شريط محمد مزيان وسفينة نوح التي أشرف على بنائها الفنان محمد خلوف
تازة بريس
عبد السلام انويكًة
لم يكن بقدرة بُعد ولا عيش دون صورة، ارتبط بها اسمه وكيانه فضلا عن هوية ذات. عبر نصف قرن تقريبا من زمن السينما المغربية اشتغل مع مساحة مخرجين مغاربة واسعة. بخيال عميق كان دوما، ومخيلة قالت بأهمية الصورة في تعبير الانسان عن نفسه ومن خلاله كل مجتمع. بذكاء فضلا عن سخرية زادت من حدة احالاتها لغة صمت، كان يمرر حكيه عن ماض وآت من زمن. قال ذات يوم أنه، “من حسن حظ البلاد أنها لا تتوفر على تقاليد سسيولوجية لدراسة العاهات”. فيه شيء من نوح بطل فيلمه الأول الوحيد، مع ايمان لديه بأن الانسان لا يحيى بالخبز وحده بل لابد من صورة. تكاد تكون السينما لديه عقيدة كفن تطهير، متعففا متخلصا من كل ما هو مادي من أجل عيش مطمئن.
ذلك هو محمد مزيان رحمه الله ابن تازة في امتدادها المجالي، الذي ارتبط بالسينما، تحديدا ما هو مونطاج وتوضيب وسيناريو. دخل المغرب أواسط سبعينات القرن الماضي بعد سنوات من الدرس بالديار الفرنسية الباريسية لفن التصوير والمونتاج، وهو من قال ضمن طرائف مألوفة عنه لدى رفقته، أن ذاكرته لا تحفظ سوى أربع تواريخ، يوم ولادته، سنة استقلال المغرب يوم شد رحاله صوب مهجر ويوم عودته منه. واسعة هي مساحة ما كان بحدس وسر يديه وعينيه السينمائيتين، فضلا عمن اشتغل معهم من مخرجين مغاربة وعرب وأفارقة. هكذا هو “مزيان” الذي عاش سينما بلاده منذ زمن “الركًاب” حتى ظهور”علي زولا” على الشاشة، ابن تازة الذي رحل الى دار البقاء قبل عقدين من الزمن، وقد أثثت لسنوات وسنوات مشهد المغرب السينمائي، حيث قدم ما قدم من عمل مونطاج وتوضيب وسيناريو. وهكذا “مزيان” الذي كلما زار تازة، ما كان يحدث نادرا سائلا عما كان له من صلة خاصة به من رفاقه عن الفن وغير الفن، كما زار تازة كان يزور معهدها الموسيقي للقاء مديره عبد اللطيف المزوري آنذاك سنوات التسعينات، مفضلا دردشة حرة حضرت بعضها ذات يوم وسط بهوه، متأملا رحمه الله فيما هناك من فضاء بناية بنغم هندسة زمن كولونيالي.
عمل الفقيد رحمه الله لفترة بدار الاذاعة والتلفزة المغربية سنوات السبعينات الأخيرة، مؤثثا أاعمال تلفزية عدة فضلا عن مساحة استطلاعات، قبل التحاقه بالمركز السينمائي المغربي حيث كان بتوقيع على جملة أفلام مغربية، بقدر ما تفخر بها خزانة البلاد الفنية بقدر ما وفرت فرجة راقية ولا تزال لفائدة جمهور مهتم متتبع عاشق. ولعل “مزيان” بمكانة وذاكرة رمزية خاصة في وسط الجامعة الوطنية للأندية السينمائية، لِما اسهم به من عمل تنشيط وتكوين وتفاعل فكري فني وجدل وتحسيس ورأي حول هذا وذاك من شأن السينما الوطنية ومواعيدها وتطلعاتها. علما أن تازة من المدن المغربية التي كانت بنادي سينمائي نشيط. قدم فيه ذات يوم ضمن جامعة سينمائية صيفية مطلع تسعينات القرن الماضي، عرضا متميزا معبرا عما هو عليه من اطلاع وتتبع وتماسات حول السينما المغربية من قبيل واقعها وواقع فضاءاتها. من بصمات ابن تازة هذا فضلا عن المونتاج لخراجه لجملة اعمال قصيرة أواسط تسعينيات القرن الماضي، من قبيل أول شريط له وقد اختار له عنوانا “نوح”.
وكانت جمعية النادي السينمائي بسيدي قاسم، قد أصدرت في مبادرة نبيلة منها أول كتاب لها حول الراحل محمد مزيان، وقد أعده الأستاذ أحمد سيجلماسي وأشرف على نشره. وثيقة برمزية عرفان لروح الفقيد استهدفت جوانب من مسار سينمائي ظل طيلة تجربته وخياله الفني غير مبال بالأضواء. بادرة استحضرت روح “مزيان” تعبيرا من مجتمع السينما المدني ممثلا في جمعية النادي السينمائي بسيدي قاسم، عما كان عليه من اسهامات وما أسداه من خدمات لفعل السينما واندية المغرب السينمائية منذ انطلاقتها الجديدة فترة تسعينات القرن الماضي. كتاب هدية لروح “مزيان” في عالمه القدسي المكين، عربون وفاء لمبدع لم يبخل ابدا عن عشاق السينما بمعرفة ونصائح وإرشاد وتوجيه وأفلام. حيث كان دوما رهن اشارة أندية المغرب السينمائية من خلال توفير كل تأطير ورشات مونطاج وتقنيات سينما. كتاب ارتأت له الجهات المشرفة “محمد مزيان : سينمائي وحيد ومتمرد ” عنوانا، وقد صدر ضمن طبعة أولى عن مطبعة “كوثر برانتب” ربيع سنة ألفين وخمسة عشر بالرباط. كتاب جاء في حجم متوسط موزع بين جزء بالعربية وآخر بالفرنسية مع جملة صور متميزة من أرشيف الراحل، فضلا عن غلاف من تصميم الفنان جمال المودن. وقد توزعت مواد هذه الهدية الرمزية لروح “مزيان” كما يلي: في القسم العربي إهداء (بقلم أحمد سيجلماسي)، كلمة جمعية النادي السينمائي سيدي قاسم (بقلم عبد الخالق بلعربي)، تقديم : هذا الإنسان (بقلم الدكتور عز الدين الخطابي)، بيوفيلموغرافيا محمد مزيان (بقلم أحمد سيجلماسي)، قراءات في فيلم وتجربة : البطاقة التقنية لفيلم ” نوح “، ” نوح ” أو بلاغة الصمت والصورة (بقلم محمد البوعيادي)، تأملات في فيلم “نوح” (بقلم الدكتور عز الدين الخطابي)، قدسية الابداع للاحتماء من رعب الوجود (بقلم الدكتور حميد اتباتو)، بورتريه : محمد مزيان مسيحي الصورة (بقلم عبد الحميد جماهري)، كلمات وشهادات : الجامعة الصيفية للسينما بتازة وتكريم محمد مزيان (بقلم أ. س)، وداعا محمد مزيان (بقلم المختار أيت عمر)، وحيدا متمردا عاش… وحيدا متمردا مات (بقلم حسن نرايس)، ليخلد “نوح ” ضد بني قردة (بقلم الدكتور حميد اتباتو)، علما أن شريط نوح الذي تم تصوير مشاهده بناحية تازة شرقا حيث قصبة امسون وتادارت والصفصافات، “نوح” عمله الوحيد والأول من حيث بطولته واخراجه والذي شارك فيه عدد من الممثلين المغاربة المتميزين من قبيل صلاح الدين بنموسى واحمد سلمات وغيرهم، كان الفنان التشكيلي محمد خلوف رئيس جمعية فضاء المغارات آنذاك هو من اشرف على بناء سفينته. نوح الفيلسوف : يتأمل ويتألم (بقلم حفيظ العيساوي)، صديقي مزيان(بقلم محمد العلوي الباهي)، السينمائي محمد مزيان ذاكرة الجامعة الوطنية للأندية السينمائية (بقلم خالد الخضري)، شكر خاص (بقلم أ. س.) وفي القسم الفرنسي نجد من مواد الكتاب : وداعا صديقي (بقلم رشيد بنعلال)، محمد مزيان (بقلم المصطفى بوينيان)، رفيق نضال (بقلم نور الدين كونجار)، من أعمدة السينما المغربية (بقلم عبد الكريم الدرقاوي)، الوحيد المتمرد (بقلم سعد الشرايبي)، أخي محمد (بقلم الزبير مزيان)، بيوفيلموغرافيا مختصرة (بقلم الزبير مزيان)، حوارات / لقاءات : مايسترو تقنيي السينما المغربية (أجرى الحوار عبد الرزاق الحنوشي)، بقلب مفتوح مع محمد مزيان (حاوره الناقدان نور الدين كشطي ومبارك حسني)، قراءات: نظرة ما، نوح الأحمق ونوح الحكيم (بقلم محمد بلفقيه).
في إطار فعاليات مهرجان تازة الوطني لسينما الهواء الطلق في دورته الثانية من 11 الى 13 شتنبر ألفين وخمسة عشر، كانت المدينة موعدا لحفل تقديم وتوقيع كتاب“محمد مزيان: سينمائي وحيد ومتمرد”، وقد تشرفت بتقديمه بقاعة غرفة التجارة والصناعة والخدمات، قبل حديث الناقد أحمد سيجلماسي عن محطات حياته في جانبها السينمائي. وهو الذي نُعت بتقدير مبدعين ومهتمين متتبعين ب ”ضمير السينما المغربية“، لِما أسهم به في تأثيث لبنات الفيلم المغربي الأساسية، على مستوى توضيب أفلام مغربية عدة، ومساعدة عدد من المخرجين لإنجاز تجارب أفلامهم السينمائية الأولى. كما أن جائزة المونطاج بالمهرجان السينمائي الوطني بطنجة سنة ألف وتسعمائة وخمسة وتسعين، كانت من نصيب الراحل عن تركيبه للفيلم القصير”لعبة القدر” مطلع تسعينات القرن الماضي وهو من اخراج عمر الشرايبي. جائزة المونطاج بمهرجان جنوب افريقيا كانت من نصيبه أيضا أواخر تسعينات القرن الماضي، عن تركيبه لفيلم “فاراو أم الرمال” للمخرج المالي عبدولاي أسكوفارو. بعض فقط من روح ابن تازة في امتدادها المجالي “محمد مزيان” رحمه الله، وقد ودع الى دار البقاء ذات خميس من يناير 2005، بركين والصفصافات وتازة ونوح وجميع ما هناك من مونطاج وتوضيب وسيناريو، فضلا عما كان له من شيء وكل شيء فيما عشقه من صورة وسينما حتى النخاع.