الذات وتجليات الجمال في شعر “سلطان الما” الزجال حفيظ اللمتوني ..
تازة بريس
“شكون بحالي، نلوي الليل، فوق راسي عمامه، وندير فكاري، نجوم تلالي، نلبس بياض القمره، فوقيه، نحزمها ب هبالي، فيها نعوم، وعند اللامه، نسوك لغتي، نحركس كلمتي تزيان حروفي، اللي طالعه من القلب، بلا رعده، مجرده من خوفي، نكحل عينيها، لا يعميها، بياض الورقه، نغسلها ب ما لفهامه، تتسامى، هي ها كدا زجالي، مره مره، لا زمني نتسارى فيها، نتساوى بها، ندير يدي ف يديها، فين ما بغات نديها، نتمشاو على الشط، نفرح بها ننشط، وفين ما بغات لقصيده، نحط، رحالي، تعرفني على ناس، تشربني كاس، نفاجي عليها، تفاجي علي، شكون بحالي، انا ولقصيده، عشاق، ما نقدرو على لفراق، نسكن معاها ف الورقه لكبيده، روح، سكانه معايا ف الجسده، ك نبغي، نخليها، تقشر خاطري، والى عطشت، روحي نقطرها فيها، هي لي رميله، وانا بن غرله، صياد لمعاني، ما فيها باس، الى موت على كلمتي، باش نحيى تاني”
لكل قلعة مدخل ولكل مدخل بوابة ولكل بوابة كلمة سر، وكلمة سر بوابة مدخل قلعة القصيدة تكون مضمرة في عنوانها. ولكي نلج حدود أسوار قلعة قصيدة الشاعر الزجال حفيظ اللمتوني المعروف في الأوساط الشعرية بسلطان الما، والتي وسمها ب “شكون بحالي” وهي ضمن مجموعة كناش وسمه الشاعر ب “شي …” يقول الأستاذ عمر نفيسي علينا أن نفكك شفرات عنوانها لأنه مفتاح تأويلي. وهو مركب من لفظتين أنتجتا سؤالا مرتبطا بأنا الذات الشاعرة أو ما يصطلح عليه بالأنا الشعرية … وهنا تنبعث رائحة الإغواء والإيحاء من العنوان الذي هو مبتدأ النص ومبتدأ التحليل والتأويل. هذه الرائحة التي تشي بأن النص يبرز حقيقة الشاعر من خلال سؤال الذات المنبني على نهوض إمكانية التفرد الشعري لدى الأنا الشعرية. لتمنحنا سلطة النقد في أن ندرج النص ضمن خطاب سؤال الذات . ونعود لعنوان النص المركب من لفظتين اللتان انبنى على تركيبهما سؤال الذات “شكون بحالي” / شكون ..؟ – من..؟/ بحالي… مثلي / شكون بحالي : تركيب اللفظتين يحيل إلى قلق في السؤال أي قلق السؤال أو سؤال القلق وقد نجد فيه تارة تباهي وتارة سؤال الوجود الذاتي … شكون بحالي ..؟ مغمورة بالعزة والتباهي والترميز للقدرة /وشكون بحالي مثقلة بسؤال الوجود وعلاقة ضرورية بالوعي والتفكير وخيط رفيع بينهما يتجلى في الإحتفاء بالذات وعواطفها وهواجسها .
وسلطان الما الشاعر الزجال الماكر ها هنا، – يضيف عمر نفيسي – يورط الإستقراءات والإستنباطات ويفر متقدما ومخلفا آليات النقد تركض وراءه عندما افتتح قصيدته بسؤال وقلت افتتح لأنه وضع السؤال على عتبة النص محاولا الإنفجار مندالبداية وشد الإنتباه وتوجيه النص وفق ما يقتضيه السؤال من أحوال شعرية وأسلوبية . وقيمة السؤال تظهر من أداة الإستفهام التي وظفها الشاعر وهي (شكون..؟) وهذه الأداة الإستفهامية لها قيمة شعرية زجلية ارتكزت عليها كبريات القصائد الزجلية التي اختلقت ضجة في أوساط الشعراء والنقاد في زمن التأسيس الشعري الزجلي ونخص بالذكر والتذكر ديوان : “شكون طرز الما”..؟ للشاعر الزجال الرائد أحمد لمسييح … الذي يتقاسم معه الشاعر الزجال الطبيعة المائية . فلقب الشاعر / سلطان الما ودلالة الألفاظ المتصلة بالماء تجدها واضحة ومميزة وأساسية في زجل حفيظ اللمتوني حيث نجد في النص الذي بين أيدينا ستة ألفاظ متصلة بالماء …نعوم / نغسلها / الشط / تشربني / اعطشت / نقطرها / ما لفهامة / … كما للماء دلالات عميقة في شعر حفيظ اللمتوني تضفي على القصيدة الحديثة ملامح تجديدية تحيلك لاقتحام جنات النشوة والإنتشاء كمتلقي وهي متعة ومتاع للشاعر حتى إنه يفرض سلطته وحرصه وحراسته على ملوية في العديد من قصائده وملوية هي نهر دائم الجريان في إقليم الشاعر. وهذا الحضور اللافت للماء في شعر حفيظ اللمتوني، يحيل المتلقي على خصوبة الحياة وحياة الخصوبة .
“نلوي الليل فوق راسي عمامه، وندير فكاري نجوم تلالي، نلبس بياض القمره فوقيه، نحزمها ب هبالي”.
حفيظ اللمتوني الشاعر المرتبط طبيعيا بأحد عناصر الطبيعة الذي يمنح الحياة وهو الماء / ، يجوب أقطار الكون عبر شعره ليعيد تشكيلته شعريا فيطوي الليل ويلويه حول رأسه كالعمامة، ويدير إدارة أفكاره لتحقيق نظام النجوم المتلألأة ويجرد القمر من بياضه ليرتديه ك قماش فوقي وفي ختام احتفائه بزينة ذاته عبر كسوتها بأساسيات وجود عناصر طبيعية . يوثقها بجنونه /نحزمها بهبالي/ وأي جنون إنه جنون الشاعر الذي يبقى دائما مختزلا في شعره عندما يرى أن العالم الذي يتخيله أكثر صدقا وواقعية من العالم الذي يعيشه ..
فهذا المقطع الشعري يعبر عن ترتيب أفكار الشاعر حفيظ حسب ما يراه واقعيا من زاوية هبله هذا الهبل الذي لطالما منحوه شعراء الزجل لقبا لما يكتبون من جنون … ونستحضر هنا بعض أشعار الزجالين التي تفيد في هذا المضمار أحمد لمسييح “ماشي وحدي عاشق ماشي وحدي معشوق، لكن… أنا وحدي اهبيل يكفيني ف العشق نكون ف حماقي مالي مثيل.” راه لهبال ارحم هكذا ود الشاعر الزجال حفيظ اللمتوني الگرسيفي أن يظهر للمتلقي أن تعامله مع تلك العناصر الطبيعية المذكورة في مقطع قصيدته كلها هو تعامل تقني شعري لأن هبله الشعري هو محرك إلهامه والصورة التي جمع فيها هذه العناصر وناور بآلياته الشعرية ليصل بها إلى هذه الدهشة قد أتاحها له هذا الهبل الشعري الذي بين يديه خيوط التحكم فيه .
هذا من جهة .أما من جهة تقنية الكتابة الشعرية ف الشاعر الزجال سلطان الما ظل لا يشبه أحدا في بنائه لصوره الشعرية إذ نقول أنه واكب التجديد وظلت صوره الشعرية كذلك تعكس بدورها أفكاره ونظرته إلى الحياة والإنسان والكون واعتمد في بناءها على الدهشة والخيال الخصب الذي يهيئ المتلقي لقراءات متعددة ومفتوحة بعد أن يعنف تلقيه وهو يترصد تصويرها ومقاصدها . فالصورة الشعرية التي بين أيدينا وهي الزاخرة بالإنزياحات تجعل المتلقي منبهرا وهو يترصد تفاصيلها البنائية. “نلوي الليل فوق راسي عمامه، وندير فكاري نجوم تلالي نلبس بياض القمره فوقيه، نحزمها ب هبالي”.
الفقرة او المقطع الشعري يشكل صور شعرية مفردة … نلوي الليل فوق راسي عمامة/وندير فكاري نجوم تلالي/ نلبس بياض القمرة فوقية/ نحزمها ب هبالي . وكل صورة من هاته الصور تجعل المتلقي في عوالم من المتاهات يدخلها فيستعصي عليه الخروج وهنا يتعرض الى عنف في التلقي … هذا الشاعر يقحم المتلقي في عوالمه الصعبة التضاريس ويغلق عليه أبواب المتعة بلا شفقة . وعند تركيبه للصور المفردة لتهييئ نفسه للولوج إلى الصورة المركبة يجد نفسه متأثرا بالدوران نتيجة التيه داخل المتاهة القبلية . وهكذا تستمر متعة التيه لحين استكمال القراءة والوصول إلى الصورة الكلية التي تشمل كل القصيدة .
اللغة لدى حفيظ اللمتوني لغة شعرية تمنح النص حق الإنتماء لمملكة الشعر…لأنها منتقاة بعناية وفي هذا المقطع يُنَظِّر الشاعر لجودة لغته / نسوك لغتي / نحرگس كلمتي /تزيان حروفي … فالإختيار بعناية لكلمات لغة الشاعر تتجلى في إخضاع اللغة لحصص الزينة /وتزيان حروفي /حيث أن الحروف تُكَوِّنُ الكلمة والكلمات تكون اللغة … لي طالعة من القلب بلا رعدة، مجردة من خوفي. نعم لقد صدق الشاعر وهو يصف لغته المنبعثة من القلب في إيحاء لموقع القلب أنه في أعماق دواخله . واللغة هي وسيلة للغوص في أعماق النفس الإنسانية للكشف عما يخالج نفسية الشاعر من أحاسيس مختلفة. حيث ترك لها قيمتها الإبداعية المرتبطة بالإلهام عندما أزاح عنها قدسية الوحي التي قد يحيلنا السطر / بلا رعده / مجرد من خوفي/ إلى الحالة النفسية التي تنتاب المستقبلين للوحي من أنبياء الله . قد أكون خافقا في هذا الإستقراء وقد يكون الشاعر الزجال يود في استعماله للفظة الخوف والرعدة أن يشير الى العمق الذي طلعت منه كلماته حيث يكمن في آخر موضع من غيابات ذاته متحديا لخوفه . “نكحل عينيها لا يعميها بياض الورقه، نغسلها ب ما لفهامه تتسامى، هي ها كدا زجالي مره، مره لا زمني نتسارى فيها نتساوى بها”. القيمة الإبداعية لايمنحها أحد للشاعر إلا هو …ف الشاعر عندما يؤمن ويتق في إبداعه يمنحه قيمة مضافة .
والشاعر الزجال حفيظ الگرسيفي لا ينتظر من النقد أن يعلق النياشين لإبداعه، فقد أبدع تركيبة تجويد لإبداعه حيث بدأ باللغة وقام بتزيينها لتكون مؤهلة للإبداع وهاهو يمارس حراسته على الإبداع نفسه كي يجوده فبدأ بتكحيل عين القصيدة . نكحل عينيها لا يعميها بياض، الورقه وفعل التكحيل هنا يفيد التهذيب والإستعداد والخوف من الإنزلاق في أي منزلق لا يليق بقصيدة شاعر زجال من طينة حفيظ الذي لايرضى لقصيدته أن تخلق عمياء. نغسلها بما الفهامة، والغسل المفروض على جنس القصيدة يسمى التشديب الذي يزيل الأوساخ الأسلوبية منها حتى تكون جاهزة للتقديم بين يدي القراء تتسامى هي ها كدا زجالي. هكذا هي أشعار حفيظ عندما تصبح ذات قيمة إبداعية عالية / هي ها كدا زجالي / . لاحظوا معي المراحل التي قطع الشاعر الزجال حفيظ بقصيدته لتصل إلى المتلقي وهو مطمئن النفس واثقا من إبداعه ومن قيمته … ولاحظوا كذلك هذا السفر الذي أجبرنا على مرافقته الشاعر الزجال سلطان الماء ألا يشبه سفر الماء في تدفقه وإن قطعه لتضاريس وعرة وهو يصارع آليات الكتابة بدرجة وعي عالية من أجل كتابة نص موثوق يشبهه في لمعان سمرته وخفة ظله ورقراق مائه . “ندير يدي ف يديها، فين ما بغات نديها نتمشاو على الشط، نفرح بها ننشط، وفين ما بغات لقصيده نحط، رحالي تعرفني على ناس تشربني كاس
نفاجي عليها تفاجي، علي حفيظ اللمتوني الكائن المائي يحتفي بقصيدته جسدا فتفرح به وهي تمنحه السعادة … ندير يدي فيديها/ فين ما بغات نديها/ نتمشاو على الشط/ نفرح بها وننشط …
عندما يلصق الشاعر يده بيد القصيدة واليد من أطراف الجسد هنا يمنحنا التأويل الحق في توصيف قصيدة اللمتوني بالقصيدة الجسد حيث يطل علينا هذا التوصيف من خلف أسطر النص ومن صدا التعبير الشعري ، فين ما بغات نديها . طبعا… فعندما قلنا أن القصيدة لدى حفيظ جسد لا يستطيع إخفاء معالمه في شعره وشعريته .فكيف يستطيع إخفاء جسد منبعث من جسد الذات الشاعرة شكون بحالي انا ولقصيده عشاق ما نقدرو على لفراق نسكن معاها ف الورقه لكبيده روح سكانه معايا ف الجسده ك نبغي نخليها تقشر خاطري والى عطشت روحي نقطرها فيها شكون بحالي … الشاعر الزجال يكرر السؤال الذي فتح به أبواب التلقي حيث أن رأس النص دهشة تنتاب المتلقي من حس الإغواء الذي ابتلى به الشاعر هذا المتلقي في المبتدأ ولم يتوان في إغوائه وهو يستعد لتذييل نصه حتى إذا غادر الشاعر ل متردم./ظل المتلقي بدار النص متوهم … يتوهم هذا المتلقي أنه لن يخرج من متاهة النص… ويبقى داخل النص يصارع الإفلات من فخاخ الشاعر . “انا ولقصيده عشاق ما نقدرو على لفراق نسكن معاها ف الورقه لكبيده روح سكانه معايا ف الجسده ك نبغي نخليها تقشر خاطري والى عطشت روحي نقطرها فيها، صَبُّ هذا الشاعر حد الجنون … لا يطيق فراق قصيدته فيصور لنا أن قصيدته تكتبه قبل أن يكتبها وهما روح مزدوجة / لكبيده/روح/ والى عطشت/روحي نقطرها فيها . أي صبابة عشق هذه التي تجاوزت الذات وتعلقت في الروح
إن هذا الشاعر الزجال وأسطر على لقب شاعر زجال قد أتى القصيدة الزجلية شرعا من حيث أمر الشعر فلقد نال تأشيرة دخول مملكة الشعر عن جدارة واستحقاق / حاضر في مصارعته لآليات الكتابة الشعرية الزجلية مبنى ومعنى… فخصوبة التخييل جعلت النص يغتني بكل خصائص الكتابة الشعرية من البعد الرسالي إلى وحدة الموضوع والإيقاع والأسلوب البلاغي والصور الشعرية الجميلة الماتعة . وأشياء تقنية أخرى سبق وأن ذكرناها …” هي لي رميله وانا بن غرله صياد لمعاني ما فيها باس الى موت على كلمتي باش نحيى تاني أي صبابة عشق هاته تتقطر من شاعر زجال، وأي سطوة حب هاته تسطو على قلبه المنهك بالحب والتذفق والبدل .. ؟ ففي هذا المقطع جال الشاعر في دوحة التاريخ المغربي وتوقف في القرن الحادي عشر ميلادي أو القرن السادس هجري ليستحضر لنا قصة الزجال بن غرلة ومعشوقته رميلة أخت السلطان عبد المومن بن علي الگومي الموحدي، هذه القصة التي أدت ببطلها الى حبل المشنقة مضافا الى لائحة العشاق التاريخين … وهو نفس المصير المؤلم والمفجع الذي لقيه الشاعر الجاهلي المنخل اليشكري، والشاعر وضاح اليمن على يد الملك النعمان بن المنذر والخليفة الوليد بن عبد الملك، وقريبا من نفس المآل الذي كاد ان يلاقيه المتنبي بعشقه لخولة اخت سيف الدولة الحمداني وغيرهم كثير… وهذا اللمتوني ايضا قد أعلن عن استعداده لتلقي مصير هؤلاء الشعراء، لو قدر على قصيدته أن تكون بنت سلاطين متجبرين، ويعتبر موته من أجلها حياة جديدة خالية من البؤس و البأس.
عمر نفيسيي .. كاتب