أي نهج تربوي من أجل انخراط ايجابي للناشئة في عصر رقمي مريب
عزيز باكوش
تناولنا أكثر من مرة، عجز المدرسة العربية المعاصرة وفشل ترسانتها التربوية فشلا ذريعا، في إعداد جيل عربي متشبع بالروح والهوية الوطنية مفعم بالحداثة العاقلة المتزنة، ومتملك لآليات الوعي السوي الفاعل والمتفاعل، ومتمكن من رؤية للعالم منفتحة ومتفتحة، تؤهله لخوض غمار معارك أخلاقية بأسلحة ما فوق الحزام وفق منهجيات محكمة، ومفاتيح غير صدئة للدخول في عولمة ممتدة وأشد قسوة على العابثين .
عولمة دائمة الفوران،باتت اليوم لها أكثر من نصيب ليس في تشكيل وصياغة مصير العالم فحسب، بل والمساهمة الجديرة في تدبير مشاكله المتنامية ومعالجة أعطابه المتسارعة . ولما كان دليلنا في ذلك ما نلحظه اليوم من حضور شبابي منفعل ولا متفاعل لهذا الجيل، داخل منظومة التواصل الاجتماعي. فلأن منسوب خوفنا على سمو الأخلاق ومثالية السلوك وانحدار القيم ارتفع، حيث أصبحت الممارسات الشبابية المعطوبة اليوم على المنصات تشكل المنافس الشرس للتربية التقليدية، وأحد أقوى التحديات التي تواجه الأسر و الشارع العربي، يتعلق الأمر بحضور شبابي أقل ما يقال عنه، باهت متهور وعديم الخبرة، وفاقد للبوصلة التربوية والأخلاقية، بعيدا كل البعد عن ما يمكن أن نسميه الدعابة البارعة أو السخرية اللاذعة لقضايا ومشاكل المجتمع.
لن نقدم دليلا على هذا الانحدار الأخلاقي المريع، يكفي ما تعرضه المواقع الاجتماعية وما نشاهده على المنصات والحسابات الشخصية صورة وصوتا من جنوح الشباب، وابتذال المسلكيات وتهور المواقف وعدم تماسك الهويات وإبراز الحالات المزرية والسيئة، ليس بغرض تخليص المجتمع مما يحيط به من شرور وأوضاع اجتماعية سيئة وإنما لتكريسها والتشفي والنكاية بها . ولعل التنافس الأنثوي الشرس في إبراز المؤخرات، وتصدير القبل الموردة في كل الاتجاهات، هي ما يتصدر المنصات ويحظى بارقام قياسية في المشاهدات. ومن شبه المؤكد أن المطلوب ليس قمع وإسكات وقتل الأصوات الشابة وتكبيل حرياتها ، وإنما هديها وترشيد ممارساتها الجانحة بالتربية والعلم على ان تلعب المدرسة العربية هذا الدور الحضاري بكل نضج ومسؤولية. بكل الأسف ،فإن هذه الذهنية العربية التي واكبت وتواكب التطور الجنوني للميديا، أثرت ،وتأثرت أكثر ،لها اليوم نزوع مطلق نحو الاستلابية الجماعية ،ولم تعد تقتصر على المواقف المرحلية العابرة .
إن أول ما يفكر فيه الشباب اليوم في عالم الميديا، لأول مرة ، هو الظهور بمظهر القوة في الملامح ومظاهر الزينة، مع إبراز حماسي لطبقات الكبت، وإعلان التمرد على الأصول كعنوان للاستقلال في اتخاذ القرار وتأكيد الذات، ما يؤكد أن ثمة طبقات متكلسة من الحرمان الشامل داخل البيت والمدرسة، وتعرشات طفيلية لأعشاب هلامية أغلقت كافة منافذ الأمل، في تواز مع أجراف سحيقة من القمع الرسمي للدولة . ليظل الشارع المنفذ الوحيد والمتفرد إلى عالم الصياعة وإفراغ المكبوتات، وتعميم التهور والثورة على كافة أشكال التقليدانية بأسلحة وعتاد عاشوراء.ليظل السؤال المقرف والموجع في آن، هو كيف نجعل من الشباب العربي جيلا غير مشتت؟ وكيف تبني السياسات العربية جيلا له هوية، وترسخ فيه رغبة عارمة للمحافظة والدفاع عنها ،ليس هذا فحسب، بل وإعلانها شعارا رسميا في الحياة . جيل موحد التربية سلوكيا محصن ضد التفاهة معرفيا، محمي من موجات الرداءة ممنهح المواقف حيال الأزمات موحد الرؤية اتجاه الذات والمجتمع والعالم . أي نعم مجرد صيحة في واد ونفخة في رماد .
لن نتحدث كثيرا عن التأثير البالغ الأهمية لمنصات المواقع على الأنترنيت وخطورة ولوج الفئة الشابة إلى وسائط التواصل الاجتماعي دون سلاح التربية على الأخلاق، فخطورة ذلك بات جليا للعيان والحياة الشابة كما أرادتها الميديا لن تستقيم خارج تدخل وسائط التواصل الاجتماعي تربية تعليما وتوجيها . تقدم ما لا يمكن تصوره من المعلومات والأفكار الغريبة المثيرة والمغرية، يهيمن فيها المثير والمهيج أكثر من الناجع والمفيد، ويسيطر الباهت والفاتر أكثر من الناضج والمسؤول. وإلى متى غياب قدرة العرب على الإمساك الميديا العربية والتحكم في تدبيرها ؟ وأي نهج نسلك النظام العربي في أفق تكوين وتربية وتثقيف أجيال جديدة قادرة على الانخراط بشكل إيجابي وفعال في عصرنا الرقمي المريب؟ (يتبع)