حول زمن السسيولوجيا المغربية بعيون السسيولوجي الباحث محمد أعراب
تازة بريس
محمد اعراب
وجدت السسيولوجيا المغربية نفسها غداة الاستقلال، أمام تراكم من الدراسات والكتب التي تم إنتاجها خلال المرحلة الاستعمارية، من قبل باحثين سسيولوجيين وضباط “شؤون الأهالي”، عبأتهم الإدارة الاستعمارية لخدمة تدخل استعماري، يتأسس، ويستند على معرفة للمجتمع المغربي خلال هذه الحقبة التاريخية. وتجدر الإشارة أن رصد تاريخ السسيولوجيا المغربية وتطورها، لا يمكن القيام به دون الحديث والوقوف على مساهمة ابن خلدون، والذي حظي باهتمام السسيولوجيين المغاربة غداة الاستقلال، حيث كان يدرس للطلبة باعتباره رائدا أولا للسسيولوجيا المغربية. ويظل وجه ابن خلدون، راسخا، وبارزا في تاريخ الفكر السوسيولوجي المغربي. حيث أرسى ابن خلدون دعائم البحث الموضوعي والتحليل العلمي لديناميكية المجتمعات لكن الباحثين العرب بعده لم يتبعوا نهجه، وسلكوا مسلك القراءة المعيارية. والسؤال الذي يتبادر إلى ذهننا في هذا السياق هو الآتي: لماذا بقي ابن خلدون وحيدا، إن لم نقل فريد في زمانه، ودون وريث في الفكر العربي؟ إنه سؤال يتجاوز حدود هذه الورقة. وهذه الدراسة.
إن التفكير في السسيولوجيا المغربية وفي تطورها وقضاياها، يقودنا إلى هذه النشأة التي حدثت إبان الحقبة الاستعمارية. ولعل الطلب على السسيولوجيا هو نتاج لمشروع مجتمعي : إنه مشروع استعماري حيث كانت السسيولوجيا مجرد أداة، يتم تعبئتها لتوفير غطاء علمي. ولا حاجة لنا أن نذكر هنا، بأطروحة “روبير مونتناي” حول “البربر والمخزن” التي تمثل نموذج النظرية الاستعمارية، والتي تعكس الوجه الإيديولوجي الاستعماري للسسيولوجيا الاستعمارية. ولكن، ورغم ذلك، كانت دراسة لها قيمتها المعرفية الأمبريقية. ولا يسمح لنا المقام هنا لتقديم دراسة تقويمية لهذه البحوث. وتجدر الإشارة هنا، إلى أن السسيولوجيا، التي ستنشأ غداة الاستقلال سنة 1956، ستبدأ باتخاذ موقف نقدي تجاه هذا الإرث الكولونيالي. فنشأة السسيولوجيا في المغرب المستقل، ارتبطت أساسا باسم بول باسكون (1932 – 1985) الذي حاز على الجنسية المغربية في يناير 1964، وقد أسس رفقة جماعة من زملائه ينتمون إلى حقول معرفية متنوعة، وكان ينظر إلى البحث السسيولوجي في هذه الفترة، باعتباره عملا نضاليا. إن جل أعمال “بول باسكون” ومعه آخرون في الحقل السسيولوجي، أنجزت في إطار السياسات العمومية (السياسة الزراعية –السياسة المائية). إذ كانت علاقته بالسسيولوجيا القروية جد قوية، لوفرة وغزارة إنتاجه في هذا الحقل السسيولوجي، الذي تميز بدقته وصرامته العلمية. مع باحثين آخرين ينتمون لمؤسسات جامعية أخرى، انخرطوا بدورهم في هذه السسيولوجيا الملتزمة من قبيل عبد الكبير الخطيبي ومحمد كسوس. وقد اتسمت السسيولوجيا التي ظهرت ومورست خلال سنوات الستينات والسبعينات من القرن الماضي، بطابعها النقدي على المستوى النظري والسياسي.
لقد كان اشعار هذه الحقبة هو تحرير علم الاجتماع من الجهاز المفاهيمي الاستعماري وتطبيقه في البحث السسيولوجي في المغرب، حيث رأي عبد الكبير الخطيبي : “إن تحرير السسيولوجيا يقتضي عدم تبعيتها علميا للمتروبول “دولة المركز “فرنسا” وسياسة نقدية، تقدم على أساس التحليل المقارن للدول التي لم يتم دراستها وتحليلها بكيفية جيدة .فالمهمة الأساسية للسسيولوجيا تتحدد في القيام بعمل مزدوج، أو حسب تعبيره نقد مزدوج: “هدم ونقد المفاهيم ذات النزعة المتمركزة حول الذات “أي الغرب” أو “الآخر”، والسائدة لدى السسيولوجين اللذين تكلموا نيابة عن المغاربة. والقيام في الوقت ذاته، بنقد المعرفة والخطابات التي تم بناؤها من قبل المجتمع المغربي أو العربي حول ذاته. كتب الخطيبي في مقال تحت عنوان “لنعمل على تحرير السسيولوجيا” ما يلي: “بالنظر إلى ما نسميه بالعالم الثالث، لا يمكن لنا أن ندعي أن التحرير قد تجلى في تبلور فكر سسيولوجي نقدي خالص، تجاه الآلة الإيديولوجية الأمبريالية والنزعة المركزية للغرب تحرر يمكن أن يكون في الوقت ذاته تفكيك مفهوم مقتبس من عدة دريدات للخطابات التي تساهم بصورة مختلفة في الهيمنة الأمبريالية.
كان البحث السسيولوجي والالتزام السياسي بالنسبة للجيل الأول من علماء الاجتماع المغاربة، أمران متلازمان، حيث لا يمكن الفصل في هذه المرحلة بينهما. كان من الضروري على كل باحث أن ينخرط بكيفية واضحة في مشروع مجتمعي محدد. وكان هذا الالتزام يترجم حسب بول باسكون فيما كان يصطلح عليه ب “سسيولوجيا الفعل. وهو مفهوم قريب إلى حد ما من “السسيولوجيا العملية الملتزمة “. في نص برغماتي تحت عنوان “السسيولوجيا من أجل ماذا؟ يقدم ويعرض بول باسكون المبادئ الكبرى لنشاطه العلمي”، فالمعرفة حسب رأيه ينبغي أن تعمل على تغيير العالم. فالسسيولوجيا ليست محايدة ولا عملية. “إن الدفاع عن الفلاحين والجماهير المستغلة يجب أن تتحرك وتنشط فعالية السسيولوجي. نحن نرغب في أن نطرح القرويون والفلاحون أسئلة وإشكاليات .إلى جانب ذلك، ان ينظر إلى تدريس السسيولوجية وتعليمها في الجامعة والمعاهد العليا، عملا ملتزما، ونضالا سياسيا يدخل في إطار السسيولوجيا الملتزمة. إن التعليم الجامعي للسسيولوجيا يعد في حد ذاته ممارسة نضالية وتربوية. تبدو هذه الحقيقة، وهذا الاتجاه بصفة خاصة في دروس ومحاضرات وأعمال الدكتور محمد كسوس، الذي كان يوظف ويعبئ معرفته السسيولوجية بصفته مناضلا سياسيا والعكس صحيح. لقد كان الأستاذ محمد كسوس، في تدخلاته وحواراته السياسية حول قضايا مرتبطة بالسياسة والتعليم والتنمية، يحلل ويناقش هذه القضايا بطريقة بيداغوجية قصد توضيحها وتفسيرها بدقة. لهذا، غالبا ما نجد في حواراته ومداخلاته، عروضا نقدية حول النظريات والمفاهيم ذات الصلة بالتحديث والتغيير، والخصوصية الثقافية والإيديولوجية. وتجدر الإشارة إلى أن أغلب مداخلاته قد تم نشرها في مجلات علمية أكاديمية، يديرها أساتذة باحثون. كما نجد دراسات باللغة العربية، نذكر على سبيل المثال: “محاضرة حول العقلانية “، “الحداثة، ورهانات درس السسيولوجيا المغربية” ونص غير منشور، حول “القيادات والتراتبات الاجتماعية في المغرب”.
إن الإنتاجات الأولى في سسيولوجيا حقبة الاستقلال، كانت تغلب عليها حسب تعبير “كارل بوبر” “الابستملوجيا المتفائلة والتي تترجمها الدعوة إلى تحرير المفاهيم وتحرير العلوم الغربية، وهذا تقليد فكري، يعود على الأقل إلى عهد فرنسيس باكون، الذي يؤكد أن الحقيقة تصبح واضحة وجلية، كلما ابتعد وتخلص الباحث، والملاحظ، عن الأحكام القبلية والمسبقة، الذاتية والإيديولوجية وغيرها… ويرى البعض أن الباحثين اللذين لهم نوايا سيئة، لا ينتجون سوى معطيات ومعلومات زائفة، ومغلوطة. لهذا يجب تنقية وتصفية البحوث الأمبريقية الكلونيالية، من نزعاتها وأحكامها القبلية الزائفة، والتخلص منها قدر الإمكان، والعمل على التحرر من المفاهيم والإيديولوجيات التي تؤطرها، وتوجهها. وكان “باسكون” يرى أن السسيولوجيا قد تصبح بلا جدوى، إذا لم تقم بمهمة الكشف والتعرية لقد كانت السسيولوجيا يحكمها منطق الكشف والتعرية لكل ما هو خفي وكامن، تصحيح لكل واقع اجتماعي مشوه ومزيف، وتغيير المجتمع. لهذا، وانطلاقا من هذه الرؤية، وهذا الإطار الإيديولوجي، ظهرت أهمية وقيمة البحث الميداني في السسيولوجيا. واعتمدت البحوث السسيولوجية في هذه المرحلة، على أسلوب الملاحظة المباشرة، والمقابلات الميدانية مع الفلاحين، والنساء القرويات، والشباب. لكن لا يمكن لنا، أن نفسر هذا الاهتمام بالبحث الميداني فقط، بل أيضا بدوافع إيديولوجية. بل إن بول باسكون، كان مسكونا بالبحث في أدق التفاصيل، والتحضير الدقيق المنظم لدراساته. لهذا، لم تكن زياراته الميدانية عبارة عن تواصل المناضل مع جمهوره، بقدر ما كان أيضا، يرجع إلى طبيعة تكوينه العلمي الرصين في العلوم الطبيعية، لأسباب سياسية وعملية، إن تاريخ السسيولوجيا، وفيما بعد تاريخ الأنتروبولوجيا، تغلب عليه الدراسات في الوسط القروي، حيث كانت تسمح الظروف العامة آنذاك في إطار برامج التنمية، تسمح الإمكانية إجراء بحوث ميدانية بحيث أصبح العمل الميداني، مرادفا للتنقل والخروج إلى الوسط القروي. إن معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة، وبصفة خاصة شعبة العلوم الإنسانية، بهذا المعهد، كانت متخصصة بالبحث في العالم القروي، وهي التي كرست هذا التوجه نحو السسيولوجيا القروية في المعرب.
كانت النظرية الماركسية تهمين خلال سنوات الستينات والسبعينات من القرن الماضي، وذلك على مستوى النماذج والبراديكمات النظرية. لقد كانت سسيولوجيا تلك المرحلة أو الحقبة، تحاول تفسير آليات سير المجتمع من منظور شمولي نسقي .ولقد قارب بول باسكون مجتمع “الحوز” والمجتمع المغربي عامة، مستخدما مفاهيم شمولية كمفهوم التشكلة أو التركيبة الاجتماعية ونمط الإنتاج، والمجتمع المركب، الطبقات الاجتماعية، دعائم وأسس الواقع الاجتماعي ألخ. ومجتمع الحوز يعتبر مجتمعا “مركبا ” لأنه لا يمكن نعته بهذه الصفة أو تلك، بكيفية واضحة، ولكن نجد عدة انماط من الإنتاج تساهم في تكوين وتشكل “تركيبته الاجتماعية، الأبوية، القبلية، الإقطاعية الرأسمالية، الاشتراكية أيضا، لكن، هذه الأخيرة، توجد فقط على مستوى الإيديولوجيا والتنظيم السياسي.لكن السؤال الذي يمكن طرحه هو التالي: كيف تتواجد هذه الأنماط من الإنتاج؟ «إن التشكلة الاجتماعية اليوم في الحوز هي الآن مخزنية» والتي وجدت سندها في الأسرة الممتدة، حيث يتم استغلال النساء والأطفال. ولكن هذا النظام “القايدي” و”المخزني” يخضع بدوره لهيمنة الرأسمالية العالمية في مجال الإنتاج والتبادل”. والنتيجة على مستوى السلوك الاجتماعي، هي أن الإنسان “في المجتمع المركب يلعب في كل الأمكنة، وفي كل الميادين .هذا المنظور الشمولي النسقي للمجتمع، نجده أيضا في دراسات سسيولوجية أخرى. لقد أنتج عبد الكبير الخطيبي نصا حول “التراتبات الاجتماعية” واستخدم عبد الله حمودي 1977 مفهومي “الدراسة المندمجة” و “النمو المندمج”. هذه النظرة الشمولية، ستصبح فيما بعد مثار نقاش وتساؤل بكيفية تدريجية. حيث نجد في نهاية كتابه عن “الحوز” وفي الصفحة المخصصة لتقديم الشكر، تقديم بول باسكون الاعتراف الآتي: «بعد قراءة هذا الكتاب، أجد نفسي أني لم أتكلم عن سكان الحوز، ولكن تكلمت من خلالهم وعندهم … لقد قال جاك بيرك خلال المناقشة إنها ميتا أطروحة” بالفعل لقد فهمت جيدا الجماعات والخطوات أو الإجراءات أكثر من فهمي لسلوكات الأفراد، فهي تبدو لي متعذرة عن الإمساك بها، لأنها تتجه نحو اتجاهات وحقول وإمكانات متعددة – غنية، وينبغي أن نأخذ حذرنا تجاهها لهذا لم أتمكن من بناء مفاهيم حولها، هذه الصعوبة النظرية تجد تفسيرها في كون بول باسكون كان يفصل بين منطق الجماعات ومنطق الأفراد، والدليل على ذلك أنه كان يسعى إلى فهم الجماعات الاجتماعية، بعيدا وخارج سلوك أفرادها.
لقد ظهر أول بحث حول النساء، لدى فريق البحث الذي كان يقوده بول باسكون. وتعد مليكة البلغيثي أول عالمة اجتماع قامت بدراسات ميدانية حول النساء سنة 1969. كما يعد الشأن بالنسبة لكل دراسة أولية واستطلاعية. كانت المداخيل متعددة وكان هدف الدراسة جد واسع. وهو معرفة الوسط القروي للمرأة وكان الغرض من ذلك هو توفير وتحصيل معارف ومعلومات مفصلة حول النساء لأنشطتهن ومشاكلهن. لقد دشنت فاطمة المرنيسي فيما بعد دينامية جديدة حول الدراسات النسائية، حيث توزعت أعمالها ما بين الدراسة والتحليل الذي يستقي مصادره ومواده من تاريخ العالم الإسلامي (البنيات السياسية، الثقافة، الفكر الديني) والبحث الميداني، الذي يقوم على أساس الملاحظة المباشرة، والمقابلات. ونعرض فيما يلي مثالا عن كيفية تصورها للهدف الذي يتوخاه مجموعة من الباحثين تشكلت سنة 1981 من أجل دراسة أسئلة ومشاكل الأسرة والمرأة والطفل: المساهمة في تراكم المعرفة العلمية حول المرأة. وعندها أقول العلمية، فإني أقصد بذلك معطيات حول الواقع المعيشي النسوي، وتطوير الخطاب العلمي حول وضعية المرأة. يعد بدون شك طريقة من أجل المساهمة في تحسين هذه الوضعية”(7) العمل الجماعي المشار إليه أعلاه، كان يضم زهاء عشرين عضوا ينتمون لتخصصات مختلفة. في إطار مطبوعات سلسلة “مقاربات مطبعة “فينيك التي كانت تديرها الأستاذة عائشة بلعربي، تم نشر تسع مؤلفات جماعية حول النساء، ما بين سنة 1987 وسنة 1999. وظهرت هذه الدراسات والكتب باللغة الفرنسية واللغة العربية. كما أن عناوين هذه المؤلفات تقدم لنا فكرة عن الموضوعات والقضايا التي تمت مقارنتها : “لوحات نساء” 1987، النساء والسلطة، “نساء موزعات بين العمل والأسرة”l، 1989، “الجسد في صيغة المؤنث” 1991، “الأزواج موضوع 1992 ” ، أن تكوني فتاة شابة” 1994، “نساء قرويات 1995 ، النساء والإسلام” منذ سنوات 1980، ستتعدد اللقاءات والمنشورات المتعلقة بالمرأة. فاطمة المرنيسي 1983-1991، نعمان جسوس 1988، بلعربي 1993، بورقية 1996 ، شراد وغلاجير 1996 وذلك يرجع إلى ارتفاع عدد الباحثات في علم الاجتماع ، وأيضا إلى التشجيع والدعم المالي من قبل بعض المنظمات الدولية المهتمة بقضايا المرأة والطفل. لقد بدأ يتشكل مشهد وواقع جديد في حقل البحث السسيولوجي بفاعلين جدد وقيم جديدة وإشكاليات جديدة. لقد ظلت العلاقة بين البحث السسيولوجي والالتزام السياسي قائما، ولكنه يتخذ صورا أخرى (العيادي 2002)، جل الدراسات عن المرأة والطفل، كان يسكنها هاجس تغيير وضعية المرأة، وبالتالي مصاحبة الحركة النسائية. لقد كانت المقاربة تريد أن تكون أكاديمية علمية ونقدية في الوقت ذاته.
لا يمكن هنا أن ننفي أنه في مجال العلوم الاجتماعية، يصعب عدم الاعتراف، بعلاقة وتأثير القيم وتوجيهها لاختيارنا البحث في قضايا وإشكالات معينة. لقد كانت الدراسات القروية والدراسات النسائية، متأثرة بأنساق قيمية محددة. إن الاشتغال على النساء القرويات، والنساء الأجيرات، وأطفال الشوارع إلخ، لم يكن عملا أو اختيارا بمحض الصدفة. ولكن، ينبغي هنا، أن نسجل فرقا له مغزى ودلالة بين مختلف أجيال علماء الاجتماع. فالجيل الأول من علماء الاجتماع، كان متشبعا بالإيديولوجيا الماركسية، والتي كانت تقدم نظرة كلية وشمولية حول العالم. أما الأجيال اللاحقة فكانت متأثرة بإيديولوجيات قطاعية، إيديولوجيات أقل شمولية وهيكلية .. الحركة النسائية، حقوق الإنسان. وقد وجه عبد الكبير خطيبي بعض كتاباته لتفكيك وتحليل الرموز والإشارات الثقافية، بفعل تأثير سيميولوجية رولاند بارت وجان بودرييار ويعتبر مؤلفه حول الوشم “Tatouage” في المغرب” خير مثال على ذلك. بعيدا إذن عن حقول الاشتغال والفعل في الميدان، لقد فتح آفاق جديدة. لقد كان في تعلمه وممارسته لعلم الاجتماع، يحمل معه حمولة معرفية أدبية أكثر منها سسيولوجية. بالإضافة إلى مقالاته ورواياته التي لا يسع المجال هنا لتفصيل القول فيها، لقد درس مشاكل تتعلق باللغة وأسئلتها، والرمز والمعنى، والجسد والجنس حسب التصور الديني وفي الثقافة العربية الإسلامية. يبدو أنه كان يتمتع بحرية أوسع فيما يخص علاقته بالعلوم الاجتماعية. لقد كتب في نص اهتم فيه بتفسير وتأويل 48 مثلا تتعلق بالجسد ما يلي: «التحليل القصير الذي سيأتي فيا بعد، رغم كونه يشتمل عناصره من اللغات خاصة (اللسانيات، الاثنولوجيا، علم الاجتماع) أو الثقافة الشعبية (المغربية)، فهو يحافظ على حريته وحركته وحداثته» .
العديد من الدراسات اهتمت بظواهر اجتماعية، كانت تعتبر بمثابة “محرمات” أو “طابوات”des tabons من الناحية الاجتماعية، كالجنس خاصة : نذكر على سبيل المثال، فاطمة المرنيسي 1983 – عبد الصمد الديالمي (1988-1991-1995-1997) سمية نعمان كسوس (1988-2000) كما أن فئة الشباب قد شهدت اهتماما ملحوظا حيث أن أحدث بحث حوله أنجزه بول باسكون ومكي بنطاهر 1978القضايا والمواضيع التي تمت معالجتها كانت عديدة ومتنوعة المدرسة، الهوايات والصداقات، العمل، الجنس، المخزن، المال، الأسرة، المرأة، الماضي والمستقبل. ومنذ سنة 1990، بدأنا نلاحظ تزايدا نسبيا فيما يتعلق بالأبحاث السسيولوجية عن الشباب. في سنة 1993 قام كل من المختار الهراس وادريس بنسعيد، والأستاذة رحمة بورقية ببحث اعتمادا على وسيلة الاستمارة استهدف 500 طالب بالرباط من المواضيع الرئيسية التي تمحورت حول الدراسة، نجد علاقات الطلبة بالجامعة، والأسرة، والقيم في سنة 1996 أنجزت رحمة بورقية ومحمد العيادي والمختار الهراس وحسن راشق بحثا حول الممارسات والقيم الدينية في أوساط 800 طالب وتلميذ بالرباط. تمحورت هذه الدراسة حول التعبير الديني لهذه الفئة من الشباب، وعلاقته بالأسرة، والتسامح. لقد ظلت الكثير من المواضيع ثانوية نسبيا، يمكن أن نذكر على سبيل المثال : السسيولوجية الحضرية. فرانيواز نافيز بوشنين، 1988، 1997، 2002، خصصت العديد من البحوث والدراسات الميدانية لتفاعل بين “الممارسات المجالية والممارسات الاجتماعية” et و”لأنواع السكن وأنماط السكنى في الوسط الحضري”. أما عبد الرحمان رشيق 19942002a – 2002b – فقد قام بتحليل الحركات الاجتماعية، والتوترات العنيفة، المظاهرات les وانعكاساتها حول سياسة المدينة وتنظيم المجال في المدن الكبرى المغربية.
إن ما ميز الإنتاج السسيولوجي، باستثناء بعض الدراسات القليلة التي تم إنتاجها من قبل الشبكة المتمحورة حول بول باسكون هو هيمنة الطابع الفردي. أي أن الباحث ينجز دراساته وحده ومنعزلا. وهذا يتجلى في تنوع المواضيع والقضايا المدروسة، والميل إلى معالجة العديد من المواضيع من طرف –نفس الباحث-. على الأقل، ينبغي تسجيل، أن العديد من البحوث قد أنجزت في إطار العمل الجماعي خلال العقدين الأخيرين. إن الإنتاج السسيولوجي بصفة عامة، قد تمحور بين أساسين :- الدراسة القروية خاصة المورفولوجية الاجتماعية والدينية الاجتماعية، والدراسات النسائية. هذه الميادين، قد تأثرت بأنساق من القيم تتسم بكونها على الأقل بنيوية ومنظمة (الماركسية – النزعة النسائية – حقوق الإنسان). لهذا يبدو أنه من الأجدى مستقبلا التفكير في كيف يمكن للعلوم الاجتماعية أن تظل رهينة النزاعات الإيديولوجية، ومتأثرة بأنساق قيمية، وكيف ينبغي التعامل معها؟ وتطرح أسئلة أخرى ذات صلة بالمنهاج وأدوات البحث السسيولوجي، ومهنة السسيولوجي، لهذا تعاني العلوم الإنسانية من عدة إكراهات وصعوبات، تتعلق بميادين تخصصها، مما جعل العديد من الدراسات والمقاربات تتسم بالطابع الاستكشافي، ويغلب عليها النزوع نحو البحث في عدة مواضيع وبكيفية عامة. لقد وجد علماء الاجتماع في مجتمع كالمغرب أنفسهم في مواجهة ظواهر ثقافية تتجاوز حقل تخصصاتهم التقليدية، مما دفعهم توجيه الاهتمام إلى الأنتروبولوجيا. وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أن “أرنيست كلنير و”دافيد هارت” ، بل تيارا كاملا في الأنتروبولوجيا يقوده كليفورد كيريز قد أنتجوا أعمال مرجعية .إن علماء الاجتماع المغاربة، اللذين وجدوا أنفسهم معنيين ببناء الحقل المعرفي لتخصصهم العلمي، لا يمكنوا لهم أن ينؤوا بأنفسهم عند هذا السجال والحوار والتموقع النظري تجاه هذه الكتابات الأنتروبولوجية. لم يكن الإنتاج الأنتروبولوجي في المغرب، استجابة لطلب أو حاجة اجتماعية، بقدر ما كانت الأنتروبولوجيا ضرورة ملحة. اقتضاها الحوار والجدل مع الأنتروبولوجيا الأنجلوسكسونية، وأيضا من أجل تعبئة المكتسبات النظرية للأنتروبولوجيا بغية فهم الظواهر الثقافية المتنوعة المرتبطة بالقبلية، والطقوس، والنسق السياسي، والحقل الديني، والزوايا وغيرها. لقد كانت العديد من هذه الدراسات قريبة من تقاليد الأنتروبولوجيا الثقافية، حيث درس محمد بوغالي 1988، 1974 الذهنية التقليدية المغربية انطلاقا من تمثلات المكان أو الفضاء l’espace عند المغربي الأمي. وسيهتم فيما بعد بإنجاز عمل حول ممارسات العلاج التقليدي للأمراض العقلية. أما بول باسكون فهو سيهتم بوصفه مؤرخا “بزوايا الحوز” 1983، ولقد أنجز فيلما حول المعروف (repas sacré)، ولكن تجربته الأولى الميدانية في حقل الإثنوغرافيا الدينية كانت متأخرة. في سنة 1981 قد نسق بحثا حول “موسم تازروالت”. لقد كانت الطقوس موضوعا لعدة دراسات أخرى. لقد قام عبد الله حمودي بمقاربة عيد الأضحى (1988). وبين حسن راشق كيف أن الطقوس من خلال دراسته لوجبة تعد خلال العيد، تشكل بالنسبة للمجتمعات القروية التي يغلب عليها الطابع الشفوي في المجال المعرفي والثقافي، مصدرا أساسيا حول الجماعات الاجتماعية وثقافاتها.
ظهرت الأنتروبولوجيا السياسية بدورها كاتجاه جديد، حيث سيتم الاهتمام بها ابتداء من سنوات 1990 بالبحث في الحكومة التقليدية (المخزن) ودعائمها الرمزية (بورقية وهوبكينس- التنظيم القبلي وتساؤلات حول النسق التجزيئي ، الحقل السياسي والصراعات الاجتماعية حول الحج وزيارة الزوايا، أساس ودعامة السلطة المطلقة والاستبداد، كلها محاور شكلت موضوع البحث والاهتمام بالنسبة للباحثين الأنتروبولوجيين المغاربة (رشيق 1992، حمودي 2001 ، طوزي 1994). الدراسات حول التنظيم الاجتماعي للجماعات القروية وتغيراتها هي بدورها تأثرت بالتقاليد الأنتروبولوجية، اهتم علي أمهان 1998-1983 بدراسة البنيات الاجتماعية في جماعات الأطلس الكبير، واستعمالات الزمان والمكان والتحالفات العائلية، والانعكاسات الاجتماعية المترتبة عن المنتوجات الجديدة في الاستهلاك. ودرس محمد مهدي دينامية البنيات الاجتماعية والمعتقدات الدينية في علاقتها بالحياة الرعوية، حسن راشق حلل تراجع جماعات الرحل ووضح كيف أنه من خلال العقود الثلاثة الأخيرة، تركوا الدوار والجمال، والتنقلات الكبرى. وإذا أمعنا النظر في جل الدراسات المنجزة خلال العقدين الأخيرين من قبل الأنتروبولوجيين المغاربة، فإننا نسجل أن الظواهر والمواضيع التي تم مقاربتها لا تختلف في شيء عن تلك التي عالجتها الأنتروبولوجيا الاستعمارية: الزوايا – عيادة الأولياء، وزيارة الأضرحة، المخزن… إلخ. يبدو أن اختيار المواضيع ظل محافظا وكان التجديد يبدو فقط، على المستوى النظري والإثنوغرافي. إن المقاربات الأنتروبولوجيا المعاصرة تركز أساسا على الوصف والتأويل النسقي للعمليات الاجتماعية الملموسة ولأطرها الثقافية الموحقية – إنها تسمح بإعادة بناء وتأويل منظور مغاير، المواضيع التقليدية للأنتروبولوجيا الدينية والأنتروبولوجيا السياسية. وراء هذه الانشغلات الأنتروبولوجيا يختفي هاجس البحث عن “النحن الاجتماعي” في خصوصيته ومحاولة إخضاعه للتحليل والتأملات المستمدة من العلم السسيولوجي والأنتروبولوجي.
ومن هذا المنطلق، يمكن اعتبارها بمثابة سسيولوجيا لامتلاك الموضوع، سسيولوجيا البحث عن الهوية التي طبعت جيلا من السسيولوجيين المغاربة. لكن هذا الامتلاك، لا يتم إلا عبر التفكير ومساءلة علاقته بالممارسة. على مستوى الممارسة في الميدان، والتي تميزت بها بعض الأعمال والدراسات السسيولوجية – في غياب دعم مؤسسات بإمكانها تمويل البحوث الميدانية، فإن الاستشارة والخبرة قد لعبتا دورا مهما في بناء تخصص ومادة علمية ناشئة ألا وهي السسيولوجيا. لقد وجد العديد من السسيولوجيين أنفسهم مشتغلين ومنخرطين في هذا الاتجاه، بوصفهم مستشارين في إطار مشروع التنمية لدى أو لفائدة هيئات وطنية ودولية. لقد كان الطلاق بالنسبة للجيل الأول من السسيولوجيين المغاربة، بين العلوم الاجتماعية والسلطات العمومية، كان طلاقا إيديولوجيا أكثر منه فعليا وواقعيا . ويسجل أنه منذ سنوات الستينات من القرن الماضي ، أنجز بعض علماء الاجتماع، والأنتروبولوجيا دراسات في إطار مشاريع التنمية القروية .تهييئات زراعية ، وهيدرولوجية ، وتجهيز العالم القروي بالكهرباء ومد قنوات الماء العذب. لقد مولت الدولة والهيئات الدولية وجمعيات المجتمع المدني، العديد من الدراسات والأبحاث. حيث بدأ الطلب على الاستشارة والخبرة في المجال السسيولوجي، يتزايد بكيفية تدريجية – حاليا ينبغي الإشارة إلى أن هذا الانفصال الإيديولوجي، بين السلطات العمومية والعلوم الاجتماعية، بدأ يندثر ويختفي بفعل ظهور الحاجة إلى خبراء سسيولوجيين. يوجد مؤشر دال على هذا التطور يتجلى في تمويل الدولة لعدة دراسات منها على سبيل المثال: البحث الوطني حول القيم، والذي تم إنجازه في إطار تقرير الخمسينية عن التنمية البشرية. نجم عن هذا الوضع أن مجالات البحث والدراسة كانت محدودة وضيقة، كما أن السسيولوجيين وجدوا أنفسهم يمارسون عدة وظائف : باحثون في عدة ميادين، مستشارون – خبراء . كل هذا ساهم في إثراء السسيولوجيا بمعطيات مستمدة من الميدان، يتعذر على المؤسسات الجامعية تمويلها وتغطية مصاريفها المالية. لكن مع الأسف، أن القليل من هذه الدراسات قد تم نشرها أو تبيينها كأبحاث أكاديمية جامعية.
أستاذ باحث في علم الاجتماع / جامعة مولاي إسماعيل – مكناس