من أعلام جامعة مغرب أمس.. الأديب الناقد والسيميائي عبد الرحمن طنكول
تازة بريس
ضمن سلسلة أعلام طبعت بتجربتها ونهجها وخطها التحريري جامعة مغرب الأمس، واستحضارا لبعض بصمات وذاكرة ومدارس الجامعة المغربية هنا وهناك في هذا التخصص وذاك، تنويرا للناشئة وتحقيقا لما ينبغي من تلاقح بين سلف وخلف على هذا المستوى وذاك. ووعيا وتثمينا وعرفانا وابرازا لِما كانت عليه الجامعة المغربية من زخم فكر ونظر ونص وبناء وهيبة درس وروح طلب وانصات. يسر جريدة تازة بريس أن تتقاسم مع قرائها الأعزاء المحترمين داخل البلاد وخارجها، حوارا عميقا مفيدا معبرا كانت قد اجرته مجلة”العربي الجديد”قبل حوالي عقد من الزمن، مع الأستاذ الأديب عبد الرحمن طنكول أحد رموز وكاريزمات وهيبات الجامعية المغربية الى عهد قريب. ولعله إسم وفكر غني عن كل تعريف في الفضاء الفرنكفوني منذ سبعينيات القرن الماضي، ففضلا عن مساحة مواكبات واسهامات حيوية ومتابعات لجدل الأدب المغاربي المكتوب باللغة الفرنسية، هو أستاذ جامعي تقلد مهام بقدر كبير من الأهمية في الجامعة المغربية. فقد شغل منصب ومهمة عميد كلية الآداب والعلوم الانسانية-ظهر المهراز بفاس، ثم منصب ومهمة رئيس جامعة ابن طفيل بالقنيطرة، اضافة إلى رئاسته لبيت الشعر بالمغرب وعمله الدؤوب في ترجمة الشعر العربي والمغربي إلى اللغة الفرنسية، مع ما يسجل له من إصدارات في البيبليوغرافيا والنقد الأدبي والسيميائيات وغيرها، وهو الآن عميدا لكلية العلوم الانسانية والاجتماعية بالجامعة الارومتوسطية بفاس. وهذا حوار قيم اجراه معه الأستاذ محمد عبد الغني عن”العربي الجديد”، تسعد جريدة تازة بريس باعادة نشره، تعميما للفائدة ضمن سلسلة ارتأتها هيئة تحريرها حول أعلام جامعة مغرب أمس.
– الأستاذ عبد الرحمان طنكول: أنت أستاذ جامعي بشعبة اللغة الفرنسية، سبق أن سيرت كليات عديدة، منها تحملك مسؤولية عميد كلية الآداب بفاس، ورئيس جامعة ابن طفيل بالقنيطرة. ترجمت عدة مجموعات شعرية إلى اللغة الفرنسية، وترجمت إلى اللغة العربية دراسات في اللسانيات والسيميائيات. هذا إضافة إلى مواكبتك النقدية للأدب المغربي. إلى أي حقل تنجذب أكثر؟
ج : من الصعب على أي باحث أن يحدد هويته في مجال المعرفة بطريقة قطعية، خاصة أن البحث يقتضي الاشتغال في فضاءات ميزتها الأساس ارتباطها الشديد بالتخوم والتقاطع والتداخل. فالبحث في مجال النقد يجرك إلى مختلف تخصصات العلوم الإنسانية، كما أن دراسة الإبداع يفتح أمامك طرق الترجمة وسؤال الفلسفة. ولعله من الواجب التذكير هنا بأن التطور النوعي الذي حصل في المغرب، وفي كثير من البلدان، يعود الفضل فيه لهذا التوجه المتعدد الأبعاد الذي شكل قطيعة شبه نهائية مع الدراسات الكلاسيكية. وهو توجه تكمن قيمته الهامة في كونه يجعلك تكسر كثيرا من التابوهات. فعلى مستوى الدرس الأكاديمي لا تكتمل قناعتك بمسؤوليتك إلا حينما تشعر بأنك ملزم بتقديم الجديد، والارتقاء بطلبتك إلى آفاق التفكير النقدي المتنور ضمن عملية الأخذ والعطاء. وعلى مستوى العلاقات أو ما يسميها “غوته” “التواشجات الحميمية”، فإن العمل في إطار الانفتاح المتجدد، وربط الجسور بين المعارف لا يوفر لك فقط فرص التشبع بشتى أنواع القول، بل يقربك أيضا من فئة المحترقين بنار الإبداع. ولن أبالغ إن قلت إن مجال الاهتمام بالإبداع متّعني بكثير من الصديقات والأصدقاء عبر العالم، في الأدب والفكر والفن والسياسة والإعلام، والذين من بينهم صديقي المرحوم عبد الكبير الخطيبي. فمن خلال هذه العلاقات المباشرة وغير المباشرة كنت دائما أشعر وما زلت بأن الممارسة في مجال الأدب والفكر هي مصدر السعادة الحقيقية، لأنها غير مرهونة بثنائية الخير والشر ولا بشروط المصلحة والمنفعة. خارج هذا النطاق تبدو الحياة كغابة متوحشة يأكل فيها القوي الضعيف.
– واكبت بالدراسة والتأمل الأدبين المغربيين، الأول بالعربية والثاني بالفرنسية، مما جعلك من بين المقارنين المغاربيين لهذا الأدب. هل تقربنا من تطورات هذين الأدبين؟
ج: في نوع من المقارنة السريعة يمكن اعتبار التطور الذي مر به الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية غير بعيد عن التطور الذي مر به الأدب المغربي المكتوب بالعربية. ويمكن إجماله كالتالي: مرحلة إتنوغرافية، ثم مرحلة اجتماعية نقدية، ومرحلة تجريبية، ثم المرحلة الراهنة التي تحاول أن تجمع بين البحث في الأشكال وفي خبايا المجتمع وتصدعاته. بطبيعة الحال هناك اختلافات نوعية على مستوى التصورات والأساليب وميكنيزمات بناء “سرد الأمة” (بحسب مفهوم بول ريكور) من مرحلة لأخرى. وذلك داخل تراكم الإنتاج بالنسبة لكل أدب وأيضا بين الأدبين معا. لكن إذا تعاملنا مع الأدبين على المستوى الكمي، فإننا سنلاحظ أن الطابع الطاغي فيهما هو النزوع إلى حكي الذات وحكي المجتمع بلغة شفافة، وغالبا تقريرية، لا تستند إلى أي عمق أسطوري أو تخييلي. هذا مع التأكيد على أنه في الأدبين معا تبرز من حين لآخر أعمال متميزة لفتت اهتمام المتتبعين في المشرق والغرب. وفي اعتقادي هذا أمر عادي لأن الأعمال الخالدة عملة نادرة تتطلب جهدا شاقا، ما يتناقض مع ظاهرة التهافت على النشر في غياب أي وعي بالتحديات التي على الكتابة رفعها وتعميقها.
– إلى أين يميل طنكول، إلى دراسة كاتب بعينه أم إلى مقاربة التيارات؟
ج: منذ بحوثي الأولى في الجامعة لم أتوجه نحو الاهتمام بكاتب معين من دون آخرين. فما شد اهتمامي بالدرجة الأولى هو دراسة تيارات الطليعة، مثل التيار الذي نشأ وتطور مع مجلة “أنفاس” والذي شكل بالنسبة إلي إنجازاً لا يقل أهمية عن تجربة السورياليين في فرنسا وتجربة “شعر” في لبنان. وهذا ما دفع بي إلى الاهتمام بالمجلات كفضاء لتكوّن النخب وتبلور الأفكار والثورات الحاملة لها.
– وبالموازاة مع ذلك انشغلت كثيرا بدراسة قضايا وإشكاليات خاصة على ضوء بعض النصوص التي تلزمنا بطرح أسئلة غير مسبوقة بالنسبة لنظرية الأدب، على سبيل المثال قضايا ذات صلة بالمثقف، بالأدب والمعتقدات، بالكتابة والثقافة واللغة، بالصراعات بين القوى الفاعلة في المجتمع. بحيث لا يمكن في نظري أن نساهم في تطوير الأدب دون أن ننكبّ على هذه الجوانب، ربما هذا ما يساهم في تطوير الرؤية النقدية للدارس نفسه؟ كيف تنظر إلى تطور النقد الأدبي عموماً؟
ج: مما لا شك فيه أن النقد الأدبي تطور كثيرا في السنوات الأخيرة، وللإشارة في هذا الصدد فما يسمى بأدب ما بعد الاستعمار أو ما بعد الكولونيالية كان له الفضل في ذلك. إذ مكنت الدراسات التي انكبت عليه من أن تساهم في إثراء تيار ما بعد الحداثة، وبالأخص أن توطّن منهج الدراسات الثقافية عبر برادغمات (إبدالات) مختلفة كما نجدها عند بعض الدارسين الآسيويين والأوروبيين وفي أميركا الشمالية. ما فتح للنقد أبوابا جديدة للتعامل مع النص الأدبي بعد أن تبين أن المناهج البنيوية والشكلية على العموم لم تعد قادرة على سبر أغوار العلاقة المتشابكة بين الأدب والمجتمع. ومن جهة أخرى يمكن اعتبار النقد الذي توجه نحو الاهتمام بالأدب الرقمي وبالسير التخيّلية وبالبعد الفكري للأدب من بين اتجاهات النقد الهامة اليوم. غير أنه من اللازم التنبيه أيضا إلى بعض التجارب النقدية الحديثة والتي هي في طور النمو كالتي تدرس أشكال التعبير الصغرى (البراخيليا).
– اشتغلت أيضاً بترجمة العديد من النصوص الشعرية لمجموعة من الشعراء العرب والمغاربة. ما هي التحديات؟ لماذا ترجمة الشعر؟
ج: بالفعل قمت بترجمة بعض النصوص الإبداعية والنقدية لكن بشكل انتقائي ومن حين لآخر، بحيث لم يكن يندرج ذلك ضمن عمل مبرمج وفق أهداف معينة. وأعتقد أن هنا بالضبط تكمن إحدى هفوات الترجمة بالمغرب في غياب مؤسسة توجه هذا العمل نحو أولويات مرتبطة بحاجات المجتمع إلى خصوصيات بعينها في مجال الإبداع والمعرفة. ومع ذلك أعتبر الترجمة رافدا من الروافد الأساسية لبناء الحضارة وتحقيق التنمية. وبالنسبة إلي حان الوقت لإعطاء الأولية لترجمة الشعر لكونه بامتياز مفتاح الولوج إلى مكامن الروح الإنسانية. وفي هذا التصور نوع من “استعجال الشعر” والنهوض به من أجل صياغة قيم كفيلة بتجاوز أشكال التدمير التي تهدد العالم.
– هل تعمل على مشروع في المستقبل؟ منذ مدة لم تنشر ما أنت منكب على تهييئه؟
ج: فيما يخص مشاريعي المستقبلية فهي كثيرة منها المكتوب بالعربية والمكتوب بالفرنسية. وستأتي المناسبة للحديث عنها بتفصيل مع بداية ظهور بعضها. وأول ما سأقوم به هو تجميع عدد من الدراسات المنشورة في مجلات دولية أو كتب جماعية لا يعرفها الكثير وتقريبها من القارئ. وفي السياق ذاته ستصدر بالتأكيد أعمال لم يسبق لها أن ترى النور.
– كنت دائما تدعو، من خلال كتاباتك او محاضراتك في الجامعة، إلى ضرورة الربط بين الفكر والأدب، هذا صحيح إلى حد بعيد، لكن ألا يمكن الدعوة إلى رفد الفكر بالأدب؟
ج: الكل يعلم أن علاقة الأدب بالفكر علاقة وطيدة والعكس صحيح، غير أن الفرق بينها هو أن الأدب أكثر احتضانا من الفكر لشتى أنواع العلوم والمعارف والفنون. فالأدب كما يقول رولان بارط، في الدرس الافتتاحي الذي ألقاه عند التحاقه بالكوليج دي فرانس، موسوعي بامتياز. إننا نجد فيه التاريخ والجغرافيا والحضارة والمعمار والدين والفلسفة… ولهذا نلاحظ أن أجناسا أدبية عدة أحدثت من أجل الإحاطة بثراء الأدب وتشعب مسالكه وأنماطه. وكمثال على ذلك أدب الرحلة والرواية الفلسفية والشعر الملحمي والرواية التاريخية، إلخ. ما يدل على أن الفكر كباقي الأنشطة الذهنية المختلقة تمتح من الأدب وتتغذى من معينه. وبالتالي يمكن الحديث عن إمكانية التنظير لفكر أدبي. وهو في الواقع موجود وقائم الذات، وكدليل على ذلك نصوص نيتشه الأدبية وسارتر وكامي وغيرهم كثر. ولعل أكبر قيمة مضافة للأدب بالنسبة للفكر أنه يمده بلغة المجاز التي تسمح باختراق كل الحواجز والممنوعات ليعانق بحرية كل ما يتناوله من قضايا. فالفكر في حاجة ماسة للجمالية التي تخلصه من المقولات الجامدة. فلننظر مثلا إلى فلسفة مارتن هايدغر ونلاحظ مدى ارتكازها على شعر هولدرلين وروني شار. كما أن تيار فكر ما بعد الحداثة التفكيكي استفاد كثيرا من نصوص رامبو وملارمي ولوتريامون المخلخلة للدوغما… وإذا نظرنا مثلا إلى ما يسمى بالفكر المتشدد سنلاحظ بأنه خال من أي حس جمالي. فلا غرابة أن يبيح المساس بالروح وبالحق في اختلاف.
– ما هي وضعية الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية اليوم، خصوصا مع ظهور أدباء جدد ينشرون أعمالهم في أكبر الدور الفرنسية؟
ج: كما سبق أن أشرت فهذا الأدب يزداد تراكما في الوطن وفي أوروبا، ملامسا مواضيع عدة لها صلة بما يحدث داخل المجتمع المغربي وخارجه. كمواضيع الهجرة غير الشرعية والإرهاب والميز العنصري والتفاوت الطبقي، وعلاقة الرجل بالمرأة، ومظاهر العنف والشذوذ الجنسي، واستغلال الدين والسلطة… هناك مما لا شك الغث والسمين في هذا الأدب الذي نشأ مع الجيل الثالث سواء عند الإناث أو الذكور من الكتاب. ويبدو لي، وبحسب رأي كثير من النقاد، أن الأديبات والأدباء الذين استطاعوا وضع بصمة خاصة في الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية هم الذين تمكنوا من لفت الانتباه إلى أسلوب نوعي في التناول والأداء. قد أسوق من بينهم على سبيل الإشارة فقط: السخرية الماكرة التي انفرد بها فؤاد العروي، والفضح اللاذع الذي يتبناه في نصوصه ماحي بنبين، وعنف الكتابة الذي طبع به محمد حمودان في أعماله الشعرية، وسردية الحفر في ذاكرة الجسد التي نهجتها بهاء الطرابلسي وكذلك ثوريا أولهري، وشعرية البهاء والقول الرفيع التي ارتقى بها حسن وهبي إلى الأعالي، والتوجه الصوفي الذي استثمرته رجاء بنشمسي في متنها السردي… أعتقد أن مثل هؤلاء الكتاب وجدوا طريقاً مغايراً لخلق أفق انتظار جدير بالاهتمام، وهم يمثلون بذلك نقلة لافتة في الأدب المغربي على العموم. ففي غياب وعي بالبحث عن شكل معين إن على مستوى البناء أو التعبير لا يمكن أن نتحدث عن كتاب أدب وإنما فقط عن ما يسميه رولان بارط “الكتاتيب”. وللأسف ما أكثرهم من بين الذين يكتبون بلغة أجنبية، ربما اعتقاداً منهم أنه يكفي الكتابة بهذه اللغة لاكتساب الشهرة والاعتراف من قبل النقاد. وهم بذلك يجهلون بأن الكاتب الحقيقي هو الذي يروم خلق لغة داخل اللغة.
– أعود بك إلى قضية سبق أن تناولناها، أنت ترجمت العديد من الشعراء من العربية إلى الفرنسية، ما هي خصوصية ترجمة الشعر؟
ج: الترجمة، أقولها مرة أخرى، قنطرة نحو العبور إلى أسرار القول وما يكتنفه من فكر وحضارة. وترجمة الشعر بخاصة هي التي تتيح هذا العبور في شتى صوره وأشكاله. وهي في نظري، بالرغم من صعوبتها، مصدر متعة غير متناهية. ولهذا نرى الشعراء، بالإضافة للذة التي يجدونها في كتاباتهم، يبحثون في الترجمة عن أحاسيس أخرى مولدة لطاقات مجددة وخلاقة. في ضوء هذا الطرح يمكن أن نفهم الإغراء القوي الذي تمارسه الترجمة على المبدعين والنقاد والفلاسفة. إذ القاسم المشترك بين كل هؤلاء تشبعهم بضرورة الانفتاح على عوالم اللغة والإقامة في فضاء البين بين، كفضاء تقاطع الوجود والعدم، البياض والسواد، الكلام والصمتّ… ولهذا غالبا ما ينظر إلى الترجمة الشعرية بكونها إنتاجاً نصياً غير مشروط بما يسمى بالأمانة والصدق والإخلاص للأصل. فالأدب بصفة عامة، ينبغي أن نذكر بذلك، لا يخضع لمثل هذه الضوابط لأنه لا يروم محاكاة الواقع أو تصويره بقدر ما يسعى لخلق عالم مغاير. ألم يكن حلم الشاعر ملارمي هو كتابة مؤلف يحتضن العالم كله. نفس الحلم راود أيضا في المغرب شعراء مجلة “أنفاس” (عبد اللطيف اللعبي، مصطفى النيسابوري، محمد خير الدين). فعلى هذا الأساس يمكن اعتبار الترجمة الشعرية بأنها ترجمة تنطوي على رغبة خفية في الإلمام بما هو متعدد في الوجود وتمكين القارئ من اكتشافه. فلولا الترجمة ما كان للقارئ العربي الذي لا يقرأ بالفرنسية مثلا أن يتعرف على صور الشعراء الفرنسيين وعما يخالجهم من مشاعر ووشائج وعواطف إزاء الحياة والحب والموت، تجاه تجليات الطبيعة ومكامن الميتافيزيقا. كما أن الترجمة تحفز في كثير من الأحيان إلى العودة إلى اللغة الأم، والوقوف عند صيغ للقول ليست متداولة رغم ما تنم عنه من عمق وخصوصية. بالإضافة لكل ذلك تمثل الترجمة أحسن وسيلة لقراءة النصوص واستيعابها على أكثر من صعيد. فهي تقتضي التعامل مع النصوص، قبل القيام بأي تأويل تمهيدي، في بنائها المعجمي والتركيبي والدلالي. إن هذا العمل المتأني يجعلنا نلامس عن قرب القيمة الحقيقية لبعض النصوص التي قد تبدو سهلة للوهلة الأولى لكنها من الصعوبة بمكان. لذا أعتبر أن المدخل الأساس للنقد هو الترجمة.
– كيف ينظر عبد الرحمان طنكول للجامعة المغربية وللثقافة المغربية والعربية اليوم؟
ج: توجد الثقافة في المغرب، وفي العالم العربي عموماً، في حالة من التحول السريع الذي يلزم التفطن إليه. فهي على عكس ما تعرفه الدول، من تمزق وتصدع أو اضطراب في بناء سياسات عمومية تخدم النمو والتنمية، تسير بوتيرة تؤهلها لرفع كثير من التحديات. ويمكن تأكيد ذلك من خلال الوقوف عند ما نلاحظ من تطور ملموس فيما يهم عدد المؤسسات الثقافية الخاصة: مراكز للدراسات والبحث، مجلات، مواقع إلكترونية للإبداع والتواصل، قنوات إذاعية وتلفزيونية… وبحكم أن هذه المؤسسات جدّ متنوعة فهي تخاطب مختلف الفئات في الوطن العربي عبر مواقف إما تقدمية أو لبرالية أو معتدلة. إن هذا التنوع في الخطاب والموقف يساهم، أبينا أم لا، في بناء المجتمع الديمقراطي الذي نريده ونسعى إليه. فعلينا ألا ننسى، رغم الانتقادات التي وجهت للمثقف العربي هنا وهناك، أن الثقافة في بلداننا كانت وراء الوعي الحاد الذي فجر الحراك الذي هز كثيراً من الأنظمة. وإذا اعتبرنا أن الثقافة هي إبداع بالدرجة الأولى، فالإبداع العربي حاضر على المستوى الدولي من خلال معارض الفنون مثلا ومهرجانات السينما والترجمة التي تنشرها الدور الأجنبية. نعم ليست لدينا أعمال بارزة عالميا ولم نستطع لحد الآن فرض توجهات إبداعية معينة وتيارات فكرية تجعل الآخر يتبناها ويشتغل في أفقها. وهنا مما لا شك فيه يكمن ضعف الثقافة العربية. لكننا نعرف أسباب ذلك، والتي على رأسها انعدام استراتيجية ثقافية في البلدان العربية تقوم على إحداث البنيات الثقافية الخاصة بالإنتاج والتوزيع والدعم والتنمية. إن العقل العربي عقل مبدع بامتياز، والدليل على ذلك أن جل المبادرات الهامة في البلدان العربية هي مبادرات فردية أو جماعية لا حضور للدول فيها. ولقد كان لنا في المغرب مثلا خير نموذج على ذلك تجربة مجلة “الثقافة الجديدة” التي قادها الشاعر محمد بنيس، والتي حوصرت ومنعت عندما بلغت أوج تألقها. للأسف أن الدول لا تتدخل غالباً إلا لحصر التجارب الجريئة وقمعها وإسكاتها. وهذا السلوك كما نعلم فيه كثير من الخطورة على شعوبها لكونه يفتح المجال واسعا لدعاة التعصب والظلامية. ربما من حسن الحظ أن الجامعة العمومية في البلدان العربية ما زالت في غالبيتها منفتحة على الفكر التنويري في مجالات العلم والثقافة والدراسات الاجتماعية والاقتصادية. ما يجعل منها ورشا كبيرا لتنشئة أجيال قادرة على حمل مشعل إرادة التحرير ومواجهة سياسات التنويم والاستلاب. لكن إلى متى ستتحمل هذا الدور؟ ما يجعلنا نثير هذا السؤال هو خشيتنا على مستقبلها، كون الدول العربية توجهت في السنوات الأخيرة إلى اعتماد برامج تدعم إحداث وتطوير الجامعات الخاصة في تقصير واضح إزاء الجامعات العمومية. مصدر قلقنا هو إنها لا تريد في حقيقة الأمر التخفيف من عبء تكلفة التعليم العالي وتوجيه التكوينات نحو المهنية وسوق الشغل، وإنما إفراغ الجامعة العمومية من مهامها العلمية والفكرية والإبداعية.
– أي مستقبل سيكون عليه المجتمع العربي في ظل هذا التوجه؟ ما نوع الفكر الذي سينتج عنه وكيف سيكون مصير الإبداع فيه؟
ج: إن الجامعة الحديثة اليوم، أقصد الجامعة العمومية في كثير من البلدان، أهلت للقيام بمهام التكوين لفائدة القطاعات الاقتصادية والاجتماعية وفي ذات الوقت لخدمة الفكر والإبداع. والتجربة أبانت أنه لا يمكن الارتقاء إلى ما يسمى بمجتمع اقتصاد المعرفة دون تعزيز دور الجامعة في تطوير هذا المسعى. يكفي التذكير بهدا الصدد على سبيل المثال أن الفيلسوف مارتن هايدغر كان رئيسا لجامعة فرايبورغ، وأن جل الجامعات الأميركية نالت شهرتها ومصداقيتها بفضل الدراسات الأكاديمية التي اعتمدتها برامجها، بالتالي أصبحت قبلة لأبرز المنظرين والمحللين.
مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث