قصبة جرسيف وتراثها المجالي المائي الرمزي في ذاكرة بلاد ملوية الوسطى..
نازة بريس
عبد السلام انويكًة
ما بدأ منذ ما يعرف بالأزل يكاد يكون بأول مجهول، يدخل ضمن ما هو تراث، وكل فعلِ انسان وتفاعلٍ هنا وهناك بين مكان وزمن ما حتى الآن هو أيضاً. علما أن في كل فترة من الفترات هناك بقايا ومعالم مادية ولامادية ومن ثمة تراث، بقدر ما يحتويه من هوية بقدر ما يقتضي من بحث ودراسة وحماية ووعي وتحسيس واستثمار، إغناءً لعيشِ وتعايشِ وحاضرِ انسان ومستقبل. وكم هو مفيد ما يُعقد حول التراث من لقاءات علمية هنا وهناك لترتيب ما هو بحاجة لإلتفات وانصات، ومِن لقاءات تطارح تتوجه بعنايتها واعتبارها لمواقع تراثية ضاربة في القدم، لابراز خصوصيتها وموارد زمنها، وتثمينها وتحديد ما من شأنه جعل تراثها داعماً لتنمية محلية عبر ما يحضر من رأي ومقترح.
في علاقة بما تتقاسمه الربوع الشرقية المغربية من تراث واسع ومتباين، كانت منطقة جرسيف وعاءَ تفاعلٍ بشري عبر فترات تاريخ البلاد، لِما هناك من حفريات ومعالم أزمنة غابرة وآثار لا تزال بحاجة لعمل علمي رصين من أجل الكشف عنها وابراز مكامنها واستثمار رمزيتها. ولاشك أن للماء بمنطقة جرسيف رمزية وسلطة خاصة، فقد كان ولا يزال مكوناً بيئياً معبراً وعنصراً فاعلاً موجهاً للحياة في شموليتها، وهو ما جعل تراث جرسيف ومحيطها بخاصيةٍ بيئيةٍ وتفرد موضع، من خلال ما هي عليه الموقع من التقاء مجريين مائيين شهيرين فيها ضمن مشهد مورفولوجي طبغرافي ملفت للنظر، ومن ثمة ما طبع المنطقة من هوية مجالية منذ القدم فكانت بأثر فيما هي عليه من تراث غني متعدد في أوجهه وتجلياته. علماً أن جرسيف “أجرسيف”، ربما اسم بجدلِ بنيةِ بيئةٍ وعلاقة بطبيعةِ موقعٍ ونقطة تلاقي وادين “ملوية” و”مللو”..
وإذا كانت منطقة جرسيف بمثابة وعاء لإرثٍ انساني واسع يجمع بين شاهدِ عُمران ورمزية زمن، فلا شك أنه بوجدان وحس وشعور خاص وتمَثل واعتقاد ورواية وشأن وامتداد في الذاكرة المحلية كأثاث أصيل في شموليته. وبقدر ما يطبع المنطقة من تراث لامادي جامع بين نمط عيش وتقاليد وعمارة وتعمير ولباس وغذاء وخبرات واحتفالية وفرجةٍ وتعبير، ذلك التراث الذي تقول اليونسكو أنه كل ممارسة و تصوّر وتعبير ومعارف ومهارات، كذا ما يرتبط بهذا وذاك من نِتاجِ حرفٍ وأمكنةٍ ثقافيّة وغيرها، وأن ما هو متوارث رمزي من جيل لجيل هو ما يبدعه الانسان فرداً وجماعة معاً من جديد بشكل مستمر ووفق ما ينسجم مع بيئة ما وزمن ما، بقدر ما تزخر منطقة جرسيف بتراث مادي بقدرٍ عالٍ من الأهمية والقيمة التاريخية الانسانية، لِما كان عليه مجالها الحيوي الفاصل من أدوار عدة ووقعٍْ في زمن البلاد والعباد.
ولعل جرسيف موقع فسيح متميز واستقرار بشري قديم ارتبط بالماء أساساً ووادَيْ “ملوية” و”مللو” خاصة، وهي ايضا ما عُرف في زمن المغرب الوسيط بالقصبة التي اختارها بنو مرين استراتيجياً لتخزين وتأمين موارد عيشهم كما هو غير خاف عن باحثين، قبل أن تتحول جرسيف القصبة هذه الى دار إمارة على عهد السلطان أبي عنان المريني أواسط القرن الثامن الهجري. وكان من تَميُّزها خلال هذه الفترة من تاريخ البلاد في علاقة بمياه الوادين، انتشار بساتين أشجار مثمرة عدة لدرجة تذكر المصادر أنها كانت تبدو كأنها جنة آدم لِما يحيط بها من جفاف.
ضمن هذا الغنى الذي يطبع جرسيف ومحيطها تراثياً، ارتأينا اطلالة حول ما هو رمزي في علاقة بالماء، ومن ثمة بعض من الاشارات عن مكونين مجالين أساسيين محليين هما وادَيْ”ملوية” و”مللو”. علماً أن ما هو رمزي تراثي محلي مُرتبط بأشرطة مياه تتقاسم المجال وتحكُمه منذ القدم، هو إرث انساني وذاكرة وكيان وهوية حاملة لتميزٍ وثقافة وحضارة. مع أهمية الاشارة الى أن مساحة هامة من معالم تراث المنطقة اندثرت مع مرور الزمن وما تبقى يوجد على ايقاع ضغوط عدة ومتداخلة. وعليه، ما هناك من حاجة ليس فقط لإلتفات وإنصات وانقاذ بل لبحث وتنقيب ودراسة وورش عمل في أفق ما هو إنماء ونماء رافع.
وغير خاف أن منطقة جرسيف لا تزال بغير ما هو شاف من أبحاث تراثية علمية ومن ثمة من نصوص مؤسسة رصينة علمية أكثر تجاوباً مع خصوصية زمنِ وطبيعة مكانٍ ومكامنِ تراث واسع، ومن هنا أهمية تكاثف جهود وفعل وتفاعل الجميع كل من موقعه من أجل ما هو داعم مساهم في حماية تراث المنطقة وتثمينه وجعله بدور لفائدة حاضرٍ ومستقبلٍ معاً، فضلاً عما ينبغي من وعي بقيمة إرث حضاري وبسبل دمجه كثراء وثروة في النماء المحلي.
ولا شك أن أهل وسَلَف جرسيف عبر تلاقح الأجيال بين وادَيْ “ملوية” و”مللو”، كان بدور في حماية تراث المنطقة الرمزي من ثقافة عيش وتعايش وتقاليد وقيم حياة وتعبير وسبل تدبير بيئة وعلاقات وغيرها. ولولا السلف وحفاظه على ما طبع المنطقة من هوية وتراث لمَا تعرف عليه الخلَف ولمَا ظل حاضراً حياً عابراً للزمن. إن سبل وثقافة وتجليات استغلال مياه وادَيْ “ملوية” و”مللو”، ومن ثمة ما هناك من مياه جارية وضفاف ونُظم حياة وطبيعة تنظيم مجالي وسواقي وتدبير وتقاسم ومنظر زراعة وأغراس وغيرها، تشكل بحق خصوصية منطقة وهوية مكان وشواهد انسانية انسان ضاربة في الزمن.
من هنا ما ينبغي من تثمين وحماية لفسيفساء تراث المنطقة وتحفها الانسانية المادية واللامادية، من خلال لِما لا متحف خاص برؤى وأرشيف وأثاث محلي ما، من شأنه حضن وتجميع وابراز وتسويق ما هي عليه المنطقة من هوية بيئة مائية وغنى وتنوع تراث. كذا ما ينبغي الاشتغال عليه من أجل لِما لا دليل جامع لمعالم وعلامات تراث جرسيف، فضلاً عن اطار داعم كما بالنسبة مثلاً لمركز بحث ودراسات في التراث المحلى، لإثارة ما هو بعلاقة وجمع ما ينبغي من معطيات ووثائق وأرشيف يخص المجال. ناهيك عما يمكن أن يسجل من قيمة مضافة رافعة للتنمية المحلية، والترافع في أفق تصنيف ضفاف وادَيْ “ملوية” و”مللو” بمجال جرسيف المدينة وجوارها تراثا وطنيا ولِما لا انسانيا.
إن تراث جرسيف في مستواه المادي واللامادي، بقدر ما يشكل عنصراً من عناصر تاريخ المنطقة وهويتها واستمراريتها وتطورها وتفاعلها ضمن أزمنةٍ ومكان، بقدر ما هو بمثابة ذاكرة جماعية ونِتاج تلاقح أجيال وسلفٍ عبر قرون من الزمن ومن ثمة سبيلاً لتموضع وتموقع خلفٍ في كل هذا وذاك. ولا شك أن جرسيف حيث وادَيْ”ملوية” و”مللو” هو وعاء تراث بأصول متعددة، لِما كانت عليه المنطقة من علاقات وانفتاح على شرق البلاد وغربها خاصة، من خلال سبل عبور ورحلةٍ وترحالٍ وقوافل تجارة ورعي وثقافةِ مياه. وهكذا تبقى قصبة جرسيف إرث بيئي مائي انساني أصيل بحاجة ليس فقط لتثمين وحماية واغناء واستثمار، بل لِما من شأنه ابراز مكامنه وتجلياته وتميزه من خلال ورش واعد رافع من تأثيث وتشارك معنيين محلياً جهوياً ووطنياً. وليس رهان جرسيف الانمائي وتطلعاته الترابية على أساس رمزية موضعٍ بملتقى وادين “مللو” و”ملوية”، حلماً ولا جدلاً مستحيلاً. فقط ما ينبغي من رؤية وبُعد نظر وإرادة، فضلاً عن قناعة وسبل تنسيقٍ وتعاون وثقافة تشارك.
مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث*