في الحاجة الى الوعي المطلوب لصناعة محتويات المغرب الفنية بشكل عام

تازة بريس
موازاة مع ما يعرضه السمعي البصري المغربي عموما ومن خلاله التلفزيون في رمضان، من مسلسلات وسيتكومات غير خاف ما يطبعه من بؤس وضعف جودة نص وشكل وأداء ورسالة، لدرجة ما يمكن نعته بالتفاهة فنيا وكتابة ورؤية واخراجا، فضلا عما بلغته في نفس السياق صورة الموسيقى المغربية خلال السنوات الأخيرة من ضحالة وإسفاف. حول هذا وذاك من المشهد والوضع الفني وما هو عليه من جدل رأي واختلالات، ضمن هذا الحوار اللافت الذي أجراه الشاعر والناقد الفني بوجمعة العوفي ابن تازة البار مع صحيفة (القدس العربي) اللندنية. وقد ارتأت جريدة تازة بريس تقاسمه مع زوارها وقرائها تنويرا للمهتمين وتقاسما لِما هناك من ملاحظات وتطلعات منشودة رافعة.
- نبدأ من حيث النهاية، نهاية أسماء بارزة في الميدان الفني رحلت عن دنيانا، آخرهم الفنان عبد المنعم الجامعي، أمام هذه الخسارات، نسألك كناقد ومتتبع للمشهد الفني المغربي، هل هناك من يستطيع تعويض مثل هذا الفقدان من الجيل الحالي؟ ـــــــــ بالنسبة لبعض المجالات الفنية، طبعا هناك إحساس أو شبه اعتقاد عام، وخصوصا في مجالات الموسيقى والغناء والسينما العربية، بأن هناك “زمن فني جميل” قد ولّى واختفى الآن داخل هذه الفنون، وتم تعويضه بإنتاجات وأسماء لم تَعُد إنتاجاتها الفنية ترقى، بل تستجيب، إلى ذلك الذوق الفني الرفيع الذي كان سائدا في الماضي، بفعل التغيرات المهولة التي عرفتها مجلات وطبيعة الإنتاج الفني والتلقي على حد سواء، بحيث تم تسييد أشكال جديدة من الذوق أو التذوق الفني، تطبعه البساطة والاختزال وسرعة الاستهلاك، بل حتى السطحية والإسفاف والرداءة في غالب الأحيان. أما مسألة “تعويض” ذلك الجيل السابق والمميز من الفنانين، فالأمر يظل نسبيا في نظري، حتى أننا ربما لا يمكننا الحديث عن “تعويض” بالمعنى الحرفي للكلمة؟ على اعتبار أن جميع الإبداعات والإنجازات والتجارب الجديدة والمعاصرة والآنية، سواء كانت في الفن وغير الفن، لا تقوم بتعويض ما مضى، بل تشكل نوعا من الامتداد والإضافة أو التطور والتجديد لما سبقها من تراكم، بغض النظر عن طبيعة وجودة ونوعية هذه الإبداعات والإنتاجات الجديدة والحالية.
- خلال الجائحة توالت النداءات المطالبة بفتح المسارح، والآن وبعد قرار إعادة الروح إلى الخشبات، هل سنعيد المشهد نفسه، بمسرح لا إقبال جماهيري عليه، أم أن الأمر يجب أن يخرج من دائرة النخبة الضيقة؟ ــــــــــ الجائحة كانت تجربة مريرة بكل المقاييس عاشتها البشرية بكاملها في آخر المطاف، وقامت الجائحة بإغلاق كوكبنا الأخضر بشكل غير مسبوق، يكاد يكون تاما ونهائيا. وكان الفنانون والمشتغلون بالمهن الفنية وما جاورها من القطاعات ذات الصلة (قطاع الحفلات على سبيل المثال لا الحصر) من أكبر الفئات المتضررة من هذا الإغلاق الذي سببته الجائحة، والمسرح، بطبيعة الحال، هو جزء من هذا المستهلَك الفني، ومصدر رزق أيضا للعديد من الناس. لذلك أعتقد بأن الإقبال على المسارح والخشبات لن يتغير كثيرا، بل قد يتضاعف هذا الإقبال على العروض المسرحية، خصوصا وأن الجمهور يحتاج إلى هذا النوع من المتعة الفنية والتنفيس الذي يمنحه العرض المسرحي، كفرجة وكطقس واحتفال في نفس الوقت.
- في رأيك أين يكمن مشكل الإبداع المسرحي في المغرب، هل في المبدع أم المتلقي؟ ـــــــــ عرف الإبداع المسرحي في المغرب، في أغلب إنتاجاته، ومنذ سنوات ليست بالقليلة، تراجعا ملحوظا وكبيرا على مستوى الجودة، سواء تعلق الأمر بالنص (التأليف للمسرح) أو العرض (الإخراج المسرحي على وجه الخصوص). إذ يشكو هذا المسرح فعلا (مع بعض الاستثناءات) من غياب مؤلفين مسرحيين موهوبين ومحترفين ومتمكنين من مهنة التأليف المسرحي، مثلما كان الحال عليه فيما يمكن نعتُه بـ “الحقبة الذهبية” للمسرح المغربي، سواء ما كان يُعرف بتجربة “مسرح الهواة”، أو بعض التجارب الواعية والمضيئة في المسرح الاحترافي المغربي (تجربة الطيب الصديقي على سبيل المثال). ولو أن المشهد المسرحي المغربي يتوفر الآن على كفاءات وطاقات عالية من الممثلين والتقنيين والسنيوغارفيين، إلا أن هذه الطاقات تجد نفسها في الغالب أمام نصوص مسرحية ضعيفة البناء الدرامي ومخرجين بدون رؤى فنية حقيقية، بل حتى عديمي الموهبة أحيانا. أما بخصوص سؤالكم الهام والإشكالي: أين يكمن مشكل الإبداع المسرحي في المغرب، هل في المبدع أم المتلقي؟ فالمسألة، في نظري، مترابطة ومتشابكة الأسباب. إذ تكاد تكون هذه العلاقة بين الإبداع والتلقي علاقة جدلية بامتياز، إذ يكون التلقي والارتقاء بالذوق الفني شديد الارتباط بما يتم إبداعه وإنتاجه في المشهد المسرحي المغربي. فكلما ارتفعتْ جودة الإبداع الفني ارتقتْ كذلك الذائقة الفنية وأشكال التلقي لهذا الإبداع الفني، والعكس صحيح في ذلك تماما. وهذا ينطبق، بشكل عام، على جميع أشكال التعبير الفني، سواء كان مسرحا أو موسيقى أو سينما أو دراما تلفزيونية أو فنون بصرية أو غيرها من أشكال التعبير الفني.
- بالنسبة للغناء ليس الحال أفضل منه بالنسبة للمسرح، كلاهما يعيشان التراجع، الفرق أن الأغنية تعيش تراجع القيمة الفنية والإقبال الجماهيري، بينما المسرح يعيش النقيض تماما، هل من وصفة لمغادرة المنطقة الرمادية وإعطاء الجمهور إبداعا ممتعا ومفيدا وبجودة فنية عالية؟ ـــــــ التراجع في جودة العمل الفني بشكل عام، هي السمة الطاغية أو المهيمنة الآن على ما يتم إنتاجه في مجالات الموسيقى والمسرح والسينما على مستوى العالم العربي. والمغرب جزء من هذه البنية المهلهلة التي أصبحت محكومة بالسطحية والرداءة وضعف الإبداع الفني. وقد ساهم في ذلك “منطق” الربح المادي والتجاري لشركات ومؤسسات الإنتاج الفني في هذه المجالات، وشهدتْ هذه الساحات أو المشاهد غياب الأعمال الفنية الجادة، انطلاقا من رداءة النصوص (سواء بالنسبة لكلمات الأغاني، أو النصوص المسرحية أو القصص والسيناريو المخصص للأفلام والدراما التلفزيونية)، وصولا إلى غياب الملحنين والمخرجين الموهوبين مثلما سبقت الإشارة إلى ذلك في هذا الحوار. أصبح المشتغلون بهذه المجالات الفنية يسعون إلى الربح فقط ويتنافسون على الرداءة إن صح القول؟ أما من حيث إمكانية اقتراح أو وجود “وصفة سحرية” قادرة على إخراج هذه الفنون من ضحالتها، فالأمر مرتبط، في نظري، بحجم ونوعية الوعي والذوق الذي ينبغي أن يمتلكه الجمهور والمتلقي ومَن يستهلك هذا المنتوج الفني، حينها يكون بوسع هذا الجمهور أو المتلقي أن يعمل على رفض كل ما هو ضحل ورديء، ويطالب بمستويات أعمق وأكثر جودة لما يتم تقديمه له كماد فنية للاستهلاك. أصبحت الأجيال الجديدة من حقوق الإنسان، تتجاوز في شكلها ومضموناه المطالب والحقوق الخبزية، إلى الحق في جودة المادة الفنية المقدمة له. وهذا حق أساسي أيضا، على الجمهور والمتلقي أن يطالب به وينتزعه في آخر المطاف.
- كثيرا ما يسأل الجمهور، امام هذا الكم الهائل من التفاهة والرداءة إلى أين نسير، وهو السؤال الذي نطرحه عليك؟ ـــــــــــ نسير نحو تسييد الرداءة والتفاهة وتسطيح المنتوج الفني (شكلا ومحتوى) في الكثير من أنماطه وتمظهراته التعبيرية في آخر المطاف، يعني أننا نحو اختزال التعبيرات الفنية وتكييفها حسب منطق العولمة وقوانين الاستهلاك الرقمي التي فرضتها التكنولوجيا الحديثة بشكل رهيب. إذ تقلصتْ أيضا لدى المتلقي هذه المساحة من الوقت والصبر لمشاهدة أو الاستماع إلى الأعمال الفنية المغناة في دقائق أو ثواني معدودة. وهذا ما أصبحنا نراه ونلمسه على منصات التواصل الاجتماعي: عليك أن تحكي قصتك في بضع ثوان فقط. هكذا غيرتِ التكنولوجيا والعوالم الرقمية عادات الإنسان وسلوكاته وأنماط عيشه وتلقيه كذلك لما يُبَث أساسا على هذه المنصات.
- الفنانون غالبا ما يلقون المسؤولية على عاتق الجمهور الذي يشجع الرداءة، والجمهور من جهته يتهم الفنان بعدم الرقي بإبداعاته لتجسيد همومه ومشاكله اليومية، كيف تبدو لك هذه المعادلة؟ ــــــــ هذه المعادلة صعبة ومتعددة المقاربات كذلك، لا يمكن الجزم بشكل كلي وقاطع في نصيب أو حجم مسؤولية هذا الطرف او ذاك فيما وصلنا إليه الآن من مستويات غير مسبوقة تتعلق برداءة المنتوج الفني. المسؤولية متاقسَمة ومشتركة في نظري. والمعادلة ينبغي حلها داخل هذا الوعي المطلوب في صناعة المحتويات الفنية بشكل عام. ففي غياب معاهد ومؤسسات التكوين الفني، وإصرار التلفزيونات العربية ومنصات البث الرقمي على تقديم الإنتاجات والمحتويات الفنية الرديئة، لن نتوقع الوصول إلى حلول ممكنة لهذه المعضلة في المدى القريب، وستظل نفس الاتهامات قائمة ومتبادلة بين من ينتج الفن ومن يستهلكه!