من بورقيبة إلى قيس.. هذه مواقف تونس ..
تازة بريس
مولاي التهامي بهطاط
لم يكن استقبال “الرؤساء” الذي خصصه الرئيس التونسي لإبراهيم غالي، مفاجئا، بل إن مسار الأحداث منذ امتناع تونس عن التصويت على قرار مجلس الأمن 2602، القاضي بتمديد مهمة بعثة “المينورسو”، أعطى مؤشرات على أن قيس سعيد قد ارتمى في حضن العسكر الجزائري -ربما لأسباب مالية محضة- وأن الاعتراف بجمهورية تيندوف صار مسألة وقت فقط. فهل يجوز أن نتحدث هنا عن فشل للديبلوماسية المغربية؟ لا أظن، فنحن لسنا أمام دولة لها مؤسسات، وتأخذ القرارات “السيادية” فيها مسارا طبيعيا، بل أمام شخص يتخذ قراراته بشكل انفرادي ارتجالي ومفاجئ حتى لدائرته الضيقة، دون استشارة أحد، وبطريقة تذكر بأساليب القذافي، وفي تسريبات نادية عكاشة عينة بينة. فكيف والحالة هذه يمكن للديبلوماسية المغربية توقع واستباق هكذا قرارات؟ لكن السؤال الأهم: ما هو تأثير خطوة الرئيس التونسي على ملف الصحراء؟
المعروف أنه باستثناء دول الخليج، والأردن، فإن بقية الدول العربية تلوك كلاما ترجمته العملية: مسك العصا من الوسط، حتى وإن احتملت ألفاظه -بالتوسع المجازي- دعما ضمنيا للوحدة الترابية للمغرب. ولهذا فإن تأثير الخطوة “القيسية” قد يكون نفسيا وإعلاميا، فقط ليس إلا، لأن تونس لا هي قوة اقتصادية أو عسكرية، ولا هي قوة ديبلوماسية يمكن أن يكون لها دور في تغيير مسار “قضية الصحراء”. وإلى ذلك، فإن الرؤساء المتعاقبين على رئاسة تونس منذ استقلالها لم تكن مواقفهم ودية تجاه المغرب، بل إن كثيرا من مواقفهم كانت بمثابة طعنات في ظهر. فبورقيبة لم يستسغ استقبال المغرب أفرادا من عائلة الباي بعد حرمانهم من الحد الأدنى من شروط العيش الكريم في تونس، رغم أنهم انكفؤوا على أنفسهم بعد لجوئهم إلى تطوان، ولم يمارسوا نشاطا سياسيا ولم يطالبوا باستعادة عرشهم المفقود. وهذا ما يفسر دعم بورقيبة المبكر لاستقلال موريتانيا، ثم إعلانه اتحادا مع الجزائر وموريتانيا في لحظة مفصلية كانت تمر بها قضية الصحراء، رد عليه الحسن الثاني بإعلان الاتحاد العربي الإفريقي مع ليبيا القذافي.
ولا نحتاج هنا للتذكير بالدور الخطير الذي لعبه مثلا الطاهر بلخوجة في حرب أمغالا، حيث يحمل على ظهره أثقال أرواح بريئة أزهقت غدرا. ولهذا فإن أقصى ما كان يأمله المغرب من تونس هو “الحياد”، حتى بعد انقلاب بن علي على بورقيبة. وهو ما يفسر مثلا، غض المغرب الطرف عن نشاط سماسرة السفارة التونسية الذين كانت مهمتهم الوحيدة اعتراض سبيل المستثمرين الأجانب عند حلولهم بالمغرب، وتقديم إغراءات لهم لتحويل وجهتهم، فضلا عن شراء بعض المطبوعات الفرنسية لتقديم تونس دائما متفوقة على المغرب، خاصة في المجال السياحي والصناعي، و”تحرر المرأة”، مع أنه بمجرد سقوط بن علي شاهد العالم حجم الفقر والتخلف الذي كانت تغطيه الواجهة البراقة.
وإلى ذلك، فقد ظلت عقدة “الملحق العسكري” تطارد بن علي إلى درجة إقدامه على استنساخ كثير من مراسيم البروتوكول “المخزنية”، خاصة منها المتعلقة بالاحتفالات الدينية. وقد وصل به الأمر في النهاية حد التهديد بالاعتراف بالبوليساريو إذا لم يتم وفق برنامج “الحصاد المغاربي” الذي كانت قناة “الجزيرة” القطرية تبثه من مكتبها بالرباط، والذي كانت حقوق الإنسان في تونس من مواده شبه اليومية. هذا التهديد، تم إبلاغه رسميا لسفير المغرب بقصر قرطاج من طرف رئيس ديوان بن علي شخصيا. وبعد سقوط الجنرال، شكل موقف المنصف المرزوقي جملة اعتراضية ليس فقط بسبب أفكاره القومية والوحدوية، ولكن لأنه جاء إلى الرئاسة عبر انتخابات حرة ونزيهة فرضها الربيع العربي الذي انطلق من تونس، وترددت أصداؤه من المحيط إلى الخليج. لكن سرعان ما استعادت الدولة العميقة زمام الأمور، فجاءت بالباجي قايد السبسي الذي حاول اللعب على الحبلين واستغلال الصراع الجزائري المغربي الذي يعرف كل تفاصيله وأسبابه ومسبباته.. لكنه ووجه بأبواب موصدة في المغرب، حيث تردد أن طلبات الزيارة المتعددة التي أرسلها للرباط، قوبلت بالرفض.
لكن، وللإنصاف، فرغم فتح عسكر الجزائر صنابير “الدعم” والقروض الميسرة بمئات ملايين الدولارات، إلا أن الباجي بخبرته لم يتجاوز الخطوط الحمراء ولم يتماه كثيرا مع المطالب الجزائرية، حيث اكتفى ببعض “المواقف” تجنبا لإثارة غضب النظام الجزائري، وطمعا في استمرار الدعم السخي، حيث تم مثلا إلغاء زيارة الوزير الأول الحبيب الصيد إلى المغرب ربيع سنة 2016، تفاديا لحضور مؤتمر انعقد بمدينة الداخلة. كما رفض خلفه يوسف الشاهد خلال اجتماع اللجنة العليا المغربية التونسية سنة 2017، إدراج فقرة حول مغربية الصحراء في البيان الختامي. وتبقى في الختام، مجموعة من الأسئلة في انتظار جواب: هل ستتحمل الخزينة الجزائرية الكلفة المالية العالية لهذه الخطوة، خاصة وأن الأمر لا يتعلق بما جرت به العادة من رشاوى مالية “محدودة” أو هدايا عينية “بسيطة” تقدم لهذا المسؤول الإفريقي أو ذاك مقابل تصويت هنا أو تصريح هناك، بل بدولة مفلسة فعلا، وعاجزة عن توفير أجور موظفيها بانتظام، والمستقبل فيها مفتوح على المجهول خاصة مع رئيس يعيش في زمنه الخاص؟ وماذا لو أطاح انقلاب -يتوقعه كثيرون- بالرئيس الذي اتضح أنه بارع في خلق المشاكل، خاصة وأنه أدى الدور المطلوب بتمرير دستور يعطي صلاحيات واسعة للرئيس، ما يفتح المجال أمام عودة العسكر إلى الحكم المباشر، بدعوى فشل المدنيين في التدبير، وبمبرر الإنقاذ؟
وختاما، ألا يخدم الرئيس قيس -في النهاية- مصالح المغرب من حيث لا يدري، بما أن “سياسته الداخلية” و”أزماته الخارجية”، دفعت أولا، إلى فرار كثير من الشركات الأجنبية التي فضلت حط الرحال بالمغرب، وساهمت ثانيا في تقليص النشاط السياحي الذي يرتبط عادة بالاستقرار السياسي، لصالح المغرب دائما؟