أين تازة الآن من جمال حدائقها ومجالها الأخضر بعد حوالي ربع قرن ..؟
تازة بريس
عبد السلام انويكًة
بعدما كانت تعرف زمن الحماية والى عهد قريب حيث بداية التسعينات من القرن الماضي، بالحديقة الكبرى في كليتها وشمولية منظرها الجمالي العام، ولعل منظرها هذا هو هويتها الأصل بحكم موقعها وشرفتها واجرافها وجنباتها الصخرية وارتباطها بالجبل، فضلا عن طبيعة تربتها ومواردها المائية المتدفقة وعيونها الجارية هنا وهناك بأعاليها وأسافلها. وبعدما كانت مجالا مفروشا بظلال أشجار مجالها الأخضر، ووعاءً محاطا بحدائق طبيعية (غابة باب الجمعة، غابة ضريح علي بن بري، غابة المسبح البلدي، غابة بوزكري، غابة المجازر، غابة كهف اليهودي…)، تلك التي كانت بمثابة منتجعات قرب مفتوحة بجمالية خاصة. وبعدما كانت بخريطة نباتية وهوية شجرية منسجمة بمثابة إرث بيئي محلي بنوع من الخصوصية، وحزام أخضر جاذب من بعيد على مستوى أجراف المدينة المحيطة بمجالها العمراني العتيق من جهة الغرب والشمال والشرق، وبعدما كان فائض المجال الأخضر بها حزاما فاصلا معبرا بين ما كان يعرف بالمدينة العليا والمدينة السفلى/ الجديدة، بدليل ما تحفظه الصورة ويشهد عليه أرشيف المدينة التاريخي عن فترة الحماية.
اين تازة الآن وأين مجالها وحدائقها الخضراء بعد حوالي ربع قرن، وماذا تبقى من تازة الحديقة الكبرى المعلقة كما سبقت الإشارة لذلك، وهي الصورة والخصوصية التي كانت تغري بالكتابة والابداع والوصف والنزهة والاقامة، وفق تقدير وشهادة الكثير عن زمن الحماية وكذا زمن العقود الأولى لاستقلال البلاد حيث ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي، بعد ما ضرب المدينة من تحول ترابي كان بتأثير على عدة مستويات، لأسباب متداخلة منها ما هناك من آلة تعمير واسمنت في كل الجنبات وقد أتت على كل جمالية بما في ذلك ما هو أخضر حضري، فضلا عما بات من غربة بيئية محلية ممثلة في نمط تشجير لا طعم ولا رائحة ولا لون له ولا علاقة ولا انسجام له مع طبيعة وهوية المدينة الترابية الجبلية. ما أنتج مشهدا شجريا مختلا في مكوناته وصورته وفائدته وقيمته على محدودية امتداده، إثر ما تم إدخاله من فصيل شجري غريب عن البيئة المحلية من قبيل شجر النخيل التي تتوفر شروطه في مناطق جافة صحراوية وليست جبلية. وكانت تازة كغيرها من مدن المغرب قد شهدت اقبالا كبيرا على هذه الشجرة منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي، وباتت الشجرة الأكثر اثارة وحضورا وبديلا في فضاءات المدينة الحضرية الكبرى وحدائقها وشوارعها، ومعها ايضا مرافق الادارة والبنايات العمومية وغيرها، وهكذا حلت بالمدينة وبمجالها الأخضر بيئة جديدة وأغراس لم تكن منسجمة ولا تزال مع ما هناك من شروط طبيعة وتربة محلية.
وبعدما خلفته هذه التجربة من خلل وتشوه بيئي جمالي على مستوى عدد من المدن، خاصة منها الممتدة غرب وشمال ووسط البلاد الجبلي من قبيل مدينة تازة. ظهرت اصوات جمعوية مهتمة تقول بأهمية إيقاف غرس شجر النخيل بهذه المدن، وتعويضها بتشكيلات شجرية وفق مخططات منظرية وهوية وطبيعة محلية. وكان هذا هو مطلب حركة “مغرب البيئة 2050″من خلال عرائض لها وقعها الآلاف من الأشخاص. وُجهت لكل المصالح المركزية الحكومية للدولة من اجل تدخل مؤسساتي لإنقاذ مجال مدن المغرب الأخضر الحضري، واعادة النظر فيما هناك من تنخيل وغرس عشوائي لشجر النخيل غير المنسجم في جماليته وقيمته وفائدته مع تراب بيئات أخرى ذات هوية محلية اخرى. وأنه من المفيد الانتباه لأهمية التنوع البيولوجي الترابي الوطني بالحفاظ على توازناته على مستوى كل منطقة على حدة.
هكذا لا شك أن كل مهتم غيور، يرى أن من المهم والواجب حرص ومراعاة الجهات الوصية على تدبير مجال تازة الأخضر، لِما هناك من خصوصية ترابية وثروة طبيعية شجرية محلية كمجال جبلي يعد جزءا من الأطلس المتوسط، فضلا عما ينبغي من تعامل مسؤول مع طبيعة وحاجيات وتهيئة البيئة الشجرية المحلية، تجنبا لكل ما قد ينتج من اختلالات بأخطار على عدة مستويات، وتجنبا لكل مشهد ومجال أخضر حضري مشوه، وعيا بأن لكل نوع شجري موطن خاص وشروط انبات يجب مراعاتها واحترامها، وأن غرس الاشجار خارج موطنها وشروطها قد يكون بنوع من العبث البيئي، وانتهاكا لحقوق ما هناك من منظر طبيعي أصيل وتشكيل وتراث طبيعي. ووعيا أيضا بأن منطقة تازة بحكم تربتها وتكوينها ومورفولوجيتها تعد موطنا للصنوبريات بالدرجة الأولى، وهي البيئة والشجريات التي تراجع مشهدها بشكل كبير وقد شهدت ما شهدت من اجتثاث، بحيث باتت عدة فضاءات بتركيب شجري غريب عن البيئة المحلية من قبيل شجرة النخيل التي تجد صعوبة في تأقلمها، ناهيك عما تؤثثه من شريط فقير في جماليته ونسقه وظلاله، لدرجة أن تازة باتت بمشهد مشوه لذاكرتها البيئية الجبلية، وما كانت عليه من ثقافة تشجير حماية للتربة وانجرافها شتاء، ومن منظر ظلال ممتدة صيفا، علما أن الذاكرة البيئية جزء لا يتجزأ من تراث المدينة اللامادي، ومما هو رمزي وهوية غير خاف ما لها من أهمية ووقع ثقافي نفسي وروحي في علاقته بتراب المعيش والتنشئة. إن الغرس والمجال الأخضر والشجر الأكثر ارتباطا ببيئته يكون اكثر توازنا وفائدة ونموا وتجددا وصحة، وحتى شروط رعايته لا تكون مكلفة ناهيك عن قيمته الجمالية ومنظره المنسجم بيئيا بحسب الفصول.
فمتى تلتفت وتنصت المصالح المعنية بتدبير نبات تازة الحضري ومجال المدينة الأخضر لكل هذا وذاك، من أجل انقاذ ما يمكن انقاذه ورد الاعتبار لِما افتقدته تازة من جمال وقيمة وظلال ممتدة، باعتماد ما هو منسجم من نوع غرس وتهيئات خضراء متوازنة متلائمة. ومتى تتواضع الجهات الوصية على المساحات الخضراء بتازة، لسماع رأي المجتمع المدني فضلا عن رأي باحثين ومهتمين وغيرهم، للنظر من خلال لقاء خاص فيما من شأنه انجاح كل مبادرة بيئية حضرية هادفة وفق ما ينبغي من تشارك وتقاسم وإغناء. وعيا بما يمكن أن يسهم به انخراط المجتمع المدني، على مستوى ما ينبغي من برنامج عمل وطبيعة وأمكنة تدخلات وحاجيات في علاقتها بتراب وترفيه ومنظر وصيانة ونوع شجر الخ. بل معادلة المجتمع المدني مهمة والحالة هذه على مستوى التوعية والتحسيس، في أفق حملة بسقف زمني ومواكبة وتواصل وتنوير، لغرس الممكن والمنسجم من الأشجار مع البيئة المحلية، لاستعادة ما طبع المدينة من بيئة لعقود وعقود من الزمن ووعيا بما افتقدته من بريق أخضر، وأن الاشتغال على هذا الملف بات أمرا ملحا أكثر من أي وقت مضى، نظرا لعدد ساكنة المدينة وحاجتها لمساحات خضراء شافية ضمن نظرة استشرافية وعمل استراتيجي. فضلا عن كون المنظومة البيئية الحضرية بتازة، باتت بحاجة لاسترجاع هويتها من أجل ما ينبغي من منظر وصحة ساكنة نفسية وشروط سياحة وغيرها.
لقد باتت تازة بحاجة لمجالها الأخضر ولرئتها الطبيعية ومنظرها الذي كان، وكذا لرد الاعتبار لإرثها الطبيعي الشجري الحضري وذاكرتها البيئية، مع استرجاع ما كانت عليه فضاءاتها وشوارعها وازقتها واجرافها من ظلال، فضلا عن مرافقها العمومية من مؤسسات تربوية وادارية ومرافق صحية ومستشفيات وغيرها، لمواجهة ما بات قائما من ضغط درجة حرارة وجفاف. وهو ما لا يمكن بلوغه عبر ما ينبغي من خدمات ايكولوجية، عبر أشجار منسجمة مع بيئة وتربة محلية من شأنها أن تلعب دورها في امتصاص غاز ثاني أكسيد الكربون وإنتاج الأكسجين، وتثبيت الغبار وتلطيف الأجواء وحماية التربة ومنح ما ينبغي من منظر وتنوع بيولوجي الخ. خدمة لورش تازة الكبير المنشود وحقها في التنمية واسترجاعها لِما كانت عليه من صورة حديقة كبرى، ومنظر عام جاذب ملفت رفيع المشهد ذات يوم.
مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث