من تراث المغرب الشعري تحقيق ديوان شعر الوزير الأديب محمد ابن موسى
تازة بريس
عبد السلام انويكًة
“إنَّ العمل الذي أقدّمه اليوم هو جزءٌ من أدب ابن موسى الضّخم الذي ما زال بحاجة إلى كشف وعناية، وهذا القسم منه يخصّ ما أمكن العثور عليه من الشّعر فقط دون غيره، وهو حصيلة ما توصّلتُ إليه خلال تنقّلي بين الخزائن، وسؤال أهل العلم، وزيارة أرشيفات خاصة وعامة، بل وزيارة أقارب ابن موسى بمدينة مرّاكش وتطوان، والوقوف على البيت الذي ولد به، ومحاولة استخلاص بعض الأفكار حول شخصيته. ويتبعه بحول الله وقوّته سيرته المفصّلة، التي تكشف عن هوّيّته ودراسته، ووظائفه وأدبه، وأخباره وأسراره…ويتبعها بحول الله تعالى ما أمكن العثور عليه من أدبه النّثري الذي يمثّل طبقة خاصة في الأدب المغربي الأندلسي، الذي عرف شاعرنا بانتهاجه”.
بهذه الاشارات والعبارات استهل الأستاذ الباحث يونس السباح، مقدمة تحقيقه لديوان شعري عن زمن الحماية بالمغرب يعود لوزير الأدباء وأديب الوزراء مُحمد بن عبد القادر ابن موسى المراكشي أصلاً وولادةً، التّطواني داراً ووفاةً (ت: 1385- 1965). وهو التحقيق الذي صدر مؤخرا عن”دار النشر سليكي أخوين”بطنجة في 250 صفحة من القطع المتوسط. ولعل إصدار الأستاذ السباح الباحث في تراث المغرب الأدبي، هو بقدر كبير من الأهمية والقيمة المضافة للمكتبة الأدبية المغربية، لجمعه قصائد ومقطوعات وموشّحات تعود لفترة الحماية الإسبانية بشمال المغرب، وعلاقة الشاعر بالملك المولى عبد العزيز، محمد الخامس، الحسن الثاني، الخليفة مولاي الحسن بن المهدي، فضلا عن كبار العلماء من قبيل ماء العينين، عبد الله كنون، محمد أفيلال، عبد الله القباج، البشير أفيلال، محمد المرير… وغيرهم ممّن كانت تربطهم صلة بالشاعر. وقد ابتدأ العمل من اجل هذا الاصدار منذ عدة سنوات، مستهدفا مجالاً جديداً يروم الكشف عن تراث المغرب الشعري المغربي وتحليله، لإبراز شخصية شاعر قدير جمع بين العلم الشرعي والأدب المغربي الأندلسي الرّاقي، ممّا يضفي طابعاً هاماً على شخصيّة الوزير المتعدّد المشارب الذي قال عنه العلامة عبد الله كنون ذات يوم : “خاتمة أدباء المغرب من الجيل الماضي الذي حرص على حفظ تراثنا الأدبي وخاصة الأندلسي والنسج على منواله أشدّ الحرص، فكان له قلمٌ بارع في النثر الفنّي، وملكة راسخة في نظم الشعر الجيد … وقد ولّي وزارة الأوقاف في الحكومة الخليفية بتطوان، وهو من أسرة علمية مراكشية اشتهرت بالأدب وخدمة السلطان، وعلى ما كان له من مكانة مرموقة بين أدباء الجيل المحافظ، وعلاقاته الطيبة برجال العلم والأدب، فقد مرّ حادثُ وفاته عاديًا لم يترك صدًى في أيّ وسط من الأوساط، لا في الصحافة ولا في الإذاعة بين عموم المثقّفين، ممّا يبيّن مقام الأديب عندنا، والإهمال الذي يلقاه في حياته وبعد موته أيضًا مع الأسف الشديد”.
والفقيه أديب الوزراء ووزير الأدباء الشّاعر محمّد ابن موسى، هو من مواليد.مدينة مراكش بدرب ابن موسى بحي رياض العروس جوار ضريح أبي عبد الله محمد بن سليمان الجزولي بمراكش الحمراء، عام 1301ه. وقد نشأ نشأةً سليمة وعاش في أسرة علمية مكينة، فوالده كان أثيرًا لدى السلطان الحسن الأوّل وكاتبًا من الطبقة العالية، وجَدُّه كان مؤدِّبًا لأبناء الشّرفاء حسب ظهير توقيرهم، وكلاهما – أي: الوالد والجد- كان من أهل الزهد والعفاف، مع عناية فائقة بالأوراد وسرّ الحروف. أُجيز الشاعر الوزير مُحمد ابن موسى من قِبَل شيوخ كبار في مختلف الفنون، ومنها إجازة شيخه العلامة سيدي أحمد بن المامون البلغيثي (ت.1348هـ) وإجازة شيخه ماء العينين (ت.1328هـ) وإجازة ولده السيّد محمد إبراهيم ماء العينين (ت.1361هـ). وبعد هذا المسار الحافل التي قضاه محمد ابن موسى في العلم والتعلّم، اقتُرح من محمد فاضل بن يعيش باشا مدينة العرائش، فلازمه منذ بداية 1912م، وظلّ كاتبًا معه بالباشوية. وفي ظلّ الفترة العرائشية، عُرف بكثرة إنتاجه الشعري، مع ارتياد مجالس الأدب التي كانت تعقد من قِبَل أعيان المدينة، ويعدّ ابن موسى أوّل من أدخل فنّ «البْسَاط» للحضرة العرائشية، وهو لونٌ من ألوان الفُرجة التي لم تكن تُعرف بشمال المغرب. وفي عام 1927م عُيّن أمينًا للديوانة بميناء العرائش من طرف الصدر الأعظم الوزير محمد ابن عزّوز، كما عيّن في عام 1937م، من طرف الخليفة الحسن بن المهدي وزيرًا للأوقاف، وظلّ بهذا الوظيف إلى عام 1954م. وخلال مهمّته الوزارية هذه، ضبط أمور الأوقاف، ووضع أسسها، وأنشأ جريدتها الرسمية التي كانت تَنشرُ كلّ ما يتعلّق بالأحباس من ظهائر وسمسرات وفتاوى، وتعيينات…إلخ ، فكانت إلى هذا كله عنوان النزاهة في هذه الوزارة، وقد توقفت عن الصدور بتوقّفه عن مهمة الوزارة. وعلاوةً على هذا كلّه، كان عضوًا في عدّة لجان أبرزها: اللّجنة الاستشارية (المجلس الخليفي) التي عيّنها سموّ الخليفة، وعضوًا فخريًّا بالمجلس الأعلى للتعليم الإسلامي، وعضو لجنة الشعر (جائزة مولاي الحسن) التي كانت تمنح جائزة كلّ سنة للشعراء الشباب.
والوزير محمد بن عبد القادر ابن موسى هذا، يرتب من كبار المثقفين المغاربة في وقته، فقد جمع بين تمكّنه من الشعر ومعرفته العميقة بالفقه ومقاصده، لِما خطّه من مقالات عن الأحباس الإسلامية والحكمة منها، مستحضرًا روح الفقه الإسلامي. كما كان باطّلاع كبير على طبوع الموسيقى الأندلسية التي من أجل معرفته بها كان يحضر مجالس الطّرب العامّة والخاصة، هذا إلى جانب تمكّنه من اللغتين الإسبانية والفرنسية، بشهادة صديقه الشاعر عبد الله القباج رحمه الله، الذي قال عنه: «كثيرًا ما يسألني وصفائي عن كبار أدباء المنطقة الإصبنيولية وشعرائها الماهرين فيها، وكثيرًا ما تربّصتُ في الجواب؛ إلى أن ثبت لديّ بالبحث والاستقراء وجوب تلك الديار، والوقوف على الآثار، والإمعان والتروّي والتّأمّل، أنّ في صفّهم الأوّل العلاّمة السيّد محمد بن عبد القادر ابن موسى المراكشي، أمين ديوانة العرائش، وصنو وصيفنا الفقيه السيّد أحمد ابن موسى الكاتب بالصّدارة، وابن عمّ الفقيه ابن موسى كاتب الفقيه الحاجب، أقارب أولاد بن يعيش وأصهارهم قديمًا وحديثًا. أمّا أدبُه فحسب القارئ أن يقف عليه في مجاميع مقالاته ومقدماته، بخزانته النفيسة، المفعَمَة بالكتب القديمة والحديثة، والجرائد والمجلاّت على اختلاف أنواعها بين عربية وإفرنجية، لإلمامه الواسع باللّغة الفرنساوية وشغفه بها، وإتقانه للإصبنيولية وتصرّفه فيها. وأمّا مقدرته الشعرية، ومعرفته بأساليب اللّغة العربية، فلا أدلّ عليه من القصيدة التي بعثها لي على يد صنوه المذكور في الاعتذار عن عدم توديعه إيّاي صبيحة مغادرتي للعرائش عند مروري عليها من طنجة في سفري الأخير، ولا غرابة عندي في حمله هناك راية الأدب، وتسميته هناك بالشاعر المطبوع، إذ كان من المتخرّجين من كليّة القرويين بفاس، على أساطين العلماء وفطاحل الأشياخ الراسخين في العلم والأدب. وبيت موسى أحد البيوتات العريقة في المجد بالحمراء المراكشية، أبقاه الله بهم عامرًا زاهيًا باهرًا …». شهادة تُوزَن بالذهب في حقّ الوزير سيدي محمد ابن موسى، لأنّها صدرت من شاعر مطبوع وعالم مشهور عرفَه عن كثب وكتب عن مشاهدة ومعاشرة، وهي على قصرها تتضمّن معلومات لا توجد في غيرها وأهمّها اطلاعه على اللغات، وامتلاكه لكبريات المكتبات.
والشاعر الوزير أبو عبد الله محمد بن عبد القادر بن محمد ابن موسى الذي التفت وانصت اليه الأستاذ يونس السباح وحقق ديوانه الشعري، توفي بيته بسكن الأحباس بساحة مولاي المهدي بمدينة تطوان ليلة الجمعة 12 رجب 1385هـ/ 6 نونبر 1965م، ووري جثمانه الثرى بضريح سيدي الصعيدي بباب السعيدة وكُتب على قبره شاهد يعرّف باسمه وصفته، من قِبل صديقه ورفيقه العلامة المؤرخ محمد داود رحمهما الله جميعا.