كيف هوى بيده كأنه يعطي انطلاقة سباق وأشار إلى الفرن .. ؟؟
تازة بريس
سعيد عبد النابي
كان المبنى بواجهة قصر تهفو إليه القلوب وترنو إليه العيون من الجنوب، أما جدار المبنى الخلفي شمالا فكان يفصل بين حمام ومطبخ داخل القص وفرنين من طين خارجه. وتلك كانت فكرة البناء اقترحها لتدفئة الحمام عند الطبخ، حتى يتيسر لأصحاب البيت الاستحمام في كل حين، أما جماليته فليست بذات أهمية مقارنة بالواجهة، إذ لا بد لبيوتنا أن تشبهنا على الأقل في بعض الأشياء، نهتم بجمال الوجه والمظهر أما العورات في الخلف والأعماق فان أبانا آدم عليه السلام أورثنا علما نافعا، علمنا كيف نخصف على سوآتنا أوراق الشجر لتفادي الأزمات المؤقتة. هكذا تم الاتفاق على تخصيص أكبر الفرنين للمناسبات المهمة، في حين لم يختلف الصغير عن أفران البيوت في الجوار، استغل في الأمور اليومية العادية.
هذا الصباح جاءت العمال تعليمات لملئ الفرن الكبير بالحطب، أوامر لم يستسغها عقل علال، تكاد الدار تكون مهجورة، والأيام خالية من أي تلميحات ترجح احتمالية إقامة احتفال ما، فلم إطعام الفرن بشهية الجحيم إذن؟ الفرن الصغير يكفي لطهي أي شيء، خبزا كان أو طعاما.. وحشو الفرن الكبير بهذا الشكل لا يصلح سوى لصهر المعادن، وهو لا يتقن الصناعات التحويلية، ما جعل كل أعضاء جسده تعمل بجد، ما عدا فكره، حاصرته التساؤلات، الحفل مستحيل، و الحمام مستبعد، لكن النار مستعرة، و الفوهة حمراء، حمرة قرص الشمس في صور وكالة الفضاء الأمريكية، الناسا، و لا عجين يرى في الجوار، و لا خراف مربوطة أو معلقة.. هنا مال ظنه إلى الاعتقاد بان شيء آخر لا يستوعبه عقل يحاول التعبير عن نفسه بالتجلي، حتى قلبه لا يطاوعه، يعمل بنشاط ميكانيكي تعوزه الأحاسيس الايجابية، لا فرح و لا تفاؤل و لا رغبة، مجرد انقباض، وتساؤلات، وحيرة، إلا أنه لا يستطيع الانقطاع عن نشاطه، رؤيته بلا حركة ستجلب عليه حتما لعنات السيد، أو السيدة، أو هما معا، ربما اعتبراه عصيانا، أو غشا، فليحترق قلبه، كما يحترق الحطب في الفرن تحت عينيه، و لتنهمر دموعه حتى، لان السلامة كما يردد دائما : فقلة لفهامة ،
كانت الأوامر صارمة، و صريحة، ضعوا كل الحطب المتراص خلف المنزل في الفرن ، اجعلوه جمرة، وان كلفكم الأمر حطب غابة ازدم برمتها افعلوا، ثم اختفى، الرنة أرابتهم، والأمة الجديدة لم يرها احد في الجوار، أين اختفت؟، و المبنى صامت صمت القبور، كأنه مهجور، أوامر سقطت من الأعلى كالجمر، كحجارة الطير الأبابيل، و الخدم لا يحق لهم السؤال، ممنوع عليهم الكلام، قدر علال التنفيذ فقط، يسقي الأشجار، يحرث الأرض، يهيئها للبستنة، يجمع الغلة، وان اقتضى الحال يحلب البقر ويصنع الجبن، لكن الفهم، لا يحق له، عنه ممنوع، و كذلك الاستفسار محرم. سكون الطبيعة ثقيل، ثقيل جدا، تحررت الأصوات فيه من كل المعيقات، الطيور إذا حطت على غصن وصل صوت حركتها الآذان، والضباب لازال يحف بعض القمم، الليلة كانت شاتية، ومعظم السكان فضلوا البقاء مدثرين تحت أغطيتهم، في مثل هاته الأجواء، يصعب المشي على الطين، يمنع العمل، ويضر الرعي الماشية، لا شيء يحلو غير كاس شاي ساخن، أو صحن بيصارة مع فلفل حريف، حرافته تشعل النيران في الأحشاء، إن غاب عن المائدة البصل.
تناهى إلى سمعه صراخ حماد، انتشله من شروده : هيه ، هيه ، وارد بالك العزا النار ماشي دشد فك .. وفي لحظة ارتجف ، تأخر لخطوات، خائفا مذعورا، أو متمسكا بالحياة، نظر إلى حواشي ثيابه فاطمأن، كانت سالمة من أي أذى، حملق في الأجواء، كأنه يبحث عن عيون محتملة ترصده، لكنه لم ير سوى رجلين، تتوسطهما امرأة، مشيتهم ليست عادية، الأنثى تتلكأ في مشيها، في مشهد يثير تساؤلات عميقة، إحساس عربي رفق علال بالأنثى، يحن عليها وان لم تكن من أهله، ينتصر لها إذا ظلمت، الأرواح عالم منغلق على نفسه، أبقى الخالق أمرها له، لكنها في الدنيا هي جنود مجندة، تتعارف، تأتلف، تختلف، تبعث رسائل خاصة لا يتحملها أثير، و تصل إلى المرسول إليه، شدته الصورة، تابعها، ظن الرجلين غريبين، و الأنثى كذلك، لم يعرفها من أول نظرة، لكن شيء ما بداخله شده إليها، رآها تتلكأ، تبدي اعتراضا كأنها تمنع اغتصابا أو تعنيفا، تابعها بعينيه، كلما اقتربت، اتضحت ملامحها، هي الأمة، تعرف عليها، و هذان الشخصين هما من جنود الحاكم، لماذا يعنفانها، بدأت براعم فهمه تتفتح شيء فشيء، إنهما يعيدانها إلى مالكها غصبا، كفت يداه عن الحركة، ومن عينيه سالت دمعتين أكدتا له سوء المصير، كلما اقتربت، زاد انفعالها، و حين ارتمت على الأرض حملاها على الأكتاف، المهم أن ينجزا مهمتهما وفق تعليمات الحاكم. وتبادلا النظرات، هو وحماد، واخرجا الصراخ والجلبة السيد من غور مبناه، جاء ليقف على بعد مترين من الفرن المشتعل شابكا يديه خلف ظهره، لم يسال، لم يحقق، لكنه حرر أصابعه، ورفع يده اليمنى إلى الأعلى، مبقيا اليسرى مكانها، في الخلف، ثم هوى بيده كأنه يعطي انطلاقة سباق وأشار إلى الفرن: لقيوا الكلبة وزيدو لحطب حتى دطحا رماد …
كاتب وجمعوي ..