في ظل المضايقات والنزعة الانقسامية : أي أفق للمجتمع المدني بتازة ؟ ..
تازة بريس
عبد الإله بسكًمار *
الحديث عن وجود شيء إسمه “مجتمع مدني” بتازة يبقى مجازيا على وجه العموم، لعدة اعتبارات: ذاتية وموضوعية، في طليعة تلك الاعتبارات عدم وجود نخب محلية حقيقية، تستطيع أن ترافع عن القضايا الملحة لتازة، ويترتب عن ذلك أيضا الحديث المجازي عن”المثقفين” و”الجمعيات ” و”الفاعلين المدنيين” إلى غير ذلك من التوصيفات التي لا تنطبق في مجملها على ما يوجد في تازة. وثاني تلك الاعتبارات، ضعف الوعي المدني لدى ما يمكن وصفها بالنخب ذات الثقل في القرار سواء على المستوى المحلي أو المركزي، ونقصد النخب الاقتصادية أساسا، بما يقتضيه ذلك من نكران ذات وثقافة مواطنة وتشبع بروح الحق والقانون وخدمة المصلحة العامة. حيث تنحصر أغلب مشاغل ذوي المال والنفوذ في مشاريع العقار والخدمات غير المنتجة إلا لأصحابها، والتي لا تقدم الشيء الكثير للمدينة كالعمارات والمقاهي والمركبات السياحية الخاصة، وثالث تلك الاعتبارات عدم نضج العمل المدني بتازة تبعا للتحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي عرفتها الحاضرة والمصنفة بالمعيار السكاني والحضري كمدينة متوسطة. فهي لا تقاس بالمدن الكبرى طبعا كفاس والدار البيضاء ومكناس وطنجة وتطوان ووجدة وعيون الصحراء، ولا توضع في المقابل ضمن المدن الصغيرة كآزمور وجرسيف وتاوريرت والصويرة وصفرو ودبدو وفجيج وتارودانت وتيزنيت. وإنما تنتمي إلى الحواضر ذات الحجم المتوسط من نماذج آسفي وبني ملال وشفشاون والجديدة وأكادير والعرائش والقصر الكبير والقنيطرة.
وتأتي على رأس تلك التحولات الهجرة القروية المكثفة التي أثرت سلبا على المدينة، وخلفت تخبطا في ثقافة الساكنة الموزعة بين البادية والحاضرة. وأدى حجم تلك الهجرة القروية التي عرفتها تازة منذ عقود خلت، إلى اختلال كبير في النسق الثقافي والقيمي، تعززه اختراقات العولمة الكسيحة والتي لم نساهم فيها كشعوب ومجتمعات بالشيء الكثير، وبنفس المقدار هناك توالي مسارات النزيف السكاني بين قاطنيها وساكنتها الأصلية، إما نحو المدن الأكثر جاذبية وإغراءا من حيث العيش الكريم أو نحو بلدان الخارج (باتجاه فرنسا أو إسبانيا أو ألمانيا وهولندا والولايات المتحدة وكندا وغيرها من دول المعمور).
نتيجة للاعتبار الأخير، وباستثناء تجارب محدودة، لم يُسجَّل أي صعود نوعي في مبادرات المجتمع المدني بتازة، تبعا لتدني الوعي المدني ذاته، بل ربما أيضا تخلفه الواضح مقارنة حتى ببعض المدن التي لا تصل إلى حجم تازة العمراني والتاريخي والاقتصادي والرمزي. وفي تحديد مختزل ومبسط، فالمجتمع المدني (نقصد الجمعيات والإطارات المستقلة والمختلفة الأنشطة والفعاليات ذات الأهداف الواضحة )، يقف تقريبا بإزاء المجتمع السياسي الذي يتجلى في الدولة والأحزاب معا. وإذا كان هناك اختلاف في بعض المفاهيم المحددة للمجتمع الموصوف بالمدني بين هذه المدرسة الفكرية وتلك، فإن أول شرط وربما أهمه يمكن أن يفرزه واقعيا ونظريا هو شرط الاستقلالية، ليس عن الدولة فحسب بل وأيضا عن مختلف التيارات والأحزاب السياسية والمنظمات النقابية، دون أن يعني ذلك هضم حق أفراده كأفراد في الانتماء، مثلهم مثل سائر المواطنين، وشرط الاستقلالية خاصة في البلدان الديمقراطية يتيح للمجتمع المدني ليس التحرك بفعالية فقط في ميدان اجتماعي أو اقتصادي محدد، وإنما أيضا ينتصب كقوة اقتراحية يمكن أن تصل إلى مستوى “سلطة مضادة “، سماها البعض بالسلطة الخامسة بعد الصحافة والمؤسسات المنتخبة والرقابية وغيرها.
هل تنطبق هذه الاعتبارات ولو ضمن حدودها الدنيا على المجتمع المدني في بلادنا ؟، ثم إلى أي حد هي حاضرة في تازة وإقليمها ؟. لا يمكن الجزم بعدم وجود مجتمع مدني بالمغرب، ولكن مخاض التأسيس والتنسيق والتجميع وضمان الاستقلالية والاستمرارية والموارد المالية، تبقى أهم العوائق التي تمنع قيام مجتمع مدني حقيقي، وتزيد هذه الصعوبات أو تتعقد تبعا للمجال الذي تشتغل ضمنه الجمعيات. فصورة هذه الأخيرة تختلف من جهة إلى أخرى بل وداخل الجهة والإقليم الواحد، وإذا تأملنا المشهد بمدينة تازة، نلاحظ سمة الضعف العام في الأداء والتنظيم وطبيعة المرافعات، ومن ثمة تواضع النتائج على الصعيد الواقعي تبعا لهزالة النشاط المدني ذاته، بل وذيليته في كثير من الأحيان للنخب السياسية المتخلفة بدورها على مستوى إقليم تازة.
منذ بداية استقلال البلاد ونخص بالذكر فترة ستينيات القرن الماضي، ظهرت بعض الجمعيات بتازة والتي اشتغلت في الفن المسرحي أساسا. ولعلنا نقصد جمعية اللواء المسرحي التي تأسست سنة 1964 غير أن طابع عملها انحصر فيما هو مسرحي ومناسباتي، أما العمل المدني بمعناه المحدد ونقصد الترافع عن قضايا تازة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكذا أخذ المبادرة في بناء وتعزيز أنشطة التضامن والرفع من المستوى المعيشي والثقافي للمواطنين، هذا النوع من الأنشطة ظل يمارس على صعيد مؤسساتي ومناسباتي ظرفي، كعيد العرش والمسيرة الخضراء وعيد الشباب وثورة الملك والشعب، ومن بين تلك المؤسسات التي اتسمت بطابعها الرسمي أو شبه الرسمي، التعاون الوطني والشبيبة والرياضة والاتحاد النسوي، واقتصرت المبادرات على توزيع مساعدات معينة وتنظيم حفلات وبعض الأنشطة المرتبطة بالمناسبات كما ذكرنا.
كان لابد من مضي عدد من السنين وظهور إطارات جديدة حتى يمكن الحديث تجاوزا عن المجتمع المدني، ونستطيع أن نسوق هنا بعض العناوين على سبيل المثال لا الحصر، كجمعية ألف ليلة وليلة للثقافة والفن ومنتدى العلامة علي بن بري ثم فرع اتحاد كتاب المغرب بتازة، وبعض الإطارات الإعلامية والتنموية فيما بعد. ولابد هنا من الإشارة إلى الدور الهام الذي قام به مجلس رعاية العمل الاجتماعي والثقافي لإقليم تازة (المبادرة كانت من اقتراح أحد عمال الإقليم السابقين خلال نهاية الألفية الأولى وساهم فيها عدد من أعيان وأغنياء تازة)، ثم تنسيقية النسيج الجمعوي التي قامت بدور هام في الدفاع عن تازة، ضمن التقسيم الجهوي الجديد وتنظيم مهرجان موسيقى الشباب بتازة.
منذ تسعينيات القرن الماضي، بدأنا نسمع بجمعيات “تنموية ” هنا أو هناك عبر تراب إقليم تازة : أكنول – بني لنت – جزناية الجنوبية – وادي أمليل – غياثة الغربية – جرسيف (وقتذاك ) ثم تاهلة، علاوة على إطارات غامضة الأهداف والتوجهات بالمدينة، وبغض النظر عن الطابع الانتخابوي الموسمي لمثل هكذا جمعيات، فإن البعض منها استطاع أن يراكم مكتسبات معينة في مجالي التعليم والصحة خاصة، كالمساهمة في عمليات التمدرس ولا سيما تمدرس الفتاة القروية، وفي تأسيس المدارس الجماعية ومساعدة المرضى المصابين بالقصور الكلوي ومرضى السكري واقتناء بعض التجهيزات المهمة…. يضاف إلى ذلك المجال التعاوني والتضامني، غير أن محدودية الأهداف وارتباط تلك “الإطارات” بالانتخابات وبعض”الزعامات” المحلية، هذا إلى هيمنة مظاهر من الريع والمال الانتخابي، كل ذلك قلص بشكل كبير من مصداقية تلك الجمعيات، وجعل تأثيرها على المجتمع في نهاية المطاف محدودا إن لم نقل ضئيلا.
وكان من الممكن لبعض الإطارت الفيدرالية بتازة أن تذهب بعيدا في العمل المدني والنشاط الثقافي والاجتماعي، ونخص بالذكر تنسيقية النسيج الجمعوي التازي ثم الائتلاف المدني التازي، لولا النزعة الانقسامية الغريبة المغروسة في التربة التازية للأسف الشديد، والتي تغذيها ربما منذ فترة الحماية جهات في السلطة والمجتمع، لغاية في نفس يعقوب، تضاف إلى باقي الاعتبارات المحبطة والتي شرحنا بعضها سابقا. ورغم القوانين المنظمة والتي تتيح للمواطن ممارسة العمل المدني بكل حرية، وعلى رأسها دستور المملكة لسنة 2011، والذي اعترف بالدور الأساسي للمجتمع المدني في تأطير المواطنين وتلبية حاجاتهم، وترسيخ قيم التضامن لديهم وباعتباره قوة اقتراحية إلى جانب المؤسسات الأخرى، ويجب أن يتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلالية وخدمة المصلحة العامة، رغم كل تلك المكتسبات التي تبقى نظرية في كل الأحوال، فإن بعض مؤسسات الدولة ما زالت تضرب القوانين إياها عرض الحائط، وتقوم بعرقلة عمل المجتمع المدني وسط المواطنين، بمختلف الأشكال والممارسات وبينها لي عنق القوانين والتشريعات ذاتها ونذكر أهمها وهو قانون الحريات العامة تحت تأثير الهاجس الأمني غالبا، يضاف إلى ذلك مختلف أشكال الفرز والتمييز والتضييق على صعيد البرامج والمنح وأشكال الدعم المالي، من أجل تقليص إشعاع المجتمع المدني وتبخيس ما يمكن أن يقدمه للناس في هذا المجال.
يضاف إلى كل ما سبق خاصية إقليم تازة، والمتمثلة في النزعة الانقسامية التي تشتت الجهود وتضعف التنظيم المدني كيفما كان نوعه، وبالتالي تؤثر سلبا على مردوديته وكأن هناك أياد خفية مترصدة لكل عمل بناء قصد تدميره وتبخيسه. ورغم كل هذه الشروط غير المواتية، تعمل فعاليات شريفة في بعض الإطارات وبالإمكانيات المتاحة، على تفعيل دور المجتمع المدني المستقل في سبيل دعم وتيرة التنمية بإقليم تازة، وإخراج المشاريع المجمدة إلى حيز الوجود والرقي بالبشر والمجال جميعا.
* مركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث