”اللَّهُمَّ أدِمْها نعمة واحفَظْها من الزوال“، أو لنقل فقط : ”اللَّهُمَّ لا حسد”..
تازة بريس
بوجمعة العوفي
الكثير من المغاربة لا يعرفون اليوم ظاهرة ” التَّخْنَاشْ ” التي تنتمي إلى مَوْرُوثِهم الثقافي القديم. إذ ظلت هاته الظاهرة مرتبطة بطرق التعليم الديني التقليدي، ومِنْ ضمن ما تعنيه في هذا الموروث: احتضان المغاربة وتكفلهم بحفظة القرآن الكريم من الشباب واليافعين، وهجرة هؤلاء إلى بعض المساجد والرباطات والزوايا الدينية، التي كانت متمركزة بشكل أساس في شمال المغرب وجنوبه (جبال طنجة ومنطقة سوس ). بحيث كان على طالب العلم الجديد أو المبتدئ أن يقيم زاهدا بإحدى هاته الأماكن لفترة معينة، ويخضع لقوانينها الصارمة وإشراف فقهائها وشيوخها الكبار حتى يتمكن من حفظ كتاب الله وفهمه وترتيله، إضافة إلى تعلم أصول الفقه والنحو وبعض علوم الدين وغيرها .. ومن ثَمَّ، يبلغ الطالب أو ” المحَضْري ” مرحلة التخرج، ويَشْرَع حينها في البحث عن ” عمل ” أو ” منصب ” كإمام ــ مثلا ــ في أحد المساجد أو مُدَرِّسا في كتاتيب ودور تعليم القرآن في المدن والقرى النائية.
فيما يُشْبِهُ نفس الوضع ونفس التقابلات الدلالية، يمكننا الحديث اليوم في مغربنا وفي عالمنا العربي والاسلامي، الذي ما زالت تطبعه الكثير من التراتُبيات والممارسات والتصورات التقليدية والتقليدانية في السياسية والاقتصاد والاجتماع، عن ظاهرة ” التَّخْناشْ السياسي “. فـما ” أَشْبَهَ اليوم بالبارحة ! “، إذْ ما زالت نفس الظاهرة ونفس التقابلات الدلالية قائمة في مشهدنا السياسي الراهن بشكل واضح وصريح. حيث ما زال بوسعنا أيضا تشبيه الكثير من أحزابنا السياسية وجمعياتنا ” الكُبرى ” بالرباطات والزوايا الدينية، و” الزعيم ” أو ” الفاعل ” الجديد، القادم إلى حقل السياسة بـ ” المحَضْري ” المتدرب، الذي يكون عليه أن يخضع بدوره، ليس فقط لإشراف الشيخ / الزعيم وسلطته، بل حتى لنزواته و” بَركَاته ” النَّافعة كذلك، حتى يتمكن هذا الوافد الجديد من الحصول على منصب قار ومحترم في الحزب : ما دامت المسئوليات في أحزابنا قد أصبحتْ مصدرا للوجاهة والثروة والنفوذ، ومناصب تؤدي بدورها أيضا إلى مناصب سامية أخرى في الحكومات ودواليب الدولة المريحة والناعمة.
والمتأمل لمشهدنا السياسي المغربي الراهن، يستطيع كذلك ـــ من دون جُهد كبير ــ التعرف على الكثير من الفقهاء والزعماء السياسيين الجدد ( يمينا ووسطا ويسارا )، والذين وصلوا إلى ما وصلوا إليه من مكانة وحظوة مرموقتين في الحزب وفي الدولة عن طريق ظاهرة أو عملية ” التَّخْنَاشْ ” السياسي، ثم بفضل الخصائص السحرية لعملية الاحتضان أو التبني من طرف رئيس الحزب أو رئيس الجمعية أو شيخ الزاوية ( لا فرق ). وبالرغم من أن نفس التشابهات ما زالت قائمة عندنا بين ظاهرتيْ ” التخناش الديني ” و ” التخناش السياسي ” شكليا أو ظاهريا على الأقل، إلا أن الكثير من الفروقات الجوهرية قد تبدو واضحة بين الظاهرتين كذلك، ليس فقط فيما يتعلق بالغاية، وبنوعية التكوين، ونوع الشواهد وحجم التزكيات والصلاحيات التي يمكن للمتخرج الحصول عليها من هاته المؤسسات، بل فيما يتعلق أيضا بنوعية ” الشيوخ ” و ” المريدين “، بطبيعة ” المُعلمين ” و ” المُتعلمين “، بقدرات ” المخنِّشين ” و ” المُخَنَّش ” لهم على حد سواء.
وليس كل من مَرَّ بمرحلة ” التَّخناش ” ومؤسساته القديمة والمُستحدثة، أو خضع لتكوينها وأقام بأقسامها ” الداخلية ” كذلك، قد يصبح بالضرورة فقيها أو زعيما سياسيا ناجحا ومحنكا. لدينا الكثير من النماذج والأمثلة : إذ يكفي الضغط على زر تشغيل جهازنا العجيب المُسمى بـ ” التلفزيون ” لنكتشف هذا الجيش أو الكم الهائل من المتخرجين من مؤسسات ” التَّخْنَاشْ السياسي ” المغربي، ونرى كيف يَشْرعون ــ بقدرة قادر ــ في التنظير ليوتوبيا السياسة وعافية الاقتصاد وصلابة الاجتماع، ويبشرون بغد أفضل لشعب وكأنه يقطن في السويد. شخصيا، كان لي الكثير من الأصدقاء من هؤلاء المتخرجين أو المُتنفِّعين من مؤسسات ” التخناش السياسي “، منهم المُدراء والعُمداء وحتى الوزراء .. لكنهم بعد استكمال التكوين وحفلات التخرج تنكروا لي ولشيوخهم وللكفيل ولمؤسسات ” تخناشهم ” السياسي .. و” اللَّهُمَّ أدِمْها نعمة واحفَظْها من الزوال “، أو لنقل فقط : ” اللَّهُمَّ لا حسد.
شاعر وناقد فني مغربي