تازة : من أول مستشفى عبر نقطة حليب الى”دار العسكري”بالمدينة العتيقة
تازة بريس
عبد السلام انويكًة
مدينة يحيل كل ركن من أركانها وفضاء من فضاءاتها ودرب من دروبها وأثر من آثارها، على ذاكرة ما وحدث ما ومعنى ما في زمن ما. ذلك الذي جعلها مساحة بتفرد وفسيفساء في تعبيرها التاريخي المادي والرمزي. وهي فضلا عن هذا وذاك نتاج سلطة شرفة وممر جعلها بما كانت عليه من أدوار ومَهَمَّةِ قلعة شاهدة حامية لذاتها ولجوارها عبر قرون، وعليه، ما تحتويه من معالم حياة ماض وتراث انسان ضارب في القدم. ودوما ايضا كانت عبر زمنها بعناية خاصة من قِبل من حكم المغرب من كيانات سياسية منذ العصر الوسيط، ونفسه الاهتمام الذي حظيت به من قبل الادارة الاستعمارية الفرنسية مطلع القرن الماضي، عندما اعتبرها “ليوطي” مفتاحا ترابيا ليس فقط بالنسبة للمغرب بل لكل الشمال الافريقي مع بداية عهد الحماية. وهو ما تم تحقيقه عسكريا بإسقاطها وإحكام سيطرة تامة على ممرها ربيع سنة ألف وتسعمائة وأربعة عشر، وعليه، ما سيرتبط بها من رهان بتحويلها الى قاعدة عسكرية استفادت مما استفادت منه من أوراش استراتيجية ذات أولوية، من قبيل خط السكة الحديدية فضلا عن منشآت اجتماعية داعمة لِما أنيط بها من مَهمَّة.
تلكم هي تازة زمن الحماية، وما أحيطت به من عناية استعمارية خاصة يحفظها الأرشيف، وكذا ما شهدته من بنية تحتية رافعة لمستويات مهمتها كمدينة قاعدة عسكرية حديثة فاصلة بين شرق البلاد وغيرها، لعل من هذه البنيات ما خصص لحفظ الصحة وخدمات التطبيب، عبر إحداث أول مستشفى عسكري حديث بالمدينة الجديدة الكولونيالية “دراع اللوز” عام ألف وتسعمائة وستة عشر، من أجل خدمات طبية أولية واستعجالية لفائدة جنود القوات الفرنسية، إثر ما كانوا يتعرضون له من اصابات في معارك توسع مجالي بمحيط تازة، ثم ايضا لفائدة المدنيين مغاربة وأوربيين. هذا قبل أن يتحول هذا المرفق الى مستشفى جهوي بعد توسيعه وزيادة أسِرته وأجنحته الطبية وخدماته (طب عام، تشخيص، اسعافات، حقن مرض سل، جراحة، توليد) عام ألف وتسعمائة وتسعة عشر. وكان طاقمه الطبي يتكون من طبيب رئيسي مديرا، طبيب مساعد، طبيب عسكري جراح، ممرض رئيسي فرنسي، ممرضين فرنسيين، ثم ممرضَيْن مغاربة. ويسجل حول قطاع الصحة وخدماتها زمن الحماية تعيين”جون بارنو” أول طبيب رئيسي بتازة عام ألف وتسعمائة وستة وعشرين، كلها شروط جديدة كانت وراء زيادة سكانية بالمدينة بلغت 12 ألف نسمة عام 1929 ثم 15 ألف نسمة عام 1936، ضمنهم 11 ألف مغربي مسلم، و250 مغربي يهودي، و3500 أوروبي وجزائري. ويستشف من تقرير عن هذه الفترة بتازة، ما حصل من زيادة في معدل الاستشارة الطبية التي ارتفعت من 18 ألف عام 1921 إلى 44 ألف عام 1934 الى 144 ألف استشارة طبية عام 1936. ما يعكس انفتاح ساكنة المدينة على الخدمات الطبية فضلا عن اتساع وعيها بالصحة العمومية. حيث بلغت أرقام التطبيب الاستشفائي عام 1934 حوالي 7 آلاف يوم استشفائي مع 305 عملية جراحية، ثم حوالي 12 ألف يوم استشفائي مع 482 عملية جراحية عام 1936.
وفي نفس الاطار الاجتماعي الانساني الخدماتي لفائدة ساكنة تازة، تم افتتاح مركز رعاية للطفولة المحرومة “قطرة حليب” بالمدينة منذ عام 1928، برئاسة الطبيب “فاين” ثم بعده الطبيب “بيللو”، وقد مكنت زيادة تجهيز هذا المركز من توفير معدل 19 ألف قنينة رضاعة بمقابل مادي بسيط و45 ألف قنينة حليب مجانية عام 1929، لينتقل العدد عام 1935 إلى 75 ألف قنينة حليب مجانية للأطفال الرضع في وضعية اجتماعية أو إنسانية صعبة، بعضهم كانت تتم رعايته حتى سن الخامسة قبل انتقالهم إلى مصلحة رعاية الأطفال اليتامى والمتخلى عنهم. وعن ورش تازة الطبي الصحي زمن الحماية، يسجل منذ عام 1919 انخراط أطباء خاصين بعيادات طبية مستقلة، بلغ عددها عام 1930 خمسة عيادات طبية وصيدليتان حديثتان هما صيدلية “فومي” وصيدلية “كروازي”، فضلا عن عيادة لطب الأسنان “بريشتو”.
وحول باقي بنية تازة التحتية الاجتماعية الانسانية الرافعة لمهمتها كمدينة قاعدة عسكرية حديثة، يسجل إقدام الادارة العسكرية الفرنسية سنوات الحماية تحديدا أواسط ثلاثينات القرن الماضي، على إحداث لجنة بخدمات ظاهرها انساني اجتماعي عُرفت ب” لجنة الصداقة الافريقية”. وقد كانت بأنشطة ودور شبيه بما كانت تقوم به هيئات الصليب الأحمر، من قبيل تقديم بعض الدعم المادي والمعنوي لمن انخرط في سلك الجندية الفرنسية، سواء كانوا من أصول فرنسية أو منتمين لمستعمراتها في افريقيا. وعليه وفي اطار اهتمام هذه اللجنة بقضية المحاربين المغاربة أي الجنود الذين عملوا في صفوفها بمستعمراتها، أحدثت بالمغرب ما أطلقت عليه اسم “دار العسكري”، كان من مهامها القيام بدور الوساطة ومتابعة وضعيات الجنود والمحاربين المغاربة، مع بعض الأعمال الاجتماعية لفائدة هؤلاء على المستوى المحلي بالمدن التي كانت ذات طبيعة عسكرية، وقد فتحت هذه الديار أبوابها أواسط ثلاثينات القرن الماضي بعدد من المدن المغربية التي اعتبرت قواعد عسكرية بمواقع هامة منها تازة. ويسجل أن عدد المسجلين في هذه المرافق العسكرية ذات الخدمات الاجتماعية، بلغ حوالي خمسة آلاف عسكري عام ألف وتسعمائة وسبعة وثلاثين. وكان من أنشطتها وخدماتها على مستوى القرب توفير المعلومة العسكرية والادارية والقانونية لهذه الفئة التي كانت ضمن القوات الفرنسية بالمغرب، بل كانت “دار العسكري” ايضا بدور في الارشاد والتوجيه وحتى الاسعاف الطبي والمساعدة الغذائية والمدرسية لفائدة أسر هؤلاء الجنود المغاربة، دون افصاح عن أية أهداف سياسية ولا طائفية معينة.
ويسجل أن من أدوار “دار العسكري” لفائدة الجنود بتازة بعد توقفهم عن العمل، تشغيل هؤلاء باعتبارهم قدماء محاربين كلما توفرت فرص ذلك ضمن أوراش عمل مختلفة، ومن هنا ما كان لهذه “الدار” من علاقة وتنسيق مع بلدية المدينة ومكتب المراقبة المدنية بها، لتوفير الشغل لهؤلاء محليا وتسهيل استفادتهم من التطبيب بالمجان، فضلا عما كان لها من تنسيق مع المصالح الاجتماعية المحلية والمكتب المغربي لقدماء المحاربين ولجنة الصليب الأحمر والمصالح الاجتماعية للجيش، وهي المكونات التي شكلت الأطراف الممونة لمؤسسة “دار العسكري”. مع أهمية الاشارة الى أن ما وفرته هذه الديار من أيام العمل لقدماء المحاربين، بلغ حوالي أربعة وستين ألف يوم عمل بقدر اجمالي مالي بلغ 364 ألف فرنك فرنسي، مع تقديم سبعمائة وجبة من الحساء يوميا. وكان عدد قدماء المحاربين مطلع مغرب خمسينات القرن الماضي قد بلغ 140 ألف توزع منها 112 ألف من المنخرطين على 28 “دار عسكري “، واحدة منها كانت بتازة المدينة العتيقة في تماس مع ثكنة شهيرة محليا باسم”كودير”.
و”دار العسكري” بتازة التي كان يشرف عليها مدير وكاتب ومحاسب، كانت جزء من المركب العسكري “كونكودير”. مع أهمية الاشارة الى أن خدمات الدار كانت مفتوحة في وجه جميع أصناف العسكريين القدماء، كيف ما كانت رتبهم عند ممارستهم لمهامهم وكذا معاشاتهم. بحيث كانت ادارة “دار العسكري” بتازة العليا والتي لا تزال بعض معالمها قائمة شاهدة لحد الآن، تضع لكل منخرط فيها بطاقة ورقما وصورة خاصة، فضلا عن المعلومات الخاصة والاقامة والمدينة التي ينتمي اليها. وعليه، كانت “دار العسكري” بأرشيف خاص لهذه الفئة من العسكريين المغاربة عن زمن الحماية، يهم ملفاتهم ووثائقهم التي تخص خدماتهم ضمن الجندية الفرنسية ووضعياتهم العائلية ومعاشاتهم الخ. ويذكر أن “دار العسكري” بتازة، كانت خاضعة لإدارة مركزية مقرها مديرية الشؤون السياسية بالرباط، والمسؤول عن هذه الأخيرة كان بمثابة منسق بين “ديار العسكر بالمغرب”، والتي تراجعت أدوارها بعد استقلال البلاد قبل تتوقف خدماتها عام ألف وتسعمائة وخمسة وستين.
بعض فقط بمختصر مفيد حول بعض أمكنة تازة، وما كانت عليه من مرافق بأدوار معينة زمن الحماية الفرنسية على المغرب، ومن ثمة ما هناك من ذاكرة رمزية هنا وهناك بين دروب وفضاءات المدينة، والتي منها ما هو بطبيعة عسكرية لا تزال حاضرة بإحالاتها محليا ضمن ما هناك من أثاث وزخم مادي تاريخي.