تازة : أي أثر من أجل أي حديث موضوعي عن زمن المدينة الروماني..
تازة بريس
عبد السلام انويكًة
صدق من قال منذ فترة أن من كتب تاريخ المغرب، هواة دون تأهيل وعسكريون تظاهروا بثقافة، وجغرافيون بأفكار براقة لا غير ومؤرخون بلا تكوين لغوي وأركيولوجيون دون تأهيل تاريخي. كان هذا يحيل على ذاك ويعتمده ومن ثمة حبك خيوط دون موضوعية للأسف، فيما عملوا على فرضه رغم أنه مجرد فرضيات. هكذا تم تناول أزمنة وأمكنة المغرب هنا وهناك، وهكذا حصلت دراسات ظاهرها معرفة علمية وباطنها ليس سوى شرعنة وقائع.
وغير خاف عن باحثين متخصصين هادئين، أن زمن المغرب القديم كان وجهة نبش أوربيين، منهم خاصة الفرنسيين سواء قبل أو بعد فرض حمايتهم على البلد. هذا ضمن غايات محددة من جملة ما استهدفت ضمير البلاد الاسلامي عبر ايحاء باحتمالية زواله، فضلاً عن تذكير بما كان من مسيحية منتشرة هنا وهناك لتجديد عمل تبشير ومن ثمة أوراش سياسة واقتصاد ومجتمع وثقافة وغيرها، ناهيك عن اعتماد ما هناك من حديث عن إرث روماني عبر إثارته لإضفاء شرعية على عمل استعمار.
ولبلوغ منشودها أقدمت السلطات الفرنسية من خلال اقامتها العامة بالمغرب، على إحداث مصلحة خاصة بتاريخ البلاد القديم نهاية العقد الثاني من القرن الماضي، وتم تكليف هذه المصلحة بحفظ معالمها الأثرية وبقاياها عن فترة ما قبل الاسلام. مع تكليفها لباحثين دارسين بأعمال تخص ما هو أثري قديم بالمغرب، وهو ما زاد الاهتمام به أكثر من قِبل ليوطي طيلة فترة ما عرف بالتهدئة حيث حصل ما حصل من تقارير ومن ثمة نصوص. ولا شك أن جمع معطيات حول تاريخ المغرب القديم أواخر القرن التاسع عشر، ارتبط بجهود دارسين فرنسيين إنما أيضا بأسئلة فرنسية آنية آنذاك استهدفت استنطاق ماض وتهيئة حاضر وسبل بحث عما يبرر احتلال بلاد.
هكذا تجندت دراسات فرنسية صوب تاريخ المغرب القديم وخاصة فترته الرومانية، من أجل رصد بقايا أثرية مادية وطوبونيمية قصد شرعنة الغزو الاجنبي للبلاد، وهو ما بات واضحا في حجم ما تم تجنيده من أقلام وجمعيات ومجلات، انفتحت على مواقع جمعت بين مدن وبوادي لبناء مرجعية سياسية وثقافية خدمة لمشروع استعماري. ولم تكن فرنسا لتحقق ما بلغته خلال هذه الفترة الدقيقة لولا ما أسهمت به دراسات وما أسهم به دارسون، بدليل ما أحيط به ما تم تناوله وانتاجه حول تاريخ البلاد من عناية آلة عسكرية. يكفي أن مهمة هؤلاء الدقيقة اتضحت فيما أورده مثلا الرحالة الفرنسي”ادمون دوتي” عندما قال ما يفيد، أن بقايا وليلي الأثرية هي بصمة ماض وأن خمسة عشرة قرنا من الوحشية لم تستطع محو هذا الأثر.
وقد جاء حديث هؤلاء عن المغرب في تقاريرهم كإرث لسلفهم، علما أن الوجود الروماني خلال هذه الفترة من زمن البلاد الغابر هو بتعقيد شديد. وإذا كان الاهتمام الأجنبي عموما بتاريخ المغرب الروماني قد بدأ مع نهاية القرن التاسع عشر، فإن ما تراكم من تقارير ودراسات اقتصر على نشاط سياسيين وعسكريين ومبشرين لا غير. وهو ما يعني كون هذا الورش البحثي بين قوسين جاء في سياق مشروع استعماري، وعليه، ما كان من ربط بين احتلال قديم وآخر جديد مع اعتبار استعمار البلاد بمثابة إرث رومان.
وكان اضفاء الشرعية على العمل الاستعماري وربط الماضي الروماني بالرهان الفرنسي، هاجس المكلفين من الدارسين وهو ما جعلهم يجمعون كل ما يخص هذه الفترة من معطيات على مستوى مناطق عدة بشمال البلاد، لعل منها تازة التي ورد حديث عن معالم بها قيل أنها رومانية الأصول، منها قنطرة أسفل جرفها الغربي حيث “باب الريح” على واد الهدار، الى جانب طبع أماكن محلية بأسماء من قبيل “كًرن النصراني” وهو مرتفع جبلي مقابل لتازة بنفس علوها من جهة الغرب، فضلاً عما ورد من اشارات عن عمارة قيل أنها رومانية قديمة شمال ممر تازة ناهيك عما جاء حول قنطرة أخرى على واد بوحلو. علما أن علاقة الرومان بالمنطقة وبهذا الممر الذي يصل شرق المغرب بغربه، لا يزال موضوعا نفاش على درجة من الخلاف بين متخصصين في غياب ما يثبت من الوجهة الاركيولوجية.
ولعل من نصوص الفرنسيين خلال فترة الحماية حول تازة، واحد بمثابة تقرير وضعه “فوانو”، جاء بعنوان غير شاف ولا منسجم في علاقته بمحتواه، متحدثا عن فرضية وجود روماني بالمدينة من خلال عملة نقدية برونزية، قال أنه تم العثور عليها بثكنة “جيراردو” العسكرية.( وهنا السؤال حول لماذا بالضبط في هذا المكان وليس في موقع آخر). وما قيل حول هذه العملة يجعلها وثيقة يتيمة اعتمدها لإثارة ما قد يكون حصل من احتلال أو عبور أو مرور لفترة ما، وهنا سؤال باحث ومهتم معاً حول أين هي هذه العملة وأين هو هذا الأرشيف الذي لم يظهر له أثر، ولماذا بتكنة عسكرية وليس مكانا آخر حول الموضوع.
يذكر أن مؤلف “فوانو” هذا يدخل ضمن وثائق مكاتب ما عُرف على عهد الحماية بالشؤون الأهلية ذات الطبيعة الأمنية، ولعلها تقارير ودراسات أنجزها هنا وهناك عدد من الفرنسيين المدنيين والعسكريين عن الادارة الاستعمارية ودواليبها. وكغيره ممن توجهوا بالعناية لمجال التعرف على المغرب لأهداف محددة، كان “فوانو” شغوفا بمعرفة تاريخ البلاد، فضلاً عما كان عليه من تناغم مع عقيدة عسكرية فرنسية وانضباط لأهدافها، تحركه رغبة إسهام في تحقيق مجد فرنسي فيما وراء البحار.
إن ما جاء في نصوص عسكريين فرنسيين حول زمن المغرب القديم كما عند “فوانو” وغيره مثل “كمباردو”في علاقة بتازة، بقدر ما يدل على فعل )بحثي) بالمغرب بدأ مع فترة الاستعمار مطلع القرن الماضي، بقدر ما طبعه من خلفية لشرعنة عمل احتلال. واذا كان ما هو اركيولوجي خلال هذه الفترة قد ارتبط بحملات تعرف واسعة، فإن ما أنجز على إثره من دراسة حول معالم أثرية أثارت درجة موضوعيته جدلا معبراً. خاصة وأن بعض من أثث هذا الفعل البحثي من الفرنسيين، لم يخف ما كان عليه من دعاية استعمارية باحثا عما يدعم حق فرنسا في المغرب كوريث لروما، وعليه ما احيطت به هذه الفترة من عناية مقارنة بأخرى.
يذكر أن عدداً من الباحثين المغاربة المتخصصين المتمكنين من هذه الفترة التاريخية، تجندوا منذ ثمانينات القرن الماضي لقراءة زمن المغرب القديم خاصة منه فترته الرومانية وفق ما ينبغي من نهج علمي وتوثيق. مع أهمية الاشارة الى أن ما بلغوه وما حصل من تنقيب وتراكم ومن ثمة نصوص في هذا الاطار، بقدر ما طبعته اعتبارات ذات طبيعة أكاديمية استهدفت سبر أغوار ما احتوته هذه الفترة من وقائع وامتداد مجالي وتجليات مادية ولا مادية، بقدر ما جاء لوضع أعمال دارسين أجانب لم تكن بمسافة بينها وبين ما هو ايديولوجي تحت المجهر.
ورغم ما سجل من قبل هؤلاء حول أبحاث ودراسات وتقارير أجنبية توجهت بعنايتها لزمن المغرب القديم، تبقى في اعتقادهم بقيمة معرفية لِما أسهمت به من تعريف به بحديثها عن آثاره الشاهدة على مستوى مواقع ومدن عدة. بل كانت بفضل فيما أصدرته السلطات الفرنسية من ظهائر وقوانين حامية لمباني البلاد الأثرية منذ السنوات الأولى لنظام الحماية بها. ولا شك أن هذه الفترة من تاريخ المغرب ظلة مجهولة وبغموض شديد الى غاية ما حصل من التفات أجنبي، علما أن الدارسين الأوربيين بقدر ما توجهوا بعنايتهم لمخلفات أثرية رومانية بالمغرب، بقدر ما استهدفوا كشف واستثمار إرث لتحقيق علاقة بين ما هو روماني قديم وفرنسي استعماري حديث.
وحول زمن تازة القديم مقابل ما تمت الاشارة اليه حول معطيات لم تكن بما ينبغي من دقة عمل ونهج، هناك أعمال بحثية بقدر هام من قيمة مضافة وتنقيب ومن ثمة من موضوعية، خاصة منها التي تم إعدادها بعد فترة ما عرف بالتهدئة حتى استقلال البلاد، تلك التي منها دراسة قام بها الضابط “لافانيشير” بعنوان “مساهمة في معرفة فترة ما قبل التاريخ بناحية تازة”.
وعن زمن المغرب القديم عموما، كثيراً ما تم اعتماد اشارات غير دقيقة هنا وهناك في كتابات يونانية ولاتينية، خاصة ما تعلق بالفترة الممتدة بين القرن الثامن والأول فبل الميلاد. أما عن زمن تازة القديم فلا شك أنه يشكل جانبا مغمورا وجزءً هاما من تاريخها، ذلك أن موقع المدينة وممرها كان مجال حياة بشرية خلال أزمنة قديمة، مع أهمية الاشارة الى أن ما يهم هذه الفترة لا يزال ببياضات حقيقية معرفية، وأن من اشكالات البحث فيها اكراهات المادة العلمية، تلك التي تقوم أساسا على دراسة ما هو بقايا حيوانية ونباتية ومادية وحجرية، فضلاً عن معالم أثر بشري تفاعلي من أمكنة سكن وحركية وغيرها. وغير خاف عن متخصصين في المجال أن هذا عمل لا يمكن للباحث في التاريخ الالمام به ولا الغوص فيه، ذلك أنه مهمة أثريين وأركيولوجيين متمكنين مسلحين بنهج وعتاد خاص، وعليه، ما يفسر قلة أبحاث إن لم نقل ندرتها حول هذه الفترة مقارنة بأخرى.
وإذا كانت تازة قد خضعت لعمل بحثي أثري وأركيولوجي في كل الأحوال خلال العقود الأولى لزمن الحماية، فالسؤال هو ماذا عن صدقية ما تم بلوغه ذلك الذي ما لايزال متداولا بين باحث ومهتم ومتتبع، فضلا عن سؤال حارق آخر ومستفز ايضا يتعلق بدرجة التحيين والاضافة والإغناء. واذا كانت المدينة من أمكنة المغرب القديمة التعمير البشري، فهل هناك من معالم أثرية بشرية على حالها الأول، وأية فترات تطبع زمنها القديم، بل أية بدايات محددة يمكن اعتمادها والقول بها صوب هذا الزمن، وماذا عن تلاقح ما بتازة من أثر قديم???.
أسئلة وغيرها لا شك أنها ستظل عالقة الى حين ما ينبغي من عمل علمي شاف ودراسات متخصصة، من شأنها ليس فقط كشف ما يحتويه زمن المدينة تازة ومحيطها القديم من موارد رمزية ذات صلة، بل إغناء خريطة الرأسمال التاريخي المحلي وابراز ما هناك ربما من تفرد مادة رافعة لسبل تنمية، كذا لمكانة تازة في أفق تراث انساني.
عضو مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث