تازة: من عبق التعبير الجبلي والتراث الرمزي بالمنطقة “رقصة تْشَكَلَّلْ”..

تازة بريس13 ديسمبر 2022آخر تحديث : الأربعاء 14 ديسمبر 2022 - 12:18 صباحًا
تازة: من عبق التعبير الجبلي والتراث الرمزي بالمنطقة “رقصة تْشَكَلَّلْ”..

تازة بريس

عبد السلام انويكًة

بحكم موقعه وهذا أمر مهم في علاقته بإرث البلاد الثقافي الانساني، وبحكم طبيعته تفاعله وتأثره وتأثيثه لذاته الثقافية الانتروبولوجية منذ القدم، وعلى أساس ما لا يزال قائما ممتدا محفوظا في الذاكرة كأرشيف رمزي شفاهي ، من خلال كل هذا وذاك من تجليات التراكم عبر الزمن، يظهر أن ما يطبع المغرب من معالم ايقاع فني شعبي بدوي وزخم تعبير وأنماط فرجة، هو واسع ومتنوع. ولعل بقدر ما إرث البلاد اللامادي بحاجة لإلتفات بقدر ما يسجل من ندرة نصوص ودراسات علمية شافية وعناية ذات طبيعة محلية تخص هذا المخزون الانساني الحضاري من اجل تشخيصه ورسم مسار تطوراته وتغيراته. وخلافا لِما قد يعتقد من هم بانبهار وحديث صوب ما هناك من ابداع وتعبير فني وتدفق ذو إفراز تقني رقمي، ليست 
اثارة ما هو بدوي من بوح وتراث وذاكرة هو هدر لجهد ووقت، بل مساحة بقدر كبير من الأهمية لجعل فنون المغرب الشعبية البدوية بما ينبغي من ابراز ووعي وسلطة تعبيرية انسانية كونية، هذا دون تقديس لماض طبعا، وعياً بما هناك من أهمية تلمس خصوصية من شأنها تحقيق تنوع وغنى فضلا عن حوار ثقافي حضاري، وكم هو جميل استدامة ما هو خاص ببصماته العابرة ونمط تعبيره المتباين في معناه ومحتواه وصداه عبر زمن الانسان. ومثلما لا يزال قائماً لا تخلو مشاهد رقص ومن ثمة فرجة قبيلة وزمن المغرب زمن قبائل، من أهمية تعبير فني ثقافي وفق توزع مجالي تحدث عنه “هنري باسي” في عشرينات القرن الماضي، مشيراً الى أن في ترفيه قبائل المغرب ليس هناك سوى تعبير جماعة بنوع من تماثل وتوحد رغم ما هي عليه من تباين.

من هنا ما يمكن أن نقف عليه من مشترك في إرث فني بدوي مغربي، رغم ما يسجل من اختلافات وتفرعات سطحية ذات علاقة بما هو محلي. ولا شك أن ما هي عليه البلاد من
 تنوع مجالي لغوي هو بأثر في تنوع ما هناك من تعبير يستمد صوره اساسا من ثقافة أدب شفاهي، من قبيل زجل وغناء وعادات وتفاعلات بمكونات ذاكرة محلية. وبقدر ما يشكل تراث المغرب البدوي جانباً حياً من كيان مجتمع، بقدر ما يعد وعاء جامعا لابداعات وأنماط تراكمت عبر قرون. وهو ما جعله مجالا خصباً جديراً بإنصات لجعله بدور رافع لِما هو ثقافي حديث، عبر ما يمكن أن يستمد منه من طاقة وقوة ونفس خدمة منه لانسانية أرحب. ولعل ما تزخر به بوادي المغرب من إرث فني واسع، دليل على ما كان عليه ماضيه من أنماط عيش وثقافة، بحاجة لاستكشاف ودراسة وحماية واستثمار وفق ما ينبغي من مقاربات واستشراف ووعي، بعيداً عن أي تواضع تقدير واستيلاب واحكام قيمة تجاه تراث هو نِتاج انسانية ومقوم هويات وتميزات وثقافات.

thumbnail من فنون فرجة بادية تازة رقصة تَشْكلَّل البرنوسية .. 764ql4dbx4tjwq86ef1va38q1d6akcgah2q0bz2i7mf - تازة بريس - Tazapress

ولا شك أن ما هناك من متغيرات تجعل تراثنا بحاجة لتأمل أكثر، ليس فقط تجاه ما يجب من حماية وتوثيق وأرشفة بل لتجاوز رؤية ضيقة كثيراً ما تحصره في غناء ورقص ومواعيد وتقاليد وبيئات وبهرجة وتسطيح، عوض ما ينبغي من نظر له ككيان رمزي وهوية ومهارات وخبرات وتعبير فني وتجلي ثقافي وموارد حضارة وزمن. ولعل مساءلة تراثنا الفني البدوي ينطوي على تشعبات بمستويات عدة، تجمع بين وقع ودلالات وممارسات 
وتوطين وتحولات وغيرها. بحيث بقدر ما يحتويه هذا الارث وما يسهم به على مستوى ابراز ما هو خاص من وجود وتطور، بقدر ما يكشف عما هو جوهري يخص تحقيق الأفضل عبره لفائدة انسان وتنمية وعيش مشترك وتلاقح اجيال. ولعل تراثنا الرمزي هو هوية وشواهد على تفاعل خلف بسلف، فضلاً عما هو عليه من ذخيرة رافعة في أفق ما ينبغي من ورش واستثمار .

اشارات ارتأينا أنها ذات أهمية من اجل ورقة تخص ما يحتويه مجال مقدمة جبال الريف من تراث بدوي بقدم وأصول نشأة، تحديداً منه ما يعرف في الذاكرة المحلية على مستوى المجال التابع لاقليم تازة من جهة الشمال ب: “رقصة تَشْكلل” أو “رقصة البرانس” بمجال قبيلة البرانس خاصة الجزء الغربي منه، باعتباره المجال الغني من ترابها ليس فقط بيئياً بل ثقافيا بالنظر لما يزخر به من صور تعبير ثقافي وتفاعل وشواهد. و”تشكلل” بهذه التسمية التي تحضر في الذاكرة الشعبية المحلية، هو رقصة بدوية وتعبير شعبي محلي يطبعه تفرد ايقاع معمر عبر قرون ببادية مقدمة الريف، بل “تشكلل” أيضاً هو توصيف أكثر تردداً لدى العامة من متلقين وتوصيف أعلام هذه الفرجة الجبلية كما بالنسبة للمقدم بوجمعة الحداد رحمه الله والمقدم معاشو وغيرهم. رقصة بدوية يفضل البعض تسميتها أيضاً برقصة المقص، لِما لهذه الأداة المعتمدة فيها من صدى موجه ضابط لنسق توهج وتوزع ايقاع. بل هناك من يفضل تسميتها برقصة الطايفة لِما يعتقد من علاقة بموقع نشأة غير بعيد عن واد لحضر في تماس مع قبيلة التسول. ورقصة تشكلل هذه
 جنس فني شفاهي بدوي وفق تعبير ولغة وجسد ونسق وإرث خاص، يتقاسمه ايقاع ونغم ولحظات وقول وعفوية زجل. ولعل ما هي عليه هذه الرقصة من وقع وفرجة وتمثلات يجعلها بعشق واعتبار وجذب وأريحية، رغم كل هذا الزخم من الحداثة والسرعة والرقمنة ومن تدفق صور وأنماط تعبير وغيرها.


ورقصة تشكلل نسق فني بدوي يتقاسمه نغم ومثن فضلاً عن بنية أداء وترتيب وتداول وقانون لعبة، بقدر ما تقوم على تجليات قبيلة وذاكرة وذهنية وهوية بقدر ما تعد لوناً ثقافياً يدخل ضمن أقدم ألوان فلكلور البلاد وأشدها أصالة. رقصة ذكورية بنظم وتلقائية ومقامات ووضعيات، كذا زجل بدوي وراقصين واشارات وأدوار وقدرة تدافع، انما عبر مرسوم مقام ورسومات مقدم سيد حفل واحتفال وفرجة وسلطة، على ايقاع تقليدي لكل مصدر فيه حكاية واثارة ووقع مؤثث لرقصة البرانس، القبيلة التي بدأ اسمها يتردد بين صفحات الكتب ويتداول بعد الفتح الاسلامي لبلاد المغرب. لدرجة أن أصل اسم البرانس غير معروف، علما أن هناك من يقول بابتكاره من قِبل المسلمين لما أطلقوا اسم البتر على قبائل أمازيغية كان أبناءها يرتدون لباساً قصيراً مبتوراً، ثم اسم برانس على أبناء قبائل كانوا يرتدون لباساً شهيراً بالبرنس. وقد يكون اسم البرانس مشتق من كلمة يونانية Baranos،
ومعروف أن البرانس قبائل حصرها ابن خلدون في عشر كتل هي ازداجة وأوريغة وصنهاجة وعجيسة وكتامة وكزولة ولمطة ومصمودة وهسكورة ثم أوربة التي لا تزال بموقع شمال تازة.

thumbnail من فنون فرجة بادية تازة رقصة تَشْكلَّل البرنوسية .. 2 - تازة بريس - Tazapress

وإذا كانت رقصة تشكلل لسان حال فرجة قبيلة البرانس بتازة التي يعتقد أنها بأصول أمازيغية، فهي أيضاً أدب شعبي بدوي ونسيج تعبير وعرض فولكلوي بفقرات مترابطة بعضها لبعض، وهي ايضا بيئة حاضنة وتاريخ وانسان ووجدان وأصول وثوابت وقدم وموطن وهوية، فضلاً عما يحتويه هذا التعبير البدوي من صدق صور ونسق ونص شفاهي ومخيال. حيث غنى معاني وبلاغة تعبير عبر زجل يحضره مجد وأمجاد قبيلة، الى جانب ما هناك من دروب حياة وفصل وانتاج وتقاليد وعادات وغيرها، وهو ما ينقله لسان حال راقص وفرجة جامعة بين عفوية قول واشارات ونسيج معاني. وبقدر ما لرقصة “تشكلل” آلات موسيقية عتيقة تجمع بين دفوف وتعريجة ومقص وغيطة مؤثثة
لفرجة، فضلاً عما يميز راقصين من لباس تقليدي يجمع بين فوقية  بيضاء وعمامة بتطريز خاص ولون أصفر اضافة الى أحزمة حمراء ولباس خفيف شفاف،
بقدر ما للرقصة من بناء هندسي يقوم على جمع واحد متكامل في حوالي العشرة أفراد، بعدما كانت تقوم على مجموعتين متقابلتين في الماضي من خلال صفين متقابلين مستقيمين، مع أهمية الاشارة لِما لعنصر الاختلاف بين المجموعتين من أثر في وقع رقصة وارتقاء بأداء وتفاعل وتدافع من خلال سمو وصف واثارة واقناع ثم غلبة رمزية وفرجة. ليبقى جوهر ما كان يجمع بين المجموعتين في الماضي وفي مجموعة واحدة حالياً، هو ما يتداول من خطاب تعبيري بدوي يعرف محلياً في ثقافة الرقصة ب “الزريع”  وسابقا ب “الريح”. خطاب بقدر ما يكون دوماً على درجة من الاثارة وحبك القصة والاشارات والتتبع والانصات، بقدر ما يتم بناءه وفق تحرير حرفي بكلمات منتقاة فضلاً عما هناك من ارتجال ودقة تلوين ولحن وابلاغ وقصد.

ولعل رقصة “تشكلل” هي بحركة جسد طيلة لحظة الحفل أولاً، ثم حركة مجموعة ككل ثانياً الى الأمام لعدة مرات من خلال خطوات منسجمة ودقيقة قبل العودة الى نقطة انطلاق. لينضاف لكل هذا وذاك كفقرات فرجة فاصلة، ما يسجل من بهلوانيات أحادية ثم ثنائية لراقصين يرومان اثارة تحكم في لعبة، وابراز مهارة في عزف على دفوف ضمن وضعيات جاذبة ومؤثرة، قبل لحظة لاحقة كثيراً ما يطبعها تصاعد ايقاع متناغم متقاطع يجعل الحفل بروح فرجة خاصة. مع أهمية الاشارة الى أن الرقصة أيضاً كثيراً ما يحضرها ارتجاف كتف راقصين، مع اندفاع واقدام لهم بحسب وضعيات مرة الى الأمام مع رفع الأرجل قبل عودة الى الوراء الى حين ما يعرف بقرار الرقصة، وهو ما يخضع ترتيبه لمقدم يتملك خبرة وشجاعة أدبية. ويبقى لِبحَّات الراقصين على تباين مقامهم ولصوت وبَحَّة راقص واحد كلما دعت لحظة الرقصة، أثره في تميز حفل وتفاعل متلقي وفرجة جماعة. كل ذلك في علاقة بخطاب “زريع” من لحظة لأخرى بحسب دفئ الحفل، بحث بقدر دقة معاني”الزريع” واشاراته ومقاصده بقدر ما يكون تثمينه وتحفيزه وتعزيزه عبر زغاريد نساء برحاب جَمعٍ.

بعض فقط من كل يخص رقصة بدوية لا تزال تسكن مقدمة جبال الريف هناك على مشارف تازة واعالي ايناون حيث قبيلة البرانس، رقصة برمزية ضاربة في عمق حضارة مغربية شعبية شفاهية، كثيراً ما تجعل من تاريخ قبيلة البرانس بيئة انسانية ومن نمط عيش وقوداً لنصوصها وفقراتها وحكوياتها وبهلوانيتها وتعبيرها وفرجتها.
 ووعياً بكون رقصة “تشكلل” ببادية تازة هي بقوة ونَفَس رافع لابداع حاضر ومستقبل يثري ولا ينضب، وحتى لا يطوى هذا الارث الرمزي البدوي النسيان فضلا عما قد يلحقه من تشويه ومن ثمة تسطيحه وإفقاده اصالته، بات من المهم حفظه وأرشفته وحمايته باعتباره ذاكرة وتاريخا. مع أهمية الاشارة الى أنه رغم ما للتقنيات الحديثة التعبيرية الفنية من جوانب ايجابية عدة، قد تكون بنوع من الخطر على رمزية هذا الإرث الانساني المحلي بإفقاده وصفته وقيمته وهيبته واصالته، وبالتالي تهجيره والهجرة منه وضياعه.

ورغم ما يسجل من وعي وجهد في حماية تراث البلاد الشفاهي وفرجة بواديها، فإنه ومن خلال نظرة خاطفة على ما لايزال قائماً من عناصر أصالة يتبين أن مكونات عدة باتت تحتضر، شأنه في ذلك شأن أثاث كثير انساني بدوي من سكن وحرف وأنماط حياة وعيش وتعبير وغيره.
 ولعل الحديث عن حماية تراث البادية المغربية الرمزي كما بالنسبة لفرجة ورقصة “تشكلل “، يدفعنا للسؤال حول طبيعة هذه الحماية وهل للمسألة علاقة بشكل ما محدد في الرقصة مثلاً. وفي هذه الحالة على أي أساس يتم تحديد شكل من اشكالها هل القدم أم درجة انتشار وارتباط بزمن ومكان وجماعة ما. وعليه، لابد من تحقيق دقيق وتوازن بين أصالة العنصر التراثي وحركيته في الزمن، وفي تغيراته وقدرته على تفاعل يكون وراء ما يحدث من تعديل في شكل ومحتوى ووظيفة وامتداد وقيمة. علماً أن من جملة ما يقتضيه حفظ هذا اللون من تراث بلادنا، درجة الاطلاع على ما هناك من شواهد لم تعد جارية وهو ما قد نجده في أقوال اخباريين ورواية شفوية وغيرها.

thumbnail من فنون فرجة بادية تازة رقصة تَشْكلَّل البرنوسية .. 1 - تازة بريس - Tazapress

ولا شك أن تراثنا الفني البدوي كما رقصة “تشكلل”، هو جزء من تاريخ مكان وذاكرة انسان وثقافة جماعة ومن ثمة قبيلة، وكل حماية له ينبغي أن تقوم على كل ما يمكن الوقوف عليه من أثار ومعالم عبر مراحل مضت. وشتان بين عناصر تراث رمزي لا تزال حية متداولة يتم الحديث عن حمايتها وانقاذها، وبين ما كان قائماً منها واختفى في زمن ما إن جزئياً أو كلياً. وفي هذه الحالة بقدر ما عمل الحماية الحفظ بحاجة لوثائق وشواهد وأبحاث على درجة من التأسيس العلمي، بقدر ما قد تكون عناصر هذا التراث اختفت بشكلها الأصيل وقد تنبعث ضمن أسلوب جديد إما قريب أو بعيد الصلة بالأصول.
 إن حماية تراثنا البدوي يتوقف على كل السبل ومنها جمع عناصره جمعاً علمياً منظماً بواسطة مختصين وورشات عمل فنية، كذا الاجتهاد على أساس ما ينبغي أن يتوفر من اطلاع وتجارب وتسجيل وتصنيف. بل لابد من بنية علمية تجمع بين مراكز حفظ وتقديم خدمات وأقسام تراث فني بدوي بمتاحف، ولِما لا متاحف خاصة بهذا الارث الانساني. وقد باتت حماية تراثنا قضية بأهمية كبرى في زمن تدفق قيم، وعندما نتحدث عن حماية تراثنا البدوي الشعبي معناه الجمع والتوثيق والحفظ مع وقف نهبه وتشويهه. ولعل تراث باديتنا الفرجوي هو جزء من أرشيفنا، فهو  يقتضي قاعدة بيانات تخصه فضلاً عن توفير أطر متخصصة وانتقاء آليات تعامل، فمن شأن أرشيف هذا التراث تحقيق حماية وصيانة على نحو علمي أكثر تنظيماً وتدقيقاً، هكذا تبقى بادية مقدمة جبال الريف حيث تازة وحيث قبيلة البرانس، مجالا بتنوع وغنى فني تراثي شعبي هو بحاجة لتثمين وحفظ واعتبار عبر ما ينبغي من تعريف ودراسة ودمج واحتفاء هادف، بعيداً وهذا هو  المهم عن كل تسطيح وبهرجة ومسخ.

مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث

 

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق