حوار : هل سحبت تنسيقيات قطاع التعليم البساط من تحت أرجل النقابات ..
تازة بريس
حول دور التنسيقيات في الدفاع عن الفئات من قبيل تنسيقيات التعليم، وحول كيف أنها سحبت البساط من تحت أرجل النقابات، وحول ما هي عليه من فاعلية والتفاف واستقلالية وحول شرعيتها وتوهجها لاحتجاج ، مقابل أفول النقابات، اجرت جريدة (أ،ب) حوارا قيما مع الباحثة في علم الاجتماع هاجز البدوي جاء وفق المحاور والافادات التالية.
إن استمرار الاحتجاجات في صفوف أساتذة التعليم وأفول النقابات، مرده فقدان الثقة في المسؤول كيفما كان نوعه (حكومة ونقابات). هذه الثقة المفقودة أصبح منسوبها مرتفعا، بل صارت هي الطاغية على الأحاديث والحوارات المجتمعية. إن هامش الحرية الضيق والإقصاء الاجتماعي ومعه التهميش والهشاشة، جعل هذه الفئات العريضة تنتفض لأجل تحقيق الكرامة والعدالة الاجتماعية وضمان الحقوق المشروعة والقطع مع كل السياسات التي من شأنها أن تكرس الدونية والزبونية والإقصاء. لقد دخل احتجاج الأساتذة بالمغرب في مساءلة الحكومة عن طريق الاعتراض على سياستها وقوانينها العمومية وجرد أعطاب ومظاهر إخفاقها في التسيير والتنظيم واستعراض بؤر الاستبداد “معنى الانفراد بالسلطة”. وهذا ما يدفعنا للقول؛ إن المشاركة السياسية والحياة السياسية عموما، لم تعد تقتصر على النشاط الذي يمارسه الأفراد والجماعات في إطار التنظيمات القانونية كالنقابات والأحزاب، فغالبا ما تستنتج هذه الجماعات المحتجة -ونقصد هنا التنسيقيات- بأن هذا الإطار الذي يحمل صفة الشرعية والقانونية لا يمكنه السعي إلى تحقيق أهدافها ومقاصدها، بل إنه قد يعترض سلوكها السياسي والاصلاحي أو يسهم في إقباره بأكثر من طريقة. لكن دستور المملكة تحدث عن دور الوسائط التقليدية أحزاب نقابات..
نحن اليوم أمام تنسيقية لا يعرف من يقودها، وليست لها وضعية قانونية، ومع ذلك لها أثر كبير في الميدان، هل نحن أمام فاعل جديد؟
يسعى هذا السؤال الى استحضار مسألة الهوية، والذي يشير الى مفارقتين؛ الاولى الوساطة التقليدية، أي النقابات في مقابل التنسيقيات، فعندما نقول إن النقابات والأحزاب تشكل مؤسسات تقليدية، فنحن هنا نعترف ضمنيا اليوم بوجود طرف آخر حديث أو مستحدث، وهو الفضاء العمومي ممثلا في الشارع أو التنسيقيات. المفارقة الثانية، البحث عن الصفة القانونية للتنسيقيات، رغم الحديث عن مسألة الأثر واعتبارها فاعلا جديدا وبالتالي فالفاعلية الاجتماعية والالتفاف حول هذه التنسيقيات واستقلاليتها، هو ما يمنحها الشرعية القانونية ويجعلها تتحكم في النقابة وتساهم في الضغط عليها وعلى الدولة لتوقد ما كان فيها كامنا. تشكل التنسيقيات التعليمية اليوم امتدادا للإرادة الجماعية وسلطة مضادة بديلة، إنها شكل من أشكال الديمقراطية الجديدة داخل الفضاء العام في ظل تراجع دور النقابات ومؤسسات الوساطة التي أدمجت وارتدت عباءة السياسي. منذ زمن ليس باليسير أضحت مقولة الحقوق تؤخذ ولا تعطى فعلا اجتماعيا.. وفي المغرب، مازلنا لم نعش ولم نستبطن بعد معنى الديمقراطية عن طريق الوسائط، وتحقيق المطالب عن طريق المؤسسات الرسمية.. لذا أضحى الشارع هو المنبر لإسماع صوت من لا صوت له، عن طريق استغلال الساحة العمومية، وهذه الأشكال الجديدة تتشكل في الفترات التي تعاني فيها المجتمعات من الأزمة. فالسؤال المطروح هنا هل الحديث عن قانونية التنسيقيات يمر عبر خلق توافق مع الدولة واعتراف هذه الأخيرة بها كشريك يمثل الشغيلة؟ ولعل تقوقع النقابات على نفسها وعدم تغيير جلدها والانفتاح على طاقات شبابية فاعلة، جعل منها تنظيما منعزلا عن عالم الطبقة الشغيلة، كما يمكن القول إن الدولة استغلت هذه الثغرة فزادت من إضعاف النقابات قبل أن تضعفها التنسيقية وتعلن عن إفلاسها. فالنقابة مدعوة لتحمل مسؤوليتها والقيام بأدوارها من طرف الدولة رغم أن الدولة تدرك ضعف إمكاناتها، وفي نفس الآن غير مرغوب فيها من طرف من تدعي تمثيلهم.
هذا ما يجرنا للحديث عن الداعي لتأسيس مثل هذه الاطارات الاحتجاجية..
إن ارتداء النقابة للعباءة السياسية جعل فئات عريضة تنفر منها ولا تثق فيها باعتبار أن الثقة في رجل السياسة في المغرب شبه منعدمة نظرا لعدة تراكمات متوارثة، والتنسيقيات حتى هي فئة من المجتمع غير بعيدة عن هذا التنافر بين السياسي المنتمي والفرد العادي. و تأسيس مثل هذه التنسيقيات نابع من انخفاض منسوب الثقة في الهياكل والوسائط القديمة التي باتت مكشوفة ولم تعد سيدة نفسها.. بحيث أن نضالها يبقى نضالا مكولسا Les colis وذو أهداف وأبعاد ضيقة.. بينما يرى أصحاب التنسيقيات والمدافعين عنها أنها تمثل نفسها وأن متطلباتها لا تحتمل وسيطا، وإنما بصوت التنسيقية ستصل هذه المطالب ساخنة الى أصحاب القرار، ووجود نقابة أو ما شابه سيبطل مفعولها ويفشل تحقيقها بالصورة المثالية. تعاني النقابات اليوم من الشيخوخة، فالشباب -الذي يمثل قاعدة عريضة ومهمة في صفوف الشغيلة التعليمية- فئة تغيب عن أماكن المسؤولية وممارسة السلطة داخل الجسم النقابي، كما لا يمكن إغفال الجانب التعليمي، فالتنسيقيات المنبثقة عن احتجاجات الأساتذة والمعبرة عن أزمة في قطاع التعليم، تعد من أكثر فئات المجتمع وعيا وفهما وحساسية لمثل هذه الأوضاع المأزومة، وبما أنها – بحكم عدة عوامل سيكولوجية وفيزيولوجية وسوسيوثقافية مركبة – طاقات بشرية صاعدة حاملة للكثير من أفكار وصبوات ورؤى التغيير والتجديد والثورة على المتقادم والجامد من القيم والأعراف والنخب والتقاليد وأنماط تصور العالم والمستقبل… لقد كانت هذه الفئة الشبابية المتعلمة والمعلِمة، في مقدمة مكونات المجتمع، التي التقطت صُوّة التداعيات والأزمة السياسية الخانقة التي عاشتها الحكومات المغربية المتعاقبة، وسجلت حضورها في الانتفاض.
أي أثر لمثل هذه الحركات الاجتماعية وكذا خطرها على المجتمع من حيث عدم وجود قيادة لها وبالتالي لا مسؤولية لها؟
لا يمكن الحديث عن خطر فكلمة خطر حمالة أوجه.. خطر بالنسبة لمن؟ أو على من؟ الدولة، الأحزاب، المؤسسات.. أما المجتمع فهو بطبعه متغير… إن الفعل الاحتجاجي يحمل ازدواجية؛ العفوية والتنظيم. وثنائية؛ الثابت والمتغير. وقد يتبين هذا جليا بتتبع مسار الاحتجاجات عبر مراحل تاريخية منوعة. كما أن المسألة لا تتعلق هنا بعنصر الديمقراطية؛ ووجودها من عدمها. فالتاريخ السياسي، هو تاريخ السلوكات أو التصرفات والانتماءات السياسية، ثم الثقافات والأفكار السياسية. إعطاء أهمية لتعاقب الأجيال، كعنصر لتجديد أنماط التفكير وطرق الإحساس؛ ففي عالم موسوم بالتغير تتألف أنماط تفكير جديدة، وقيم مؤسسة جديدة، بينما تتوارى القيم القديمة، ويكون الصراع الفكري بينهما قويا حول القواعد الفكرية المشكلة لهما، وفي الغالب تكون هذه القواعد تعبيرا عن إيديولوجيات. فالنظام المغربي على سبيل المثال، سمح بنشوء حركات احتجاجية منذ بداية تسعينيات القرن الماضي. شأنه في ذلك شأن دول أخرى. بحيث تفاعلت الممارسة الاحتجاجية، مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي عاشها المغرب على امتداد قرون. ولم يكن هذا الامتداد خطيا وثابتا، بل تخللته منعرجات، تتنوع من حيث الحدة والتأثير، ترجمها تغير فعل الاحتجاج، من حيث التفكير في آليات تصريفه وتبليغ مضامينه، وانتشار ثقافته في صفوف فاعلين كثر، إضافة إلى توسع نطاقه من حيث الزمان والمكان. في المقابل، لا يغيب عن ذهن المتتبع مظاهر تغير هذا الفعل، استمرار تسجيل بعض تجليات الثبات التي ظلت ملازمة له. ويمكن الاستناد هنا، إلى تعريف آخر للحركات الاحتجاجية بأنها أشكال متنوعة من الاعتراض، تستخدم أدوات، يبتكرها المحتجون للتعبير عن الرفض أو لمقاومة الضغوط الواقعة عليهم أو الالتفاف حولها. هذا الفاعل (التنسيقيات) ليس وليد شهرين أو سنة، فمنذ انبثاق حركة 20 فبراير 2011 وبعدها حراك الريف، وقبلهما تنسيقيات مناهضة الغلاء.. كلها مراحل أثبتت أن الأحزاب والنقابات والوسائط التقليدية بصفة عامة، هي أدوات مفعول بها وأنها فقدت مكانتها وكلمتها.. منذ سنوات وإبان أي أزمة في أي قطاع لم يثبت أن حزبا معينا أو نقابة معينة نجحت في حل مشكل ما أو صمدت حتى تتحقق مطالب من يوليها شأن الدفاع عن مصالحهم.. النقابات أو الأحزاب يتم الزج بها في نقاشات وحوارات طويلة لا طائل منها، وفي الأخير تكون المخرجات مخيبة لأفق انتظار فئات كثيرة من المجتمع.. لهذا أصبحت النقابة يُتعامل معها بمنطق شاورها ولا تعمل برأيها..
عن جريدة أنفاس بريس