ذكرها المكان بالمسلك الذي سارت عليه قبل ساعات أثناء هروبها ..
تازة بريس
سعيد عبد النابي
وفي لحظة.. استفاق .. من غفلته.. انتشلته جلبة من لحظات تأمله، أحدثتها سيدة خارج المكتب، ترامت الى سمعه، لم يبد حركة، لا من رأسه.. ولا من أعضاءه، اختلجت في نفسه حيرة واندهاشا، جعلتا النبض في شرايينه ينتفض، والرغبات تتهافت، كأنامل فنان يحاول ضبط جهاز، عندها ألقى السمع، بقلب حي، وحواس مرهفة، دون أن يخامر صدره خوف أو فزع، لفتت انتباهه طلاقة لسان، أنثى تتحدث بلغة فرنسية سليمة النطق، خالها لفصاحتها من أهله العجم، كانت تصرخ فيهم: ـ اتركوني أرجوكم .. أريد رؤية كبيركم .. أرجوكم .. أرجوكم، واحد الأصوات يرد عليها ليطمئنها: ـ سيدتي.. اهدئي .. لنأخذ بياناتك أولا .. ثم يكون ما تأمرين به .. اهدئي.. ارجوك . ظنها فرنسية، رمتها مثله الأقدار إلى هذه الأرض النائية، اختار الظهور بوجه لائق، لم يحرك الكرسي، ربما لثقله، أو لحاجته إلى أشعة الشمس، قد يعود إليها بعد الحسم في الأمر، دار مكانه نصف دورة، جلس جلسة الفارس على صهوة، ثم وضع مرفقيه على المسند، مفضلا الانتظار والترقب، دماغه يهمس له أنها ستفتح الباب، وأنه سيراها بعد حين، قد يفتن بها، من يتكلم الفرنسية في هاته القرية بهذا الشكل، لا ريب له شأنا ومقاما.
توقع انفتاح الباب على وجه ملائكي، تلوح إليه العين، و يشخص فيه البصر، وجه.. ينير حياته بنور العشق، كما أنارت الشمس صباحه، وأدفأت مكتبه. ماذا لو كانت شقراء؟ بضة ناعمة الملمس، كصوتها العذب، حينها يصبح بباب المروج محظوظا، تتسلل الشمس إلى مكتبه من النافذة، و من الباب يلوح القمر، لقد تعمد إطالة الإنصات، تأكد من علو كعب الأنثى فيما يختص باللغة الفرنسية.. رفع صوته مع طرق الباب، سمح للطارق بالدخول، وأبقى عينيه عالقتين، والقلب يتساءل، من سيدفع الضلفة؟ وما هي إلا لحظات حتى انبعث أطيط الباب يمزق الصمت، أفضت نهايته إلى كف تقبض مزلاجا، ووجه اسود، بدا جذابا بياض العينين و الثغر فيه، لم ينبس بحرف، فضل اقتفاء أثر وقع المفاجأة في اعماقه، و الانصات الى السيدة السوداء، علها تبوح بهمها ، كانت الكلمات تصارع روحها، تتعثر في صدرها، قبل الوصول إلى اللهى، والحرج باد يغمرها، حاولت بلع ريقها كي تفصح، أو بالاحرى ما بقي منه عالقا بمجرى الهواء و الطعام، في محاولات متتالية لتجديد أنفاسها .. كي تقوى على الكلام، سيدي .. ساعدني.. أريد سيارة تقلني الى تازة، انت تازية ؟، كلا انا مراكشية الاصل. ممن تفرين ؟ من قدري.. بقائي في هذه القرية انتحار.. سيدي ارجوك.. لن انسى لك هذا الفضل. استرسلت في الحكي .. بينما اختار هو الصمت.. وتلاشت قيمة كل الاشياء المحيطة به والزمان يسحبه إلى عهد لويس الرابع عشر، مبدع القانون الاسود الخاص بالزنوج، تغير المكان في تفكيره ..في خلجات نفسه ، كانه استمد من سواد لون بشرتها الظلام ، تحول الى غابة جثم عليها الصمت القاتل ، ولما انتهى الكلام اشار لها بيمناه.. ان تفضلي، و أردف الحركة بجملتين: سيوصلونك الى وجهتك، انتظري من فضلك تعليماتي خارج المكتب. عندها توجه إلى مكان الهاتف على المكتب، رفع السماعة، حرك ازرارا، ثم استرسل في الكلام : سيدي .. هل ضاع منك شيء هذا الصباح ؟ اطمئن .. ستكون عندك بعد ساعة أو اقل، بعدها فتح الباب، وعيني الأمة تبعث أكثر من رسالة، أشار إلى مخزني بالاقتراب منه، ووشوش أذنه اليسرى: خذ معك علال… ورافقا السيدة إلى بيت السيد… بسرعة.
رفع سماعة الهاتف وحرك الأزرار، ثم انتظر قليلا .. تناهت إلى سمعه، عبر الأسلاك، أصوات متضاربة، ردد كلمة آلو.. ثلاث مرات، وصل أذنه خليط من كلمات، عربية، فرنسية، برنتين مختلفتين، أبقى السماعة على أذنه، غاص في صمت الانتظار، سينتهي ترددهما بلا أدنى شك، ويستقر الحوار السلكي.. تساءل عن الأسباب المانعة للرد في الحين، أيعقل أن تختار فرنسا عميلا يجهل لغة فولتير؟ لقد سمع من احد أصدقاءه قصصا غريبة عن العرب، كيف تواصل بعضهم معهم، سواء بالإشارة، أو مستعينين بمترجم، و تلك الكلمات التي طفت على سيل المحادثات، لا هي بالعربية و لا هي بالفرنسية القحة، خيل إليه أن تردد السيد و زوجته نم عن رغبة احدهما في الانفراد بالقيادة، أو التميز بالتسلط، هذا أمر لا تشوبه غرابة.. كم من مسئول يتأسد في المكتب يبدي في البيت ألفة بعض الحيوانات الوديعة، المناصب تغير المظاهر، لكنها تبقي على جل المخابر، و المظاهر تؤثر في العلاقات… رنين المال في الدنيا يعطل الحواس، قديما، كان جدي يردد على سمعي، شكون يقول للسبع فاك خانز؟ كل شيء تمام، هذه الجملة لها سحر، يستقر بها النظام، كل شيء تمام.
الحياة في كل مضامينها تتحدد بالاختيارات، اختار الله الأنبياء و الرسل، واختارت فرنسا الكلاوي و من كان على شاكلته لحكم مدن و قرى المغرب الحبيب، لكن الشعب اختار المغفور له محمد الخامس، وثقا معا الملحمة في ثورتهما الخالدة، قبل ذاك التاريخ بقرون، اختارت أوربة مولاي إدريس الأول.. الطبيعة تساهم في بناء الاختيارات، تفرض في بعض الأحيان إضافات قد تصبح مع مرور الزمن ملزمة، في حالة السيد .. كان لابد من إضافة مترجم، وزيادة رجل يهتم بالمراسلات… أنهت السيدة التردد و قطعت حبله باستفرادها بالهاتف، أخرجت الحاكم من صمته ليواصل الكلام، آلو … هل ضاع منكم شيء.. ؟ هذا الصباح .. الخادمة ؟ سيدة سوداء البشرة؟ زارتني هذا الصباح، تتكلم الفرنسية أفضل من فرنسيين.. أجل .. أجل .. اطمئني .. سيرافقها عسكريين.. هي في الطريق إليكم كانت تختلط عليه الكلمات المرسلة من الجهة الأخرى.. وكذلك المعاني، لكنه اعتمد خطاب السيدة، أثارت الجملة الأخيرة بداخله أحاسيس غامضة، أثرت فيه، لم تترجم السيدة قول السيد كاملا، : قولي ليه ميرسي .. ميرسي .. الله يجعلك بالرضى مكسي ودترقى جنرال ودتهنا من حسي .. استشف من الكلمتين ـ ميرسي، وجنرال ـ أن المقطع الصوتي المتكرر، سي، سي، سي، هو توالي عبارات، قصد بها مدحه، و بما انه أدى مهمته على الوجه الأليق، وضع السماعة، ورام الباب، فتحها، وأشار إلى عسكري بالاقتراب.. إشارة فتحت للأمة أبواب الأحلام، ما إن تصل تازة، ستستقل القطار، أو الباص، وبمجرد وصولها مدينة فاس، ستحتفل بحريتها، بانعتاقها، كأنها رضيعة بالجاهلية الأولى، نجت من الوأد، أو رقبة فكت في يوم ذي مسغبة، حسبت نفسها فراشة ماليزية، رأت ثرى باب المروج.. كما في أفلام السحر، ينبت أشجار الجنة، تذكرت أنها قرأت يوما عن حواء، أنها لم تكن شقراء، البتة، وأن ألوان البشر المنتشرة على الأرض، إنما هي أديمها، أخذه الله، عجنه بيديه، ليتناسل في ملايير الصور، كانت في كل خطوة، تتلفت، يمينا، يسارا، ثم تعود القهقرى .. كطفلة في ريق شبابها، تعلق قلبها بفرحة السفر، ترى بأم عينيها.. أي جمال طبيعة ستخلفه وراءها، أي صور ستتقاسمها مع أهلها، لكن العسكريين… لم يقفا عند المحطة، مسكها احدهما من عضدها الأيمن، وكان الآخر يفتل شاربه الأيسر، بدأت المسافة الفاصلة بينها وبين مكان الباص تتسع، غاص الثلاثة العسكريين والأمةبين أشجار الزيتون، كف تحكم قبضتها على عضد، وإبهام وسبابة لا يفلتان الشارب، فتله فتلا رهيبا حتى احدودب كسيف ذي يزن، لعله كان يفكر في الاحتمالات، كان يتهيأ للعواقب. ذكرها المكان بالمسلك الذي سارت عليه قبل ساعات، أثناء هروبها من قصر السيد، عندها فقط، أدركت إن نبل الفرنسيين هراء، خدم الظلام، ضدا في نور الحق، حاولت التملص سدى، صرخت، بكت، لكن العسكري الثاني افلت طرف شاربه، وأمسك العضد الأيسر، و هو يصرخ في أذنها : زيد يماك و زم فاك .. هذ النهار ينكطو منك اللحم تنكاط.
جمعوي / كاتب