لم يبق أمامي غير الحلم .. عدت إليه أغرس افتراضيا وأسعد افتراضيا ..

تازة بريس
سعيد عبد النابي ..
أنار مشروع كهربة القرى دوار بوعشوش مستقر خالتي خديجة أخيرا، فانتقل بساكنته من واقع بئيس إلى آخر تيسرت فيه نوعا ما سبل العيش الكريم، كنت أفكر في حالها كيف سينقلب والأسلاك على جدران بيتها تنتشر انتشار الدوالي تحت جلود السيقان المتعبة، وإذا بسيل تساؤلاتي العميقة يسوقني إلى تأمل لحظات التغيير المفاجئ تلك، ما جعل صور الاحتمالات الواردة تختلج بداخلي .. كيف ستسعد خالتي خديجة برؤية النور يتوزع على غرف منزلها؟ هكذا بشكل فجائي يشع من كل زاوية وسقف .. كيف ستواجه سيل المسلسلات المدبلجة المنساب على شاشتها الصغيرة ؟
كانت لي معها في صغري قصصا عجيبة ترسخت بذاكرتي، أتقاسمها معكم في هذا التقديم قبل أن يرينٌ عليها تراب النسيان، وإن أكدت الأيام استحالة ورود هذا الاحتمال، إذ رغم مضي السنين على لقاءنا الأخير، ورغم العراقيل التي وقفت منتصبة مانعة تواصلنا، حرارة الأحاسيس بدواخلنا بقيت ملتهبة لم ينل منها الفتور، إطلاقا. لا زلت أذكر اللحظات التي ركضنا فيها معا وسط مروج تلوان الخضراء، أذكرها كأني انتزعها من صباح يومي هذا الذي لم ينته بعد، لحظات عشناها كمراهقين يافعين نهشت أفئدتهما نيران العشق والجوى، كنا نتسابق، أو بالأحرى، كنت اركض أمامها هاربا منها فتلحق بي مطاردة، وسط حشائش فاق وقتها طول سيقانها قامتي، كلما أدركتني، عند تعثر قدماي بأصول النباتات، حضنتني بقوة، ثم طرحتني أرضا وهي تدغدغ بطني كي اسمعها ضحكاتي المجنونة، كانت مفتونة بي، شدة حرمانها من خلف ذكر ألهب أحاسيسها فسعت فرحتها بي سعي الصلوات تطرق أبواب السماء كي يرزقها الله الابن بعد الأربع بنات.. ومَنَّت نفسها لسبع سنين، فتحققت أمانيها، ورزقها الرزاق أربع ذكور بعد سبع إناث..
كانت تباشر عملها مع إشراقة الصبح، ثم تعود إلى بيتها مع انبساط شمس الضحى، متفادية بذلك الترتيب حر الظهيرة اللافح، تتناول غذاءها وتأخذ قيلولتها ثم تقصد المروج ثانية بعد الزوال، لساعة أو ساعتين، خاتمة كل محاولة باتان مثقلة المتن بحشائش تعود بها إلى المنزل، تقدمها للدواب في الإسطبل، أو تدخرها للأيام المطيرة الباردة. حثها لي على ركوب دابتها شابه شيء من احتفاء تكسر على صخر امتناعي ورفضي، داريت بهما حرجي و مخاوفي، باسطا الحجج الواهية، ولما أذعنت للأمر، لم يرق لي الامتطاء إلا ذهابا، بحيث أضمن ظهر البردع حرا فارغا، كانت تبسط عليه خالتي خديجة لمزيد من الراحة لحافا صغيرا أو بساطا من وبر الغنم، فأتحزم بالحـــذر، وأتشبث بجوانبه – البردع ـ خوف السقوط أرضا. حيطة بعثت بدواخلي تحذيرات جدتي رحمها الله من مرقدها، و اشتدت بي الهواجس فصار رجعها كرجع الصدى في الجبال البعيدة المهجورة، رسخت في ذهني خطورتها، حتى أصبح ركوب الحمير بالنسبة لي رهابا، لا أرى الحمار إلا و المكر ملازمه. كم عددت علي حيله فجعلت صور الأضرار المحتملة تتراءى لي عند كل محاولة أهِمُّ بها. أي حركة كان يقوم بها، ـ الحمار ـ كانت تفزعني، برأسه، بأذنيه، طريقة نهيقه، لا أرى في نتائجها سوى كسر عظم أو فك مفصل أو شج رأس أو فتح جرح غائر.
كانت خالتي تبدو لي كجبابرة ثمود الذين جابوا الصخر بالوادي، أول مرة أمرتني بركوب أتانها رأيت امرأة شامخة تقف أمامي تلوح بمنجل في يمينها تشير بها إلى الدابة، ثاقبة نظرات عينيها معبرة، تقنعك بالأمر الذي تحمله قبل صدوره، جعلت كلمة “اركب” تحصيل حاصل .. أثناءها كان العجز يثبط همتي، رنوت إلى متن الدابة فتراءى لي كيافوخ جبل، ثم أدرت رأسي ناحيتها مستعطفا، راجيا منها أن تعفيني، إلا أن إصرارها المشع من عينيها ثارني، ففهمت أن لا مواربة في الأمر و لا تساهل، وحنيت رأسي إلى الأرض مستسلما، كأني التمس ملجأ في شقوقها، بينما حسمت هي أمر ترددي بعد انتظار قصر أمده، فرفعتني بكفيها إلى الأعلى كما ترفع الأم رضيعها، ووضعتني على المتن لأواجه مخاوفي، كتدريب عسكري كانت التجربة، أول درس تلقيته في بناء الرجولة و الاعتياد على تجاوز الشدائد، كأنها أرادت لابن أختها الخروج من دائرة الفشوش، لأصبح في المستقبل رجلا حاق الرجل، وشجاعا حاق الشجاع، رغم صغر سني، رغم جهلي المطبق لمنطق البهائم. كجاهل فنون السباحة رموا به إلى حوض ماء عميق الغور زجت بي خالتي الى عالم الفروسية، لم أفكر سوى في ضبط توازني، لم احرص سوى على النجاح في مهمتي كي لا يتندر بي صبيان القرية، أخذت كل احتياطاتي كي لا يصدر مني شيء مشينا، حتى بصري حاولت قدر الإمكان التحكم فيه، لم أشتته في كل اتجاه، خشية الإصابة بدوار يهلكني و المسالك وعرة، كأنها قدت من قمم الجبال العاتية، السقوط فيها يعني التدحرج إلى الهاوية، والوصول إلى السفح يعني إما وصول كثلة لحمية تداخلت فيها أجزاء العظام المتفتتة، أو أشلاء متناثرة، إذ لا قصب سيبقى مع طول مسافة ذاك الانحدار و الهبوط على طبيعته، و لا روح ستبقى داخل الجسد، بكل تـأكيد.
لم أجد راحتي والمخاوف تتلاطمني سوى في زقزقة الطيور، متنفس أبهج صدري القلق، إنتزعني من عمق الدوامة، شدتني إليها أصواتها الرنانة، فحاولت فرز أنواعها ومعرفة أجناسها، في كل مرة أعود إلى خالتي، اسألها عن أسماءها، لا أنكر فضلها علي في إثراء قاموسي الخاصّ بالحيوانات، أضافت مشكورة أسماء جديدة إلى اللائحة، بوسبيني، مزيوقة، حسونة، عويرة، ربيب لحجل، سقساقة، تشغشوغة، عويرة، الطير الحر وغيرها. رغم الاهتمام و الانجذاب لم اترك حرصي البتة، كنت أنصت إلى خالتي تشنف آذاني بحديثها الشيق عن الطبيعة، لكن نظراتي استمر تواصلها، من باب الاحتياط بالثرى أسفلي، كأنني أتخير المكان الذي ستقذفني إليه الدابة، إذا ما زادت في سرعة عدوها، لم يهدأ لي بال، حتى طرحتني أرضا، فشرعت في الحش. كانت خالتي خديجة فارعة الطول، طريقة شدها قبضة منجلها كشفت عن قوتها و صلابة عودها، لم تكن بالخَدَلجَّة، ولا بالسمينة الرجراجة، و لا بالنحيفة الضامرة البطن، رأتها عيني كإيقونات السينما في أفلام العنف، فارضة نفسها على الكل، ما جعلني أطمئن لرفقتها، مفضلا البقاء معها وسط الحقول، ولمِاَ وجدت في تلك الجولات من متع، انطبعت كاملة بذاكرتي، كنت أناديها.. كلما نويت تدليعها … بخالتي خدوج، وإذا أردت المزيد من المزاح أضفت : واش نمشيوا للجنان بجوج ؟. وسمعت مرة من المكان حيث وضعتني تغريد طائر السمان البري فحملقت في كل اتجاه باحثا عن مصدره، كان يأتيني من أعماق الفدادين كما تأتي الفكرة من العبث، أبهرني ذكائه، كأنه تربى على فنون التخفي منذ صغره، أو بالأحرى، علم بفطرته أي مستقبل اسود ينتظره مع سلالة آدم فاعد لوجوديته العدة واستعد. الكلاب المكلفة بحراسة المنازل كانت تستقبلنا بطرقها المختلفة، ذهابا أو إيابا، منها ما حاول فك الحبل الذي شدها إلى الوتد، مبدية بذلك الاندفاع شراسة لا تستكين إلا بابتعادنا عنها بأمتار، ومنها ما كان يكشر عن أنيابه فقط، دون فتح فكيه، كأنه يبتسم لنا، يواجهنا بنباح مغاير، لا علاقة له بنباح الكلب الأول، وبنظرات ناطقة، فيها تحذير ورجاء، يشعرنا بوجوده لا أقل ولا أكثر، طالبا المهادنة. ومنها ما شد بسلسلة حديدية متينة صلبة الحلقات بلون الفضة، يبدو أنها كانت أخطرها.
نبهتني من قبل خالتي وهي تحدثني عن كل واحد بالتفصيل، كأنها تقدم لي فكرة عن هويتها و سيرتها الذاتية، كما نبهتني علي تجنب استفزازها. نهيق الحمير أيضا لا بد من الإشارة إليه، كان يتواصل من اليمين والشمال، لا حمار كتم رغبته عند مرورنا به، ولما سالت خالتي عن السبب انفجرت ضـــاحكة و نخست الأتان صارخة، أرّا، أرّا، أرا الله يسلط عليك الذياب .. بينما تشبثت بالبردع، وقلبي من الخوف بين أضلعي ينتفض. بعد بضع أيام طال الاصفرار الحقول، فحتم الوضع على خالتي الاستعانة باليد العاملة، وسط نساء عاملات نصف يومية عشت تجارب أخرى، لا تقل إمتاعا عن ركوب الأتان وزقزقة العصافير و المروج الخضراء، كانت حركة أكفهن لا تنقطع، سواء بالجد في العمل أو الرقص عند الحاجة، وألسنتهن كأنها موصولة بتيار كهربائي، دائمة التنطع في الكلام، تحسبها في اهتزازها ألسنة أفاعي، تلهج بالهزج، تتفانى في الزغاريد و الصلاة على الحبيب محمد، تحيي سادة القبيلة عبر التاريخ بذكر اسماءهم، امولاي ادريس، اسيدي عيسى، اسيدي احمد الزروق، اسيدي ابن العباس، ايها الشيخ الكامل، كانت فترة العمل على محدودية ساعاتها تسير على نسق متقلب، كمزاجهن، تتخللها استراحة لأجل الترييق، تبسط إحداهن خرقة من الكتان في الوسط، تضع عليها الخبز ملفوفا في ثوب، و الطنجرة و الصحن و الأكواب لصب الشاي، فتنادي الرفيقات، ثم يتحلقن حول الطعام مبديات نزقا خاصا كأنهن في حفل، منهومات كأنهن يدخرن أكلا يكفيهن النهار بطوله، كانت الأجواء تختلف في كل حين ، اللقاء بطابعه الموسوم بتقديم التحايى و الفطور بنشاطه والعمل والغناء يتخلله، بحيث يستحيل على الملل التسلل الى القلوب، ملح الكلام أسرار البيوت و زلات الساكنة، يتداولنها في حديثهن، أما الغناء فكان شفاء وبلسما. لما صدحت رقية بموهبتها، بادئة كأنها رئيسة الفرقة، كادت تنال بإبداعها حظا من حبي و تقديري، لولا تعمدها إحراجي بالتغزل بي أمام خالتي خديجة وكل البنات العاملات. قالت في تدخلها : مزينتك بحناك خصم غي السواك آمي للا .. واللي بغا الزين ما بقالو دين امي للا.. والرموش سكين قطع لي اليدين امي للا.. ثم أخذت قسطا من الراحة، فضحكت و أضحكت، ثم أعادت الكرة للمرة الثانية : والدموع من العين جراوا.. رجعو لقلب حنين ومشاوا امي للا.. ومشات روحي بين السبول.. ونحرقو بنارا شلا حقول.. ولحم قلبي نهشا الغول.. وفين البيرجي و فين البيت بول
امي للا .. وف احضان سعيد انا عندي العيد.. ونعسوا على جريد ما خصنا تريد آمي للا .. كنت أتابعها في صمت كأن الأمر لا يعنيني، فتفاجأت ببقية الرفيقات في العمل يرددن لازمتهن :، وناري آ مي للا وناري آمي للا.. وناري آ مي للا وناري آمي للا.. وناري آ مي للا وناري آمي للا.. وناري آ مي للا وناري آمي للا. ترقبت حدوهن حدو رقية في التغزل، فحرصت ورصدت أي فرصة ستنسح، احتج بها لإعلان انسحابي والعودة الى المنزل، مدعيا خجلا، لكن قانون الزريع ربما الزمهن ترديد تلك الجمل فأهدر تدخلهن زمنا، ويبدو أنهن كن مجبرات على استهلاك الوقت، مهما بلغ حنق خالتي مداه، حتى تًلْهَمَ من ستخلف رقية في الغناء. كنت بين لوحة وأخرى أعيش كل الأحاسيس، من الضحك على سيدات الكورال، إلى الخجل من مضامين الأغنية، أيامها استوعبت لماذا صرح المرحوم الحداد شاعر المدينة لأحد القنوات المغربية بأن الشعر البرنوسي أصعب مـــــا في النظم الحديث، لأن الشاعر لا ينجح سوى بجاهزيته، وجاهزية الكلمات في رأسه، كذلك فنانات الحقول كن، إن خانهن الإلهام لحظة، رددن اللازمة مرات و مرات ومرات … إلى أن تصل إحداهن إلى البيت الموزون المطابق للنغم الملحون فتخرج عن الصف متقدمة المجموعة وتصهل بنظمها، إشارة بكفها تكفيها، وهكذا بعد رقية غنت حليمة: جوفي بخانة الزين مربوط .. على الخانة السر محطوط .. دشافا يبقى غير أيسوط .. يتبعى وخا دغلى الشروط .. آمي للا.. ثم اقتفت أثرهما زينب مضيفة : واللحيمة رطبة و بيطة.. سالخة ما عليها شطيطة.. سعدات ميمتو بالزبيطة آمي للا.. متفقات على الوقاحة و الجرأة والتهتك، ضحكهن بلغ مداه، غير مباليات بغرقي في خجلي، إلى أن تنبهت الخالة، ورق قلبها إلى حالي فحاولت إنقاذي بتغيير مجرى الحديث، مقلدة طائر السمان.. مت بالغط… مت بالغط…. مت بالغط .. مقتنعة بإمكانية تحريري من عقدي بخطوتها المثيرة تلك، اكتفيت بالنظر إليها في ذهول، دون نبس، لسوء فهمي مقصدها، تساءلت، مت بالغطّ؟ أي هراء؟ وإتضح لها إخفاقها في محاولاتها المتتالية، ومع ذلك استمرت في الشرح و الإيضاح.. طرايس ايقول مت بالغط … ما معنى الغط ؟ ما معنى الموت به؟
لا احد أقنعني بتحليل يقبله المنطق.. لكني استمتعت برفقتها، وهذا هو الأهم … لم اشعر وقتها بفارق السن بيننا، كانت متزوجة، أم لأربع بنات، وكنت ذاك الابن الذي تفتقده و تتمناه، تحتويني بعشقها اللامتناهي ..حريصة على إسعادي، أنا، أنا الضيف، ابن الأخت، القادم من مدينة تازة. وهكذا.. كزورق مهدد بالغرق، في بحر متلاطم الأمواج، تقاذفا مشاعري رجع الماضي ومد الحاضر، فعشت تحت ضغط أحاسيس، في وضع تعجز عن وصفه الكلمات، فيه شيء من سحر الموسيقى وعذابات لذيذة لا شيء فسرها و لا علم جلاها، تعددت فيه التقاطعات وسط تضادات وتناقضات أعادت الروح إلى محطة العشق الأول، ردت إليه كما ترد إلى بارئها، يغمرها الانبهار بما وراء الموت، كنت أفكر بحال خالتي خديجة المتقلب، وإذا بناطق القصر الرسمي يزف إلى الشعب المغربي ميلاد سمو الأميرة الجليلة، اختارت لها العائلة الملكية الشريفة اسم خديجة، على اسم خالتي، في نفس اللحظة التي فكرت فيها فيها… يا لها من صدف جميلة. وقتها كان رؤساء بعض الدول يصارعون من اجل البقاء، إذ تراءى لأدمغة فارغة نفث خدام المسيح الدجال في عقدها أن التغيير حل، فكان الربيع العربي في عيون أشخاص جنات عدن، رأوه مختلفا عن كل الأربعة، فاتنا وان لم يزهر فله أو ياسمينه أو بنفسجه، خلابا جذابا كخدع السحرة في عهد هاروت و ماروت، ألهم رجال الشعر والأدب، فكان عنه النثر، و كان عنه الشعر، وكان الحلم، وكان الانتشاء بأنغام السياسة، لكنه في واقعه لفم يكن سوى مسخا، ربيعا غرسه السنة لهب متراقصة سواء نفخت فيها الرياح أم لم تنفخ، طغى هدير ذباباته على طنين حشراته وشقشقة طيوره، صار موسم قطاف رؤوس فساد أينعت، أو سيول أمطار، جرفت جثامين إلى مزبلة التاريخ، فجعت قلوبا، أبكت عيونا، لوعت نفوسا، ذنبها كان تصديقها الكذب،
حينها أقسمت بأغلظ الإيمان أن الأميرة ستبقى آمنة من تهديدات الزمن، بل راهنت على يدي.. تبتر إن مس سموها ضر الربيع العربي ـ. العناية الإلهية إحساس، لا ترى بعين أي نعم، لكنها تذرك بالبصائر النافذة، و في بعض الأحيان لا تتجلى في حينها، إنما يبرزها التأمل بعد أوان.. مرة أخرى عدت إلى تساؤلاتي … أأنا من اختار لها الاسم بقوة تفكيري في حال خالتي ؟ أو أن الأمر مسالة روحية معقدة منغلقة على أسرارها ؟ أم هي إشارة ربانية لمعت في خيالي؟ العناية الإلهية تراها في إحساس يرافقك ولو كرها لزمن، تحاول التخلص منه، لكنه يتحقق، و دون تدبير منك .. كان الميلاد، وكان خروج الدوار من العتمة….وكان تأسيس جمعية الميزاب للتنمية، وكان السعي الحثيث من أبناء الدوار لطي صفحة الصراعات السخيفة بين الآباء، وإنهاء فترة التقاضي على توافه الأمور لأجل ازدهار المنطقة. أو هكذا اعتقدت .. أو هذا ما تمنيت لبياض سريرتي… أتى كهمس لامس طبلة أذني فانساب على جوارحي وأعطى بعض أفكاري حق البقاء بالتميز. وكدت اسمع صوتا يتفجر بداخلي، كنبع عين جارية، يقنعني بمستقبل مشرق، كدت أرى أحلامي وردية تتحقق كما في الأفلام الرومانسية، كدت اضمن حسن الختام والخلود في الجنة… لولا الكذب و النفاق .
أذكر أني حثثت الخطى رفقة رئيس جمعية سيدي احمد الزروق للتنمية لتوثيق فرحتنا على صفحات دفتر ذهبي جعلته إدارة العمالة أول شيء يستقبل الزوار في قاعة حفلات رحبة مهيبة توافد إليها الناس من كل صوب و حدب.. بل و أنا لست بشاعر، أحسست ببحور الشعر تفيض بداخلي.. قصدت استاذي الجليل محمد الزروالي، عرفته قاص جمعية أضواء الليل للمسرح التازية و شاعرها، التمست منه تصحيح محاولتي الشعرية بغرض الصراخ بكلمات أبياتها ملئ الفم كما يفعل الشعراء فطاحل الأدب، في الحقيقة كنت سأقرأ قصيدته، التي شاركت في انجازها بحماسة غمرتني فأفقدتني التركيز.. وهكذا غير أستاذي الجليل حروفا رفضها قانون العـــروض، عوضها بأخرى، وتوقف عند أي تغيير بالدقائق و الثواني، كي يعلمني زحاف الشعر وعلله،خبب، وقص، إقواء، أسماء استعصت على ذاكرتي. ورحب السي محمد البلهيسي بالفكرة، وقد كان مندوبا وقتها مشرفا على الثقافة. لم يكن حلمي سماع تصفيق إنما، تحويل أبيات القصيدة إلى بتلات ورد كان أغلى الأمنيات، أرسل عبقها عبر نسيم عليل من تازة، مغارة العشق، إلى الرباط العاصمة، فتبتهج به.. وهي تبتسم ابتساماتها الأولى للحياة.
وصادف أن تابعت حلقة من برنامج عرضته القناة الثانية اشتهر بعنوانه ـ اخطر المجرمين ـ، فسمعت سجينا يقول جملة،لا زال رنينها يتكرر على سمعي، هو بدوره أكد إحساسي، قال بالحرف : ما إن علمت بميلاد للا خديجة حتى دعوت الله أن يفرج كربي و يفرحني كما فرح القصر و معه الشعب المغربي كافة، ثم بنبرة عجيبة أردف : سبحان الله، الذي استجاب لدعائي بسرعة لم أكن أتوقعها، في الغد جاءني موظف السجن فزف لي بشرى إطلاق سراحي، دعوت الله بمناسبة ميلاد الأميرة فشملني عفو صاحب الجلالة أدامه الله على رأسنا. عندها أدركت، أن هذا الميلاد مختلف، عن أي ميلاد آخر. أي جمال هذا في تكرار هاته الصدف. على مستوى جمعية الميزاب للتنمية نجحنا في نشاطين، أكدا لي سهولة ما تبقى، فرأيت أهدافنا أسهل منالا، لولا احتدام الصراع على الهيمنة، كان سيكون لاسم الميزاب صدى طيبا.. لكن بعض الرياح … تجري أحيانا بما لا تشتهي السفن.. وبدل توفير الطاقات، و بدل توحيد الجهود من اجل الأرض و المستقبل،غرقنا في مستنقع الفردية و المصلحة الخاصة فقدمت استقالتي.. وحاولت التحرر من الإحساس الذي ألزمني الاجتهاد و الكد بترك سفينة الأحلام، لكن الأقدار واقع لا يمكن إلغاءه، العبد يشاء.. و الله يشاء.. و لا يكون إلا ما شاء الله، غرست أربعة عشرة ألف شجرة، حفرت أكثر من بئر، تمنيت رؤية الأرض الجدباء يانعة تعانق الحياة، بل كدت اتذوق فخر النجاح وأنا أحييتها بإمكانياتي المتواضعة المحدودة، لكن .. كنت أظنني أواجه نفرا من بالدو، أعراب جاهلون بسطاء، تحل المحكمة أمرهم، من خلال قرار واضح ملزم فيه رفع لكل لبس، فاكتشفت واجهات أخرى من واجهات هذا الواقع الغامض . خمس عشرة سنة أمضيتها مرتبطا بالمحكمة، اكتشفت فيها الأشباح ترافع في إحدى الملفات، ولم يبق أمامي غير الحلم.. عدت إليه أغرس افتراضيا وأسعد افتراضيا، حدت الى الكتابة لعلي انجح فمتنع بعض القراء بمحاولتي المتواضعة. للا خدوج في برلمان باب مروج. وخديجة في محاولتي الأدبية المتواضعة هذه، ميلاد تحدى متغيرات الزمن، قد أكون أنا وقد تكون أنت أو كل واحد تحدى بيئته، ورفض أن يكون ابنها.. إن هي بقيت على حالها…قابعة في التخلف.. الإنسان ابن بيئته …جملة امقتها… الإنسان الصالح يصلح ما فسد في بيئته.. فاللهم اجعلنا و اياكم من الصالحين المصلحين.
كاتب وجمعوي