجال وجواهره عبر ما ينبغي من تشارك وتقاسم وانخراط للجميع كل من موقعه، لبلوغ المنشود من أهداف التنمية وتطلعات تخص تسويق تراب الإقليم الذي بمؤهلات متفردة على عدة مستويات. وكانت الدورة الأولى لمهرجان الهيتي بتازة بقدر كبير من الطموح وبعد نظر واجتهاد وبرنامج واثارة ومادة احتفالية وفضاءات فضلا عن فريق عمل وتأطير ولجنة تنظيمية وشركاء مستحقين بذلك كل اجلال واكبار وتقدير.
مع أهمية الإشارة لما طبع مهرجان تازة هذا من ضيوف شرف، من قبيل تراث إقليم السمارة عن جهة العيون الساقية الحمراء من خلال فرق فنية تراثية أمتعت جمهور تازة بعروض وأداء ورسائل فنية ووطنية رفيعة المستوى، ومن قبيل ايضا تكريم دولة السنغال كضيف شرف عبر سفارتها بالرباط، وعيا بما هناك من صداقة وعمق ثقافي وإفريقي. ولعل على وقع كل هذا وذاك من الأثاث الذي طبع ايقاع مهرجان تازة للهيتي في نسخته الأولى ايان 28- 29- 30 نونبر الأخير، كان الافتتاح واللقاء والفرجة وكذا إسدال الستار على أمل تجديد اللقاء والحفل وإغناء أحلام وتطلعات جمعية تازة الكبرى للتنمية، ورهانها في تثمين التراث المحلي وفي التنمية الترابية بالمدينة والاقليم، من خلال دورة ثانية واعدة داعمة رافعة لفائدة حاضر ومستقبل البلاد والعباد.
رئيس مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث















