فضلا عن الأثر المادي.. عظمة تاريخ تازة ايضا ذلك الانساني الرمزي الدفين ..

تازة بريس14 ديسمبر 2025آخر تحديث : الأحد 14 ديسمبر 2025 - 9:42 مساءً
فضلا عن الأثر المادي.. عظمة تاريخ تازة ايضا ذلك الانساني الرمزي الدفين ..

تازة بريس 

عبد السلام انويكًة

ليس تاريخ مدن المغرب العتيقة هو ذلك الأثر المادي الشاهد حول هذا وذاك من الماضي فقط، انما ما هو دفين بها أيضا من زمن عقليات ودهنيات وجدل مجتمع ونمط عيش ومصدر معيش… منذ العصر الوسيط، والذي بحاجة لعناية شافية من قبل الباحثين عملا وتفاعلا مع ما هناك من وعي ودرس وحضن بمؤسسات بحث علمي انساني بدول الغرب. ورغم كل هذا التدفق الثقافي والحداثة، يبقى تركيب ونسيج مدن المغرب العتيقة الزمني وعاءات حية بحركة تاريخ وتعبير وذاكرة بمشاهد حضارة وانسانية انسان. بحكم موقع البلاد وتفاعلها البشري عبر العصور، فهي بعدد من المدن الممتدة في القدم والتي جعلته بإرث مادي ولامادي واسع في بعده الانساني، ولعل من هذه المدن/ الحواضر نجد تازة المنيعة والمنتصبة بإحدى شرفات جبل مطل على ممر شهير باسمها، ذلك الذي يصل شرق البلاد بغربها ومقدمة الريف شمالا بمرتفعات الأطلس جنوبا، مدينة بمعالم تاريخية شاهدة على ما كانت عليه من أدوار ومظاهر عيش ومستقر وسلطة رمزية منذ قرون.

وإذا كانت تازة كما هو غير خاف عن دارسين تعود للقرن السادس الهجري، علما أن ما هو نشأة ونواة لا يزال بتعدد رأي وتباين نظر. فالثابت بقوة النصوص كونها شهدت فترة ريادة على عهد دولة بني مرين، التي بنهايتها تكون تازة قد طوت صفحة ذهبية من زمنها حيث أعظم ما تحضنه عن هذه الفترة من إرث جامع بين عمارة دين وفكر وسياسة وأعلام وغيرها. مع أهمية الاشارة الى أنه رغم ما شهدته المدينة من فتور ظلت محطة ذات أهمية خلال الفترات اللاحقة، لِما لها من سلطة موقع ومحورية ممر. قبل أن تطفو من جديد وتبرز بشكل لافت مطلع القرن الماضي، نظرا لِما ارتبط بها من تطورات سياسية وأمنية حرجة، وما طبع ممرها من وقع خاص في علاقة شرق البلاد بغربها، إثر ما كانت عليه الحدود الشرقية من أطماع استعمارية، انتهت بفرض حماية فرنسية ونقل عاصمة البلاد من فاس الى الرباط، وهو ما تقلصت معه أهمية تازة بعد تحويلها الى قاعدة عسكرية داخلية، بعد ما كان لها من تفاعل تجاري وارتباط ثقافي وسياسي مع فاس على امتداد قرون. ويسجل أنه حول زمن تازة ووقائعها وتحولاتها وكيانها وهويتها وما يهم تاريخها الاجتماعي خلال العصر الوسيط، لا بديل عن أهمية الانصات لِما هناك من ارث وثائقي محلي حرص السلف على حفظه هنا وهناك، قبل أن يشهد أرشيف البلاد ما شهده من إلتفات وتحديث منذ حوالي العقدين، ليس فقط من خلال ما أحيط به من تأطير ومؤسسة وتدبير وتطلع، بل ايضا لِما حصل من وعي به وبما من شأنه مساعدة الباحث على النبش في قضايا مدن البلاد العتيقة، وتأسيس كتابة رافعة بقدر معين من الانتقاء والتناسب والوثائق.

عن الرصيد الوثائقي المغربي الأصيل في علاقته بتازة خلال العصر الوسيط، ارتأينا اطلالة على الحوالات الحبوسية التي ارتبطت لدى المغاربة بوضع أملاك في خدمة صالح عام، وقد توزعت على محلات تجارة وأراضي وبساتين وغيرها، وكانت مداخيلها تشكل روح حياة واستمرارية مدارس وجوامع وزوايا ومرافق اجتماعية وغيرها. وغير خاف ما هناك من صعاب تخص البحث في زمن مدن مغرب العصر الوسيط الاجتماعي، وعليه ما يمكن أن تسهم به حوالات هذه المدن الحبوسية من معطيات ذات أهمية.  والتي تشكل تراثا رمزيا وعلميا اصيلا كان ينظر اليه الى عهد قريب، على أنه بنوع من الجفاف المعرفي وبدور هامشي في حقل التاريخ وكتابته. علما أن هذه الحوالات هي أرشيف / ذخائر تهم قضايا عيش وتنظيم وعلاقات ومظاهر حياة وغيرها، وأن من شأن ابرازها ملأ بياضات تطبع نصوصا مصدرية كما بالنسبة للحوليات حيث تخمة ما هو سياسة وحروب وبطولات وزعامات وغيرها. ولعل وحوالات المدن العتيقة الحبوسية التي تجمع في مضانها بين ممتلكات وخبر مرافق وعقارات واحصاءات ومصاريف ونصوص عدلية لتحبيسات وغيرها، اعتمدت أول الأمر على عهد دولة بني مرين التي اشتهرت بخدماتها الوقفية. بحيث أحاط بنو مرين تدوين معاملات الوقف بقدر كبير من العناية، من خلال دفاتر خاصة هي الآن ارشيف ذو أهمية في قضايا المجتمع المغربي الوسيط الاجتماعية والاقتصادية والفكرية. ولعل بقدر ما تقاسمت حوالات تازة الحبوسية المرينية جوانب دفينة في تاريخ المدينة، بقدر ما توزعت على محبسين صوب مدارس وأضرحة فقهاء وأعلام ومجاري وسواقي ودور عبادة وزوايا وجوامع وحمامات وغيرها. وغير خاف ما هناك من صنف رسمي في هذه الحوالات لدقة تدوينه وتوثيقه وصدقيته وأهميته في الكتابة التاريخية، ومن صنف غير رسمي منها وهو الخاص بقضايا وممتلكات ذات طبيعة أسرية كثيرا ما يصعب على الباحث بلوغها.

ولعل تازة بأرشيف هام من الحوالات الحبوسية، لِما طبع أهلها من ثقافة وقيم توقيف باعتبارها عملا خيريا انسانيا، خدمة لِما ينفع الناس من خدمات عبر هذا المرفق والأسلوب أو ذاك، وهو ما دونوه وأشهدوا عليه في وثائق حبوسية تناولت جوانب عدة وأمكنة بمعطيات هامة، لابراز ما كانت عليه المدينة من علاقات وتفاعلات وقيم وغيرها. خاصة وأن تازة كانت بموقع رمزي متميز زمن دولة بني مرين، الذي جعلها في مقدمة مدن البلاد لِما كانت عليه من نشاط مجتمع وتجليات تفاعل أورد عنه الحسن الوزان.” تشتمل هذه المدينة على ما يقرب من خمس آلاف كانون.. قصور الاشراف والمدارس والمساجد .. في غاية الاتقان، وينحدر من الأطلس نهر صغير يمر بالمدينة ويخترق الجامع الكبير، ويغير الجبليون احيانا مجراه عندما يختصمون مع سكان المدينة ويصرفونه الى مكان آخر فتتأذى المدينة كثيرا، اذ لا يمكن حينئذ طحن الحبوب ولا الحصول على ماء صالح للشرب ويضطر السكان الى الاكتفاء بماء الخزانات العكر.” هذا قبل أن يضيف حول وضع المدينة الترابي الاجتماعي الفكري، عندما أشار الى أن المدينة في تقديره تحتل الدرجة الثالثة في البلاد لمكانتها وحضارتها، خاصة عندما ذكر أنها تتوفر على جامع أكبر من جامع فاس وثلاث مدارس وحمامات وفنادق وأسواق منتظمة، فضلا عن إشارات تخص شجاعة الأهالي وكرمهم والذين منهم علماء واخيار وأثرياء، فضلا عن تعايشهم مع فئة اليهود الذين بحوالي خمسمائة دار. معرجا في اشاراته التاريخية الى أن ملوك مدينة فاس من بني مرين عادة ما يعينون ثاني ابناءهم عليها، مشيرا الى أن المدينة تستحق أن تكون حاضرة المغرب لمناخها وطبيعة مياهها، مضيفا أن ملوك بني مرين كانوا يقضون بها الصيف كله.

هكذا اذن هي صورة تازة بعيون الحسن الوزان مغرب العصر الوسيط، وهذا ما اثاره من اشارات حول مكانة المدينة كأنشطة وعلاقات وتفاعلات ومرافق مجتمع أطرتها متون حوالات حبوسية بمعطيات هامة. تلك التي يسجل أن أول من انفتح عليها واستثمرها في عمله البحثي حول المدينة قبل أزيد من ثلاثة عقود، كان هو مبروك الصغير الذي أثث أطروحة نال بها شهادة دكتوراه بجامعة السربون، مؤثثا مؤلفا علميا في حوالي سبعمائة صفحة، لعله بقدر كبير من الأهمية التاريخية والاركيولوجية حول تازة والذي لا يزال أعظم نص بحثي تحتويه خزانة تازة التاريخية، بل مؤلفا مرجعيا علميا أهم وأفيد لكل باحث ودارس لحد الآن. وكانت حوالات تازة الحبوسية التي يعود اطلاعنا على جزء منها لأول مرة لأواسط تسعينات القرن الماضي، قد استحضرت المدينة ضمن مشاهد بيئية واجتماعية فضلا عن تجليات علائقية ومعيشية وتعايشية، عبر ما ورد فيها رغم صعوبة قراءة مضامينها لشدة تقادمها من حديث عن مرافق/ دور علم وفكر وتربية من قبيل المدرسة المرينية (مدرسة المشور)، وما خص به السلطان أبي الحسن وابنه السعيد هذه المعلمة من التفات عبر أملاك بفاس وتازة تم تحبيسها عليها لضمان نشاطها، ومن الوثيقة الحبوسية هذه يستشف ما كانت عليه هذه المدرسة من بناء وتوجيه ومحراب وموضع صلاة وعلاقة بأزقة مدينة وتواريخ ذات صلة واسماء سلاطين وغيرها.

نفس الشيء ما ارتبط بوثيقة تحبيس تخص ضريح الشيخ بن بري التازي امام القراء المغاربة، والتي تضمنت اشارات هامة تخص شخصية فقهية تازية من حيث مؤلفاتها واهتماماتها ونبوغها فضلا عن تاريخ ولادة ووفاة. ناهيك عما جاء في حوالات تازة الحبوسية زمن بني مرين، من اشارات توزعت على حاجات المدينة من ماء وسواقي في علاقة بدور عبادة وأمكنة وأكرية ومنتوجات ونظافة وذكر لدروب وغيرها، كلها مساحات من شأنها بلورة معطيات بحقيقة تاريخية نسبية طبعا. مع أهمية الاشارة الى أن رصيد تازة من وثائق تحبيس لا يقتصر على فترة العصر الوسيط، بل يمتد ليشمل ويستحضر ما طبع المدينة خلال زمنها الحديث من علاقات ومعاملات ومبادرات سلطانية وعناية بعمارتها الدينية، وبخاصة جامعها الأعظم وأثاثه الروحي وتقاليده من أنشطة قراءات حزبية ومجالس وغيرها، وكذا من دعوة للتعاون وتجاوز النزاعات وتيسير حاجيات المدينة في علاقة بحيطها. جدير بالاشارة ختاما الى أن المستشرقين كانوا أول من انتبه لأهمية الوثيقة الحبوسية في تاريخ المغرب ومدنه العتيقة، وفي مجال المعرفة التاريخية حول المجتمع المغربي. ومن هؤلاء نجد الفرنسيين من قبيل ألفريد بيل ولفي بروفنسال وجاك بيرك وغيرهم. مع ما يسجل حول تأخر انفتاح اعمال البحث التاريخي المغربية على هذا الوعاء الوثائقي وبشكل خجول نهاية سبعينات القرن الماضي، وعليه ما كانت هناك من قيمة مضافة وما يحسب لجهود من انفتح من الباحثين المغاربة على هذا التراث / الأرشيف، من قبيل الاستاذ عبد الله العروي ومحمد المنوني ومحمد بن شريفة غيرهم، الى حين ما ينبغي من وضع وأفق يليق بأهمية أرشيف تازة الأصيل تحديدا منه حوالات المدينة الحبوسية، عبر جعلها رهن اشارة الباحثين من خلال مؤسسة أرشيف المغرب إسوة بعدد من مدن البلاد العتيقة من قبيل فاس، والى حين أيضا ما ينبغي من جيل باحث جديد ومن إغناء وتراكم في معرفة تاريخية مغربية عبر الوثيقة الحبوسية.

رئيس مركز ابن بري للدراسات وحماية التراث

 

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق