لا تكن لطيفا.. إذا كنت قاسيا أحبك العشرات.. وإذا كنت طيبا جرحك الآلاف
تازة بريس
سعيد عبد النابي
لا تكن لطيفا .. بلا هم ستبقى أبد الدهر خفيفا، إذا كنت قاسيا أحبك العشرات.. وإذا كنت طيبا جرحك الآلاف.. كم كان لي من عزيز، لم يبق منهم غير أطياف.. لا تكن طيبا…الطيبوبة في عهد الدجال عيب .. ينقضي أمام عينيك الزمان ويتراكم بين جوانحك الندم. كانت المناسبة عيد أضحى يوم تميز عن بقية الأيام بتنوع أفراحه، كحقل أبهج القلوب بتنوع غطاءه النباتي، وأنعش الصدور بأرائج أعشابه، كنا نفرح بصلاة العيد، برؤية الجزارين كالمجاهدين في حرب الشوارع ، بلمة المجمر، بالدخان المتصاعد من الشواية كأننا في طقوس لطرد الشياطين، كنا نفرح بأمهاتنا تلبسننا بدلات العيد، بالكلاب تحوم حول مكان الذبح في الطبيعة كالذئاب.. بالقطط نرى في عيونها رغبتها مشاركتنا ما نملك من طعام، بالناس تحج فجأة إلى بيوت بقيت مهجورة لشهور كالخرائب.. تذكرت بعد نسيان نبض الأواصر فسعت وراء أجر يمحو ذنوب الجفاء والهجر. لم نكن وقتها نملك جهازا مسكونا بأشباح برامج التواصل، كنا نبرق للإذاعة بتهانينا قبل العيد بشهرين، نترجى السيد المذيع كي يذيعها في اليوم الموعود، نفاجئ بها أحبتنا في كل مكان، قبل الزوال.. ثم نبعث ببرقية أخرى بعد المناسبة بأسبوع، نشكره على بثه أمانينا لأحبتنا، نثني علىه حين يذكر أسماءنا كي يسمعها الكل..كانت البرقية الأولى تعني لنا الواجب ..أما الثانية فكانت ديبلوماسية ..كي لا يضيع منا خطاب مستقبلا. سعيد من وجدة يبعث تهانيه… فاطمة من الناضور تهنئ …جميلة من سلا تبعث …
كل شيء في ذاك اليوم كان عيدا كان بحق أعيادا وبعده اختلفت الأجواء كليا .. زاد عدد ضيوفنا توافدوا علينا إتباعا من الشرق، لم يكونوا كأي ضيوف. فتحت لهم القلوب..الغرف .. الجيوب.. المطامير..، حتى المآقي ذرفت دموعها الحرى ..كنا بحماس نردد.. إخوتنا في الدين .. إخوتنا في العروبة.. اخ وتنا.. آخ واتانا…رغم أن التاريخ أوحى لنا ، أننا كنا عطرا,, لا نتانة ..لكننا ..كعهدنا بكل فضائلنا التي سبقت ذكرنا .. إن قدمنا الروح تلقينا الجروح .. حتى إن الأمور تختلط في بعض الأحيان على فكري، و يسكن اللاإدراء كل فهمي … أطفالا صدمنا بلا مؤاخذة في أضحيتنا أول مرة، رأينا الكباش تذبح أمام أعيننا فتتبخر، لا تصل لحومها المطبخ ..لا يبقى منها ما يوضع على الجمر، سألنا الكبار أمام حيرتنا، على الأقل كي نفهم، سمعنا فحوى الاتفاق منهم ، قيل لنا أن الوجديين خصوا الثلثين من السكيطة لإخوانهم المقاومين، ومنهم من تكرم.. ومنهم من زاد على الكرم..
ساقط احد الصغار أباه الكلام حتى يفهم منه.. سأله في براءة الطفولة… حتى السقط باباتي ؟ ورد عليه الأب مندهشا لاهتمام ابنه وهو يغيض دمعه كي لا تكشف أحاسيسه فتقرأ ضعفا، لا لا بني..أبقينا السقط للمجمر.. أبقيت لحبيبي قليلا من الكبد .. وهاجس الطفل نفسه متمردا على الواقع الجديد، كنا نعطي الأمعاء للكلاب … وعن بفؤاد الأب، أن الشيطان ينفث سمومه في داخل ابنه ،فحاول إدراكه قبل بلوغه الجحود، كان يربيه على الإيثار..على العروبة و التضحية ..حتى يفعل بعده مع جيرانه و إخوته مثل فعله. يسمع في قبره الناس تترحم على روحه بفضله .. كان لشدة غيرته يحرق أشلاءه فداء لأحبته إن امتحن في جسده، يعرف كيف تل ابراهيم عليه السلام ابنه للجبين، كيف أسلما معا لما يتطلبه الواجب .. الفداء .
ومضت أسابيع.. تغيرت فيها طبائع السيد الوالد، طفح الوجوم على وجهه وانفث، فضل البقاء بمنزله مدثرا بحنبل من الصوف على غير عادته. عهده من قبل أول المستيقظين في البيت مداوما على صلاة الفجر، يؤدي فرائضه ثم يسعى إلى عمله بمعمل البارود و الأسلحة الفرنسي، كان يغيب عن مائدة الغذاء أحيانا، لكنه يأتي قبل الغروب محملا بالفواكه و الحلوى، يرسم بها الابتسامات على شفتي فلذة كبده، لم يكن لديه من الأولاد سواه، رأى فيه كل شيء، الابن الطيب.. وحظه من الخلود على الأرض، مطمئنا إلى المثل الشعبي ” السلوكي و لخروف كل شي كيتبع لحروف ” وكذلك كان الطفل، كلما نشط شيطانه بداخله طرده بما عرف عن المروءة من والده،
سكنت عناصر بجوارهم اتخذت لها جماعة وجدة تعريفا، أشخاص بأسماء غريبة على سمع الطفل، بوخروبة، بوتفليقة، بوصوف، بودغين . بوداود .. اعتقد الطفل ان التفليقة لصقت بالزعيم لقبا من جرح غائر وسم رأسه أثناء المقاومة، ما حمله على كره الفرنسيين، واسكنه قمة التعاطف، بلغ به الاحتقان ضد من جرحوا جاره الجرح الغائر مبلغه، فكان يرشق الكفار بالحجارة أينما صادفهم في طريقه، حبا في الجزائر، نصرة لمقاوميها الأحرار، و برا بوالده الطيب ، يلمح له انه سيبقى على عهده.. مع اخوته في العروبة.. والدين.
لم يعلم بسر نقص غذاءه و فتور همة أبيه.. لم يعلم بسر وجومه و انكساره إلا لاحقا. وأقنع نفسه بأفكاره، رددها عليها بلا ملل، الأرزاق بيد الله ، و الأخ قبل البطن . ثم تساءل متأثرا منفعلا: ماذا لو جعنا شهرا ؟ او سنة . فيجيب نفسه : غدا نكسر شوكة فرنسا.. غدا تستقل الجزائر .. غدا يصبح لنا وطن عربي كبير. كان عمه يعمل بضيعات اغتصبها المستعمر من أهل تموشنت و تلمسان، وكان يحكى له أثناء زياراته الموسمية لأخيه عن وفرة الغلة، عن جمال الطبيعة ..وعن حب الناس، وكان الابن يكبر.. ويكبر معه حب الجار، إلى أن بلغ سن الرشد، اكتشف من احد أصدقاء والده بعض من أسرار، سر غيابه عن بيته المفاجئ ,.. سر بقاءه عاطلا لمدة من الزمان ، كان يعمل حارسا للمعمل الفرنسي .. معمل البارود و الاسلحة ,, وفي ليلة ظلماء ساعد جماعة وجدة على التسلل، فحملوا أكثر من ثلاثين بندقية و قناطير من البارود .. وجر غضب فرنسا عليه, طردوه من عمله.
ظل الطفل الذي أصبح شابا يافعا يحن إلى الشرق ، منه جاءنا الإسلام، منه جاءنا مولاي إدريس، كلما صعد إلى سطح منزله تهفو نفسه الى وهران، فتتفجر من دواخله الاحزان كحمم البركان، فترسل النظرات من العين مختلفة يعجز عن تحليلها اي بيان، بعد سماعه بنجاح جماعة وجدة، وصلوا سدة الحكم، كم منى النفس؟ وغنى لها اغنية سيتذكرون.. سيتذكرون تضحيات والده المعدم.. سيتذكرون البارود..البنادق..قطع اللحم التي حرم منها الأبناء صغارا .. سيتذكرون ، مضت أعوام و هو يحن .. و هم لا يتذكرون .. وقال يرثي حاله آه لك يا شرق .. ورأى الناس على الشارع تتقدم نحو بيته حشودا وجحافل فاضطرب فؤاده الواهن واختلج صدره المشتعل، ظنهم تذكروا تضحيات والده، ظنهم تذكروا البنادق والبارود والحجارة التي رشق بها رؤوس الفرنسيين صغيرا.. لكنه اصطدم بواقع آخر سموه المسيرة الكحلة.. ليتهم عرفوا ما معنى كحلة .. على الأقل .. هي ليست كقلوبهم التي لم تزهر بعد .. ساقط الكلام / أي تكلما بالدور واحد يتكلم و الاخر ينصت فاذا تكلم المنصت انصت الاخر .