تازة:من تقاطعات العملين السياسي والمسلح في مواجهة الاستعمار بالمنطقة
تازة بريس
عبد الإله بسكًمار
لقد تأثَّر سياقُ ظهورِ وتطور النضال التحرري ونقصد هنا الحركة الوطنية ثم المقاومة وجيش التحرير، في مدينة تازة وأحوازها بجملة عوامل تاريخية ومجالية واجتماعية وثقافية نجملها فيما يلي :
أولا : موْقعُ ممر تازة الهام الرابط بين شرق البلاد وغربها والواصل بين الأطلس المتوسط الشمالي وتلال مقدمة الريف، حيث عُدَّ معبرا رئيسا للقوافل التجارية والحجِّية وتحركات القبائل والتجمعات السكانية و” الحركات ” والجيوش المتجهة شرقا و غربا منذ فجر التاريخ، وقد شكلت الفلاحة والأنشطة الزراعية والرعوية والغابوية وحرف الصناعة التقليدية وموارد الحركة التجارية والهجرة والتهريب مجمل الفعالية الاقتصادية ومصادر العيش التي طبعت المنطقة عبرعقود زمنية على الأقل . ثانيا : تدَرُّجُ الفضاء الجغرافي والتضاريسي بين أسافل وادي إيناون وأعاليه وهو الواصل بين حوضين كبيرين هما ملوية وسبو، بما طبعه ويطبعه من صعوبة التضاريس وتعقُّدِها بين الهضاب والبساط الضيقة والجبال المتميزة بارتفاعها عن السهول وسطح البحر، الشيء الذي اتخذته قبائل المنطقة ذرعا طبيعيا لصد هجمات القوى المعادية أو دعم بعض حركات التمرد و الثورة ضد السلطة المركزية والأسر الحاكمة طيلة فترات التاريخ الوسيط والحديث والمعاصر .
ثالثا : تنوُّعُ المجال القبلي والسكاني عبر ممر تازة وحوض إيناون، بين المجموعات المستقرة بالأحواض والقرى والمراكزالحضرية من جهة وتلك المنعزلة في الجبال الوعرة من جهة أخرى، فالتجمعات القبلية سواء في الجبال أو التلال وحوض إيناون، تميزت بحذرها الدائم من العنصر الأجنبي وشِدَّة مِراسِها، واعتزازها بمقوماتها الخاصة، وساعد على ذلك أنها لم تَخضَعْ على وجه العموم للدول الأجنبية منذ فترة الاحتلال الروماني للمغرب وتميزت بوجود نُخَبٍ زراعية بالأساس إما في إطارالأمغارأو النظام القايدي المخزني أو ضمن التنظيم الداخلي المَشْيخي الذاتي لكل قبيلة، وهناك نخب ما فتئت تشتغل في أنشطة تقليدية أو خدماتية بالمدينة ثم مسألة تفاعل البادية مع الحاضرة، وأخيرا نُذكِّربعنصرَهام وهو بُعدِها عن الشواطئ المغربية مما جنَّبها مثل هذا الاحتلال وما يستتبعه من تأثر بثقافة الغالب وأبرز نماذج تلك التجمعات : اتحاديات التسول والبرانس وغياثة ومكناسة وبني وراين وهوارة وجزناية وصنهاجة .
رابعا : قربُ المنطقة من مدينة فاس العاصمة السياسية لبعض الدول والأسر الحاكمة بالمغرب وخلال فتراتٍ من الدولة العلوية الشريفة وأيضا، باعتبارها العاصمة العلمية وأحد أكبر معاقل الحركة الوطنية المغربية، ومسقط رأس أبرز زعمائها كعلال الفاسي ومحمد حسن الوزاني وعبد العزيز بن ادريس والهاشمي الفيلالي وعمر بن عبد الجليل وغيرهم، الشيء الذي أثرإيجابا وسلبا على مسار العمل الوطني ككل بتازة والأحواز .
خامسا : وقوع تازة وعموم المنطقة بين المغربيْن : الخليفي ( الشمال أو مجال الحماية الإسبانية ) والسلطاني ( الجنوب أو مجال الحماية الفرنسية ) وبذلك فقد واجهت قبائل المنطقة نوعين من الاحتلال الأجنبي في وقت واحد ومتزامن معا، تجمَعُ بينهما قواسم مشتركة وتفرقهما تَمايُزاتٌ عديدة، دون إغفال انخراطها في المقاومة المسلحة بين 1914 و1926 بقيادة زعماء الجهاد كالشنقيطي وعبد المالك والحجامي وموحا وحدو أثناء ما سُمي بحرب التهدئةGuerre de Pacification ( كانت بالأحرى جرائمَ حربٍ استعمارية كاملة حسب الأستاذ سمير بوزويتة ) ثم مشاركتها في الثورة الريفية التحررية وخاصة اتحاديات التسول والبرانس وجزناية وما جاورهذه الأخيرة كبني توزين ومطالسة علاوة على مقاومة بني وراين في الأطلس المتوسط، ونسجل هنا بالخصوص الأثر الكبير لثورة الريف الباسلة على الوعي الوطني بالمنطقة.
سادسا : تناثُرُ الكتابات والوثائق المغربية مقابل وفرة الوثائق الأجنبية ( الأرشيف الفرنسي أساسا ذو الطابع الاستعماري ) حول المنطقة والتباس أو تحريف الدلالات التاريخية لجهادها أو نضالها الوطني، فباستثناء الجهود التي بذلتها وتبذلها بعض مراكز البحث والمؤسسات الجامعية أو المختصة وفي طليعتها المندوبية السامية للمقاومة وجيش التحرير، لم يُكتب أو يُؤلف حولها كمجال محدد وعلى نحو منهجي شمولي الشيء الكثيرإلا في السنوات الأخيرة ، فضلا عن ورودها بشكل مبتسَرمُتَفرِّقٍ هنا وهناك وفي ثنايا مذكرات بعض المقاومين والزعماء الوطنيين ولكن في إطار النضال الوطني ككل.
وإذا أضفنا إلى هذه العوامل التي أثرت في سير العمل الوطني بتازة عنصرَ الحصار السياسي والأمني الخانق الذي كانت تعيشه مدينة تازة اعتبارا من نهاية الحرب الريفية سنة 1926، وأثَرَالتقسيم الإداري الموازي للسياسة الاستعمارية وتكثيف الحضور العسكري بهدف ضبط المنطقة أمنيا وإثارة الرعب بين الساكنة بشبكة من المواقع والثكنات والجاسوسية وأشكال الاستخبار واستقطاب النخب المحلية ثم النهب الاستعماري بتسلُّط حفنة من المعمرين، الذين استغلوا أجود الأراضي المنتَزَعة من أصحابها بشتى الحيل والسبل، إلى تفاعُلٍ بهذا القدر أو ذاك مع الأحداث السياسية الوطنية وماتميزت به فترات الكفاح التحرري من مد وجزر، منذ 1930 وإلى حدود انطلاق جيش التحريربالمنطقة في 02 أكتوبر 1955 ومن ثمة عودة المغفور له السلطان الوطني محمد بن يوسف إلى عرشه وإعلان الاستقلال، إذا أضفنا كلَّ هذا إلى ما سبق، أمكن الحديث فعلا عن خصوصيات متميزة للنضال الوطني ، أي النشاط السياسي ثم العمل المسلح، بهذه المدينة وأحوازها، تُمَيِّزها عن باقي المناطق المغربية كما تشترك معها في عناصر أخرى .
يُقدم الزعيم الراحل محمد حسن الوزاني ما يمكن اعتباره النواةَ الأولى لانطلاق العمل الوطني بتازة وذلك حين أقدمت سلطات الحماية على نفي وحبس عدد من الزعماء الوطنيين – ومنهم الوزاني- بسجن تازة و مقره هو الذي كان في الأصل مارستانا ثم مسجدا وتحول حاليا إلى متحف إقليمي للمقاومة منذ بداية الألفية الثالثة وهو الكائن بالمشور في قلب تازة العتيقة، والمقصود هنا الوطنيين المحتجين على سياسة فرنسا البربرية سنة 1930 والتي رامت التفريق العنصري بين جماعات الشعب الواحد في إطار ماسمي بالظهير البربري، والذين لاقوا مختلف أنواع القهر والاضطهاد على يد الباشا بن البغدادي في فاس وسُجنوا بتازة لمدة شهرين إلى حدود أكتوبر من نفس السنة، حيث أُطلق سراحهم إثر زيارة الرئيس الفرنسي ” دوميرك ” للمغرب، وهم: العربي البوراشدي، محمد البلغيثي، محمد الدرقاوي، الهاشمي الفيلالي، العربي الدرقاوي وعبد العزيز بن ادريس العمراوي إضافة إلى علال الفاسي ومحمد حسن الوزاني، وقد سبقهم الوطني محمد شماعو من سلا إلى سجن تازة.
ونسجل هنا اتصال الشاب الوطني إبراهيم الوزاني وهو أحد مؤسسي الحركة الوطنية بتازة والمزداد بها سنة 1914 و بالمصادفة فإنه نفس تاريخ احتلال مدينة تازة من طرف القوات الفرنسية وقوات الكوم، قلت نسجل اتصاله أثناء فترة السجن بهؤلاء المعتقلين ومساعدتهم بالأخبار و” المنشورات ” بل وتنظيم أمسية طرَبية بالمندولينة والقيتارة، في الساحة المجاورة للسجن كانت تصل أصداؤها إلى المساجين تخفيفا عنهم رغم الرقابة الاستعمارية المشددة، يعلق محمد حسن الوزاني ” ولكن بعد الإفراج علينا علمنا أن المنظِّم لهذه الأمسية الطربية هو الوطني إبراهيم بن عبد الله الوزاني ولا نعرف بالضبط طبيعة القرابة العائلية التي كانت تجمعه بالزعيم محمد حسن ولعله من أبناء عمومته أي الأسرة الوزانية المعروفة نسبة إلى وزان أو ما كان يسمى ب ” دار الضمانة “، الذي كان مقيما إذاك بتازة كطالب علم، كما كان يتزعم حركة الشباب فيها قبل التحاقه بالقرويين وبالحركة الوطنية في فاس ” ويضيف الوزاني في مذكراته أنه – أي هو نفسه – استطاع استقطاب أحد حراس السجن للصف الوطني وهو محمد الغيناوي وكان من مريدي الزاوية الوزانية بقبيلة التسول شمال غرب تازة وظل المساجين كما يؤكد الوزاني يطلبون من هذا الحارس الذي كان متعاطفا مع الشباب الوطني المعتقل، ما هو في حدود طاقته وإمكانياته، ونلتقط نحن من هذا الرجل شهادة شفوية هامة نقلها كتابةً محمد حسن الوزاني حول هجوم المجاهدين الريفيين على تازة، بقيادة الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي في أبريل، ماي 1925، التي أوشكوا أن يستولوا عليها لولا استعمال الفرنسيين للغازات السامة، حين فتكت بالمجاهدين في خنادقهم المحيطة بالمدينة، والشهادة الشفوية هنا تتوافق مع ما ذهبت إليه الصحافة الألمانية ثم الباحثون الإسبان من استعمال تلك الأسلحة المحرمة دوليا من طرف فرنسا وإسبانيا ضد مجاهدي الريف، وأضاف الزعيم محمد حسن الوزاني أن أسرته استقبلت الغيناوي بفاس بعد ذلك وأكرمت وفادته كمقابل طبيعي لسلوكه النبيل مع إبنها ومع باقي المعتقلين .
نشأ إبراهيم الوزاني بتازة وأخذ من الثقافة الأصيلة الشيء الكثير، إذ حفظ القرآن الكريم بزاوية عيساوة الكائنة لحد الآن بدرب مولاي عبد السلام بالحي الشمالي بتازة العتيقة، وعلوم الفقه والعربية على يد فضلاء المنطقة كالأستاذ محمد البرنوسي المجاز من جامعة القرويين ومحمد البقالي وخاصة على يد الفقيه المجاهد محمد بلمامون الشنقيطي الذي كان يُدرِّس رسالة أبي زيد القيرواني بمسجد للا عذرا القائم لحد الآن بساحة أحراش والمعروف أن المجاهد الشيخ الشنقيطي هو الذي تزعم مقاومة قبائل تازة ضدا على تغلغل الجيش الفرنسي خاصة بين 1913 و1918 إلى جانب زعماء آخرين وساهم بفعالية في عرقلة الجهود العسكرية الفرنسية بالمنطقة ووضع العصا في العجلة أمام أهدافها الإستعـــــمارية .
استغرقت دراسة إبراهيم الوزاني بتازة ثلاث سنوات، ثم التحق بجامعة القرويين بفاس حيث تلقى العلم على شيوخ الفترة كالعلامة العباس بناني والحسن الزرهوني وتصادَف قدومه إليها مع تأسيس أولى خلايا الحركة الوطنية والاحتجاجات العارمة على السياسة البربرية، وتجدُّدِها في كل مرة يتم إحياء ذكراها المشؤومة وكانت هناك خلايا سرية للشباب الوطني بفاس التحق بها كثير من الفتيان أيضا رغم أنهم لم يشبوا عن الطوق بعد، ومنهم الفتى عبد الهادي بوطالب الذي يحكي عن هذه المرحلة ” وقد غشيت إحدى هذه الخلايا التي كان يربينا فيها وطنيان من أعلام الحركة الوطنية هما الشيخ الهاشمي الفيلالي والمرحوم إبراهيم الوزاني، وكنا نتربى في خليتنا على نوع من المعرفة، يتمثل في زرع بذور التضحية بالنفس والروح والمال وكل ما يعز على الإنسان في نفوسنا وفي سبيل الوطن ” بل اعتبرهما الأستاذ بوطالب رحمه الله مُعلِّميْن روحِييْن في حين عَدَّ باقي المدرسين بمؤسسة ابن عبد الله الحرة بفاس أساتذة ومعلمين فحسب، وفيما كان الأستاذ الهاشمي الفيلالي، يضيف بوطالب، يشتغل في الدباغة مع والده ويغشى دروس القرويين، ويُعلِّم في المدارس الحرة، كان إبراهيم الوزاني منقطعا إلى التبشيرالذي لم يكن لينقطع له فيه نفس بالوطنية ومبادئها وأخلاقياتها “.
وفي هذه الأثناء كانت سلطات الحماية تتبجح بأن منطقة تازة لم تتأثر بالغليان السياسي الذي كانت تشهده فاس خلال هذه الفترة ولا تفصل بين المدينتين سوى 120 كلم ، الشيء الذي فندته المدينة سريعا بفضل تحركات إبراهيم الوزاني، والذي يبدوواضحا أنه أخذ مبادئ الوطنية بتازة قبل انتقاله إلى القرويين بفاس، خاصة وأنه تتلمذ على يد الشيخ بلمامون الشنجيطي، ففي الذكرى الثانية للظهير البربري أي 16 ماي 1932 تسربت إلى تازة مناشير وطنية بتوقيع سري لإبراهيم نفسه بعد أن تم اعتقاله بفاس، ويُذكر أنه من أوائل الوطنيين الذي وظفوا أسلوب المناشير في الدعوة للتظاهرات الوطنية التحررية وجاء في إحداها ” فلنتذكر هذا اليوم ولنجعله عيدا لنا وذكرى من أعظم الذكريات الخالدة، ولكن لا لنقيم فيه الأفراح، بل لنجعله مبدأ نهضتنا، ننطلق في طريقنا إلى الجهاد . إن قوتنا فوق كل قوة لأنها قوة الحق، والحق يعلو ولا يُعلى عليه، قوة لا تعتمد على المدافع والطيارات والغازات، ولكن تعتمد على الواحد القهار، فالعملَ العمل والنضال النضال، فالحق يؤخذ ولا يعطى، ولا تيأسوا من روح الله “، والمعروف أن المناشير والعرائض وقراءة اللطيف في المساجد ثم تلاوة القرآن والمظاهرات ومقاطعة بضائع المحتل كانت من أبرزأشكال الاحتجاج على السياسة الاستعمارية الفرنسية خلال هذه الفترة من الكفاح الوطني .
وكان رد فعل سلطات الحماية وعملاؤها أن أعتقلته فجُلِد بواسطة أسلوب ” الفلقة ” بفاس من طرف زبانية الحماية يوم 5 يوليوز 1932 نتيجة مشاركته في إحدى تلك الاحتجاجات وتأطيرها، وحَكم عليه الباشا ابن البغدادي بثلاثة اشهر سجنا وكان الفرنسيون كما يفيدنا عبد الوهاب بن منصور، الذي عرفه عن قرب وكتب عنه ” كلما أمعنوا في إذايته ازداد هو جرأة عليهم وتحركا ضد أعمالهم وفضحا لخططهم وتشهيرا واحتقارا لكل من يساعدهم ” وبسبب هذا الصمود والتحدي وذلك الأذى شاع ذكره ولفت الأنظار إليه لما ناله من السجن والنفي والتجويع في سبيل الأهداف السامية ورفعا لراية التحرروالانعتاق.
ولمَّا لم ينفعْ معه القمع بفاس أعاده بن البغدادي إلى بلده تازة في إطار يشبه الإبعاد أو الإقامة الجبرية، لعله يرتدع أو يعود عن مواقفه أو يريح الباشا منه، لكن العكس هو الذي حصل، فقد انتقل الشاب الوطني إبراهيم بن عبد الله الوزاني هناك إلى المجال العملي، حيث حوَّل زاوية مولاي الطيب إلى مدرسة حرة نهاية نفس السنة التي يمكن اعتبارها انطلاقة فعلية للحركة الوطنية بتازة بمشاركة عدد من وطنيي وأعيان المدينة وهم السادة : مولاي العربي الأمراني والطاهر بن المقدم بن عبد السلام التوزاني وهو الرجل الذي دعم ماديا ومعنويا الثورة الريفية ورافق الأميرمحمد بن عبد الكريم الخطابي خلال أيام إقامته بتازة في دار السملالي بعد استسلامه للفرنسيين وذلك بين 27 ماي وبداية يونيو 1926، والحاج الطيب القرموني والحاج المقدم الطيب بلغيث، ثم انضم إلى هذه اللجنة وطنيان آخران هما عبد القادر مهدي وعبد القادر بالعياشي رحم الله الجميع، واستطاع إبراهيم أن يُقنع هؤلاء بهذا العمل الوطني، بعد أن كانت تلك الزاوية مقصورة على الأذكار و” الحضرة ” كل يوم جمعة، وفكرة تأسيس تلك المدرسة القرآنية الوطنية خطرت للوزاني عقب حضوره بمهرجان الذكرى الأربعينية لرحيل أمير الشعراء أحمد شوقي بفاس سنة 1932 ثم سفره إلى سلا نازلا عند محمد شماعو معرجا على مكناس والقنيطرة حيث التقى بعض الوطنيين هناك ولما شهد مهرجانا جماعيا لقراءة القرآن الكريم هناك، تحمس كثيرا وقرراعتماد نفس الأسلوب في نشاطه الوطني وتأسيس مدرسة قرآنية بتازا وذلك في إطار دينامية المدارس والجمعيات القرآنية العصرية التي شرعت فيها الحركة الوطنية كرد فعل على تهميش اللغة العربية ومحاولة ضرب مقومات الأمة وعلى رأسها النسيج الاجتماعي الوطني للشعب المغربي والدين الإسلامي، وبتنسيق محكم مع سلطان البلاد المغفور له محمد الخامس رحمه الله ، ويعلق العلامة الراحل ج امحمدالأمراني العلوي على الأمر بقوله ” إن تأسيس مدرسة حرة بتازة في تلك الظروف الاستعمارية لهو عمل وطني جدير بالإعجاب والتقدير”.
ورغم التهديدات الاستعمارية التي استهدفت مُوَقِّعي طلب التحويل هذا إلى وزارة عموم الأوقاف، والتي أدت إلى تراجع بعضهم، فإن اللجنة التي تشكلت من أعيان وعناصر وطنية استطاعت الصمود، فتأسست المدرسة واستمرت في نشاطها بتازة لمدة سنتين، وكانت تضم ما يزيد عن 150 تلميذا، وبرزفيهم مناضلون وطنيون، شاركوا بعد الحرب العالمية الثانية في النضال الوطني التحرري كل من موقعه، كالفقيه السي محمد بن المكي أبي عبد الله الملقب ب” المدير ” عند أهل تازة وعلال بالعياشي وبن سعادة والصديق جزناي وغيرهم من وطنيي تازة والناحية، وقبل نهاية تلك السنة وبالضبط في أكتوبر 1932 أسس الوزاني أول خلية للحركة الوطنية بتازة، ضمت عددا من خيرة أبناء المدينة والإقليم، باشرت تأطير فئات من الشعب على مستوى المدينة والمنطقة، فتمكنت من استقطاب العديد من الأنصار بقبائل التسول وغياثة وبني وراين وآيت سغروشن وجزناية ومناضلين من مدينة جرسيف شكلوا نواة التنظيم السياسي خلال العقد الموالي، ومن ثمة، بث ونشر الشعور الوطني بين الناس، مما خلف ثماره اليانعة فيما بعد كالتوقيع الشعبي على وثيقة 11 يناير 44 والتجاوب مع احتفالات عيد العرش وخطاب طنجة وانتفاضة 1952 وحتى نفي المغفور له محمد الخامس وانطلاق العمليات الفدائية ونشاط جيش التحرير بالشمال، وعملت تلك الخلية أيضا بتنسيق تام مع وطنيي المنطقتين الخليفية والسلطانية وخاصة مع محمد اليزيدي ومحمد حسن الوزاني .
وقد استقدم إبراهيم الوزاني كلا من الأستاذ صالح المنصوري ومحمد الصنهاجي من فاس للتدريس بالمدرسة القرآنية إضافة إلى الفقيه السيد احمد الصنهاجي الذي تابع تلقين القرآن الكريم بكُتَّاب له في تازة منذ الاستقلال وإلى عهد قريب، وبفضل شهادته الشفوية أمكن التعرف على هذه المدرسة ذات المنحى الوطني الديني وبعض ما كان يُلقن فيها فإبراهيم الوزاني فضلا عن إشرافه العملي على إدارة المدرسة وإلقاء الدروس نهارا كان يقدم دروسا ليلية في الزاوية الطيبية نفسها وهي فرع من الزاوية الدرقاوية الأم، كما كان يُخرج التلاميذ للمصلى بتازة قصد القيام بحركات رياضية كفيلة بتنشيط الجسم ورفع المعنويات في فترة تاريخية حالكة تميزت بالقمع والاستغلال الاستعماريين المستمرين .
من اللمحات المثيرة لِما كان يُلقى في هذه المدرسة أن الجنرال لوزانLausin قائد منطقة تازة ورئيس القسم السياسي الكومندان الحسين زارا المدرسة على سبيل جس النبض ومحاولة التوصل إلى حقيقة نشاطها وفجأة واجه الجنرال الفرنسي موقفا لا يُحسد عليه ودون تهييء مسبق تحرَّق معه غيظا وحقدا لمَّا شرح له الكوماندان الحسين مدلول بيتين شعريين وقد رددهما تلميذ أمامهما وهما مكتوبان على سبورة القسم : لا تسْقِني ماءَ الحياة بِذِلَّةٍ…….بلْ فاسْقِني بالعِزِّ كأسَ الحنظلِ ، ماءُ الحيــاة بذِلَّةٍ كجهــــنَّمٍ……..وجهنمُ بالعزِّ أطــــــيبُ منزلِ. وهو ما سيتطور فيما بعد إلى موقف معاكس صريح من سلطات الحماية وسيتنامى في المقابل رد فعل الجنرال الطاغية تجاه المدرسة ومديرها وتلاميذها، كما سنورده في هذا المقال، ومن الأناشيد التي كانت تُردَّد فيها هذه المقطوعة الوطنية للشهيد محمد القري : كُلُّنا للوطــــــنْ ….للعُــــــــــلا للعـــــلَمْ.. خيرُ هذا الزمـــــنْ…..قُطرنا ذو الكـرَمْ.. كهلُنا والفتى عنــــــــــد صوت الوطـــنْ.. أُسْــــدُ غابٍ مَتــى…..ساورَتـْــــنا الفـتن.. قُطـــــرنا ذو الـــكرَمْ…..صانـــــه ربـُّنا.. ونشيد آخر تحت عنوان ” الوطن “.. يابني قومي أفيقوا…..من سبات الغافلين.. إنَّ نومَ الحُرِّ موتٌّ……والمُنى للعاملين.. هل يَرتجي الدوا…..مَن في الجهل ثوى.. وبالجبن انكـوى……وبالذل ارتــــــوى.. ياحماة الوطن.. قوموا من الوسَن…..بكم جاء الزمـــن.. فاستنقذوا الوطن……..بالمال والبــدن عِزُّنا بالوطن.. إلى آخر النشيد الوطني الحماسي….
وكان المندوب الفرنسي جرانطو بتازة من جهته عدوا لذوذا للحركة الوطنية ودائم التهكم والاستهزاء من رجالها أو من اشتبهوا بالانتماء إليها، وظل إبراهيم الوزاني يَعرف فيه هذه العجرفة الاستعمارية واحتقاره للمستضعفين من المغاربة وساكنة المنطقة، فيقابل استهزاءه باستهزاء أقوى وأشد ألما، سأله يوما أمام جماعة من الناس عن السر في سقوط أحد النجوم ليلا فأجابه الوزاني فورا : إنه يرمز إلى سقوط نجم فرنسا، فأفحمه وحينذاك فكر جرانطو مليا في الانتقام لهذه الإهانة.
ظهرت الحركة الوطنية بتازة في وقت كانت تُقرأ بالمساجد فقرات من كتاب دليل الخيرات وعنوانه الكامل ” دليل الخيرات وشوارق الأنوارفي ذكر الصلاة على النبي المختار” للعالم العارف الصوفي محمد بن سليمان الجزولي، وكان يتلوه العامة عادة متحلقين حول باشا المدينة وذلك قبل صلاة الجمعة أوخلال بعض الأوقات المحددة، وطبعا بعد إلغاء الظهير البربري، كانت الحركة الوطنية كما يفيد العلامة امحمد بن احمد الأمراني قد قررت قراءة القرآن قبل صلاة الجمعة في عدة مدن مغربية بينها فاس والرباط وسلا وتازة، إذ الأبعاد الوطنية لهذا القرارلا تخفى على أحد، وشكل المجاهد المرحوم عبد السلام القرموني الطالب آنذاك بجامعة القرويين صلة الوصل بين قيادة فاس وقيادة تازة، وهو الذي أبلغ الوطنيين في مدينته بقرارقيادة الحركة الوطنية في فاس بالإضافة إلى مبادرات إبراهيم الوزاني التي ذكرناها في هذا المجال.
عند اقتراب الذكرى الرابعة للظهير البربري كانت نذر انتفاضة تلوح في الأفق بتازة، ففي 4 ماي 1934 حدث اصطدام بين إبراهيم الوزاني بالمسجد الأعظم، الجامع الكبير، وبين كل من قاضي المدينة وناظر أحباسها، عندما حاول إبراهيم ثنيَ الحاضرين عن دليل الخيرات والاقتصارعلى قراءة القرآن الكريم ونتيجة ذلك أصدرت محكمة الباشا حكمها على إبراهيم بالسجن 15 يوما، وقبل أن ينفذ هذا الحكم الجديد الجائردبر الوزاني خطة باتفاق مع مجموعة من الوطنيين بتازة على أن يسبق قراء القرآن ويحتلوا الركن المخصص في المسجد الأعظم لمن كانوا يقرأون دليل الخيرات، فلما حضرت مجموعة الدليل كعادتها فوجئت بوجود أصحاب تلاوة القرآن في مكانهم، فانسحب قراء الدليل في ذهول وانكسارونتيجة لهذا النصر المعنوي شعرت سلطات الحماية بحرج وتضايق كبيرين من هذا الأمر لأنها قرأت أبعاده الوطنية.
أمام هذا الوضع المحتقَن، حاولت سلطات الحماية الضغط على أولياء تلاميذ مدرسة إبراهيم الوزاني وتهديدهم وترهيبهم عن طريق الاستنطاقات التعسفية خاصة يوم 16 ماي حيث تظاهر التلاميذ تضامنا مع مديرهم، الذي تم تشديد المراقبة عليه من طرف الحماية وأعوانها، وقد بلغت الأجواء بالمدينة من الاحتقان درجة مشحونة سواء بين الساكنة والشباب الوطني أوفي أوساط الحماية، كما أن الإجراءات التي اتخذتها سلطات الاحتلال لم تمنع الوطنيين رواد المسجد الأعظم من معاودة عملية قراءة القرآن، بدل فسح المجال أمام أصحاب دليل الخيرات فحدث ما ليس منه مفرأي الصدام العنيف بين الطرفين وذكر العلامة الحاج احمد معنينوأن باشا المدينة تدخل وأمر قراء القرآن بالسكوت وإخلاء الصفوف الأولى للمسجد الشيء الذي دفع أحد تلامذة المدرسة إلى توجيه صفعة له يوم الجمعة 18 ماي 1934 مما أدى إلى غليان وسط الحاضرين والذي تحول إلى مظاهرة وطنية ضد السياسة الفرنسية، حين تدخل الإمام والخطيب وقتذاك محمد بن سعد وهو خال إبراهيم الوزاني، ملحا على قراءة إسم الله اللطيف ولم تكن يد المؤامرة الاستعمارية بعيدة عن هذا الصدام بين المغاربة غير أن يقظة الوطنيين بتازة فوتت عليها الفرصة، فأخذت الأمور مجراها الطبيعي أي عبر الصراع الوطني الحقيقي ضد السياسة الاستعمارية، كان من نتيجته تدخل قوات المخازنية واعتقال وإصدار أحكام قاسية في حق 14 من الشباب التازي الوطني وهم من تلاميذ المدرسة القرآنية الوطنية التي يديرها إبراهيم الوزاني وقضت محكمة الاستعمار عليهم بالسجن مابين ستة أشهر وسنتين وتعد سنتان سجنا أقصى مدة تحكم بها العدالة الفرنسية في المغرب وقتذاك، وكن منهم نجلا خطيب الجمعة بن سعد اللذين قضيا مدة الحبس بسجن لعلو في الرباط وكان الوحيد من هؤلاء المحكوم عليه بالسجن النافذ سنتين هو مدير المدرسة إبراهيم الوزاني وهوالذي قال بوضوح للطاغية جيرانطو عند اعتقاله ” ستحكم علي بسنتين أعرف هذا مقدما ” ونذكر أنه الوحيد أيضا الذي لم يطلب استئناف الحكم وقضى مدة حبسه بسجن العادر بالجديدة وقد سلط عليه الاستعمار عذابا شديدا وكان وطنيو سلا بالخصوص كالحاج احمد معنينو وسعيد حجي يساعدون الوزاني في سجنه ببعض اللوازم من مؤونة ولباس يوم الأحد و نعته المرحوم سعيد حجي بالبطل الوطني وهو الذي كان يوزع كل ما يتوصل به على باقي السجناء ويقول لمن يزوره ” إن السجن فيه الأكل واللباس وإني في غنى عن كل هذه الأشياء !أخْبِرْنِي عن الوطنيين وماذا يعملون “.
ورغم وجود صحافة للمعمرين بتازة خلال هذه الفترة كجريدتي « Taza – journal»و « L’avenir de Taza » فإنها لم تتطرق لهذه الأحداث من قريب أو بعيد، بل كانت تركز فقط على تاريخ المدينة منذ دخول الفرنسيين إليها وعلى الدعوات إلى تعزيز الوجود العسكري والأمني بها وتتبع أخبار المعمرين، وفي ظل غياب صحافة وطنية مستقلة، فإن جريدة الحياة وحدها التي كانت تصدر بتطوان تحت مسؤولية الزعيم عبد الخالق الطريس هي التي أخبرت بتظاهرة المسجد الأعظم بتازة وما صاحبها من قمع واضطهاد، وكل ذلك في سياق الاحتجاج على السياسة الاستعمارية الفرنسية، فقد أوردت خبرها كالتالي ” اجتمع جمهور كبيرفي المسجد الأعظم بتازة وقرأوا القرآن، ثم وقف من بينهم الوطني الغيور الأستاذ ابراهيم الوزاني فحمَّس الجمهور بخطابه حتى وقع الهتاف المتواصل ضد فرنسا وسياستها العقيمة، وقد كانت نتيجة هذا الاجتماع، إلقاء القبض على أربعة عشر شخصا من بينهم الأستاذ الوزاني السابق الذكر، وقد أحدث هذا القبض استياء عاما بين سائر الطبقات “.
ترتب عن تلك الأحداث إغلاق مدرسة إبراهيم الوزاني القرآنية الحرة الأولى بتازة وقضى المعتقلون الشباب الوطنيون الذين سُجنوا بتازة شهرا كاملا يتناولون خلاله الخبز والماء وأمضوا منها 13 يوما في عذاب متصل وهم مقيدون بالسلاسل، وكان شيبة الحمد الوطني الغيور الشيخ محمد بن سْعَدْ خطيب الجمعة بالمسجد الأعظم وأحد مؤيدي انتفاضة القرآن يواسي المسجونين ويُصبِّرهم ويرفع معنوياتهم ضاربا المثل بصبر النبي ص والصحابة الأجلاء في مختلف المحن التي لاقوها، والمعروف أن هذا الشيخ الوطني كان قاضيا وظل هو الخطيب الرسمي للمسجد الأعظم بتازة طيلة سنوات، إلى أن وقعت الأحداث المذكورة فوجد نفسه بشكل تلقائي من أبطالها، مما أدى إلى عزله عن الخطابة والعدالة وسائر الوظائف الدينية من طرف الاستعماروتوفي سنة 1942 صابرا محتسبا ودفن بالزاوية الدرقاوية وكان المغفور السلطان محمد بن يوسف قد زارتازة في 24 ماي 1934 فحبس على المسجد الأعظم عددا كبيرا من المصاحف في إشارة وطنية واضحة، كما أبدى تعاطفه الضمني مع الوطنيين بالمدينة.
لما خرج إبراهيم الوزاني من السجن سنة 1936 ، لم ينقطع النضال الوطني بتازة رغم القمع وإغلاق المدرسة القرآنية، فقد نُظمت مظاهرة احتجاجية في نونبر 1936 بعد اعتقال قادة كتلة العمل الوطني من طرف الحماية وهم علال الفاسي ومحمد اليزيدي ومحمد حسن الوزاني ، كما شارك وفد الوطنيين التازيين في مؤتمر الحزب الوطني لتحقيق المطالب بعد حل كتلة العمل الوطني، الذي انعقد بدار الحاج احمد الشرقاوي بالرباط في 13أكتوبر 1937 على إثر أحداث بوفكران بمكناس وأحداث مراكش وبني يازغة وغيرها فأصدر المؤتمر الذي ضم وفود 20 فرعا ومدينة بيانا منددا بالقمع المسلط على المغاربة وبالمنع المستمر لحرية التعبيروالأوضاع المتأزمة للمغاربة في ظل الحماية، الشيء الذي اعتبرته السلطات إعلانا صريحا للحرب ضدها فاستعد نوجيس للقمع الشديد مرة أخرى، هذا ونشطت لجان الحزب الوطني لتحقيق المطالب بعد تأسيسه في عدد من المدن بينها تازة ومن أبرز تلك اللجان : لجنة التعليم والإصلاح الديني والتقويم الخلقي وتربية الشباب والدعاية والنشروالدفاع عن فلسطين
في هذه الظروف واصل مولاي ابراهيم كفاحه الوطني وانضم إلى الحركة القومية بزعامة محمد حسن الوزاني، بعد انفصالها عن كتلة العمل الوطني بقيادة علال الفاسي ولعب دورا خطابيا مهما أثناء مؤتمرطلبة شمال إفريقيا المسلمين بفاس في نفس السنة، غير أن المقيم الفرنسي العام نوجيس ما لبث أن أنزل بطشته الكبرى بكتلة العمل الوطني سنة 1937 فأصبح إبراهيم الوزاني مطاردا ومطلوبا لدى الحماية، ولذلك اختفى لمدة طويلة عند المجاهد عبد اللطيف الصبيحي بسلا ثم عاد إلى تازة متخفيا في منزل عبد القادر مهدي لأنه من أقاربه الأقربين، وفي ظروف ملتبسة فر إلى المنطقة الخليفية لتجنب بطش الاستعمار الفرنسي دائما، والتحق بمدينة تطوان حيث استمر في نضال وطني لا يلين فأصدرسنة 1938 جريدة الدفاع باللغات العربية والفرنسية والإسبانية.
ولما كان الحصار الأمني والعسكري مضروبا دائما حول تازة والأحواز فقد منعت سلطات الحماية كل دخول لمطبوعات المنطقة الخليفية بما فيها هذه الجريدة، لكن موجات الأثير عبرأجهزة الراديو التي بدأت انتشارها خلال هذه الفترة عوضت عن ذلك، فاستمر الوعي التحرري ومن ثمة تواصل العمل الوطني ولو في شبه سرية، وكان إبراهيم نشيطا للغاية في هذا المجال كما نسق مع شخصيات إسبانية وألمانية خلال الحرب العالمية الثانية في سبيل مصالح وطنه وعلى رأسها قضية التحرروالاستقلال وأسس جريدة الدستورسنة 1948 بعد توقيف الدفاع والتي سرعان ما توقفت هي الأخرى عن الصدور بعد سنة ونيف من النشاط الإعلامي الوطني، وإنما ركزنا على نشاطه الوطني بتازة ثم فاس وهو الذي يهمنا أكثر، لأن الموضوع هو الحركة الوطنية بتازة والناحية، وانتهى المطاف بالمناضل الوطني الغيور إبراهيم الوزاني التازي باختطافه مع رفيقه عبد السلام الطود من أمام مقهى كونتيننتال في قلب تطوان بتاريخ 13 يونيو 1956 ثم اغتيالا عشية استقلال المغرب وقد أطلق عليه الوطني الحاج احمد معنينو نعت” شهيد الحرية “.
رغم الضربة القوية التي نزلت على الحركة الوطنية بتازة، إثر أحداث الجامع الكبيرفإن شعلتها استمرت عبر فترة الحرب العالمية الثانية، ومن أبرز ملابسات تلك الحرب العظمى في المغرب المحتل تجنيد عدد كبير من أبناء المنطقة في صفوف القوات الفرنسية لتحرير فرنسا ودحر النازية والحضورالعسكري الأمريكي بهذه الناحية على إثر إنزال نونبر 1942 والذي كان له أثر إيجابي على ساكنة المنطقة وكذا حيوية تازة بالنسبة للحركة الوطنية كمجال يربط شرق المغرب بغربه من جهة ومنطقتي الاحتلال الاسباني والفرنسي من جهة أخرى.
وبالموازاة مع توقيع وتقديم عريضة الاستقلال ل11 يناير44 فقد وقع عدد من وطنيي وأعيان تازة ومواطنيها تلك العريضة والمقصود العريضة الشعبية لدعم العريضة الرسمية التي قدمت للقصر الملكي وللإقامة العامة بالرباط وسفارات دول الحلفاء، ومن الموقعين الفقيه محمد أبو عبد الله ” المدير ” المذكورسابقا وهو من مواليد 1920 بتازة، الذي كان أبرز وطنيي تازة خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو طالب سابق بالقرويين ويعد من تلامذة المدرسة القرآنية الحرة، وقد حُكم عليه بثلاثة اشهر نافذة في فاس نتيجة مظاهرات 29 يناير ذاق خلالها من عذاب المستعمر الشيء الكثيروذلك بمعية وطنيين آخرين كعبد الهادي التازي والحاج احمد بن شقرون، وبتحفيزوتشجيع من عبد العزيز بن ادريس سعى الفقيه أبو عبد الله لتأسيس مدرسة حرة ثانية بتازة بعد أن أغلقت الأولى منذ أزيد من عقد زمني وذلك حفاظا على استمرار الفكر الوطني والنضال التحرري ومن أجل الأهداف الوطنية النبيلة، ورغم الإغراءات التي تعرض لها، حسب شهادة شفوية من إبنه،إلاأنه أصر على موقفه الوطني حتى فازوفد تازة الذي توجه عند المغفور له محمد الخامس بموافقة وتزكية هذا الأخيروكان الوفد التازي يضم محمد بلعياشي وعبد القادر مهدي والمقدم بلغيث وتحت مسؤولية الفقيه أبي عبد الله، وافتتحت المدرسة رسميا يوم فاتح يناير 1947 حين كانت الأجواء آنذاك تشي بنوع من الانفتاح على عهد المقيد العام الجديد إيرك لابون .وكان الفضل في تأسيس تلك المدرسة الحرة يعود إلى السيد عبد القادر بنكيران الذي كان صديقا للزعيم علال الفاسي
وقد اختير لتلك المدرسة الحرة مقر مؤقت بزنقة صبِّ الماءْ بتازة العتيقة، لأن مقرها الرسمي كان بساحة أحرَّاش ومعروف انه شيدت مدرسة عمومية هناك بعد الاستقلال وهي التي تسمى مدرسة مولاي الحسن أو المدرسة الحسنية لحد الآن، فوق أرض حبَّسها الوطني الغيور محمد بن علال العياشي على بناء المدرسة الحرة وهي التي كان مقررا أن يدشنها ولي العهد آنذاك مولاي الحسن، غير أن الإدارة الاستعمارية حالت دون ذلك، وقد نشطت المدرسة المذكورة التي ضمت وقتها 320 تلميذا وتلميذة وكانت برامجها تمزج بين ما هو ثقافي وماهو سياسي وطني إلى مواد ترفيهية وأناشيد حماسية تستنهض الهمم وتقوي العزائم ثم الاحتفال المستمر بالأعياد الدينية والوطنية وعلى رأسها ذكرى الهجرة النبوية وعيد العرش وعيد المولد النبوي، حتى عدتها سلطات الحماية فرعا من التنظيم الوطني المضاد لسياسة فرنسا الاستعمارية ومن ثمة وجب ردع أصحابها .
ان من تلاميذ تلك المدرسة عدد من التازيين انتموا للتنظيمات الوطنية فيما بعد وواصلوا نشاطهم التحرري كل من موقعه كأحمد قشيقش ومحمد بن الطاهر التوزاني وبن سعد والصدِّيق اجْزناي وبلعياشي وغيرهم، وبسبب عرقلة سلطات الحماية انطلاق المدرسة بمقرها الأصلي وهوشرق ساحة مولاي الحسن، أحراش قلب تازة العليا، استمرت المؤسسة الحرة على هذا المنوال وفي مقرها المؤقت حوالي خمس سنوات طوال، إلى أن هلت سنة 1952 فوقعت أحداث الإضراب العام لمناسبة اغتيال المناضل النقابي التونسي فرحات حشاد، إذ سالت الدماء من جديد بالدار البيضاء خاصة، في جولة أخرى ضد سياسة الحماية، انتفض الشعب من أجل الحرية والاستقلال بعد أن انخرطت في الحركة الوطنية أفواج جديدة من العمال والكادحين وفئات من الطبقة الوسطى، وإثر اتضاح زيف كل شعارات الإصلاح التي أطلقتها الحماية، وظلت الدعاية المضادة لفرنسا بالمنطقة الخليفية نشيطة، حتى أصبح الوطنيون يجوبون منطقة الاحتلال الاسباني بكل حرية ويربطون علاقات وصداقات مع مختلف النشطاء والزعماء هنا وهناك، مستغلين موقف إسبانيا الرافض لنفي السلطان محمد الخامس فكان رد فعل السلطات الاستعمارية الفرنسية أن قررت القضاء نهائيا على الوطنيين، حيث نكلت بعدد منهم وأبعدت أو نفت عددا آخر وكان من المبعدين إلى بلدة ميسور المناضل التازي الوطني محمد أبو عبد الله وكذا المناضل عبد القادر اشتاتوكَزناي الذي كان يبث المبادئ الوطنية بقبيلة جزناية المجاهدة بالاتصالات والمناشيروبث الوعي الوطني عبر المواسم والأسواق الموجودة في المنطقة وكان يشتغل بالتجارة عبر مليلية وأسواق الناحية ، والاحتفال بالمناسبات الوطنية والدينية كما توسعت فروع حزب الاستقلال نحو جرسيف ومرنيسة ومناطق أخرى من ناحية تازة.
وقد التقى المناضلان التازيان بالوطنيين المبعدين إلى ميسورأيضا وهم السادة امحمدبا حنيني عبد الرحمان الحريشي أحمد بن سودة عبد السلام بنشقرون وآخرون ولم يطلق سراحهما أي شتاتو وأبو عبد الله مع الآخرين إلا في سنة 1954 ضمن إطار المناورة الاستعمارية لاحتواء جزء من الحركة الوطنية، ورغم تحذيرات وتهديدات الحماية عاد محمد أبو عبد الله إلى العمل السياسي الوطني بموازاة مع نيله العالمية من كلية ابن يوسف بمراكش، وفي فجر الاستقلال سنة 1956 تعرض بدوره لمحاولة اغتيال آثمة كادت أن تودي به، وقضى هذا المناضل الوطني بقية حياته في التعليم والإدارة التربوية وانتخب غير مامرة في المجلس الجماعي لتازة التي كرمته في بداية الألفية الثالثة بنادي رجال التعليم عرفانا لما قدمه لبلده ووطنه قبل وفاته في مستهل الألفية الثالثة رحمه الله عن عمر يناهز السابعة والثمانين سنة .
وبرز أيضا في ساحة النضال الوطني خلال هذه الفترة عدد من وطنيي أحواز تازة في مقدمتهم المجاهدان عبد القادر اشتاتوكزناي والحسن بن حموش الزكريتي، وقد بدأ اشتاتو نضاله الوطني منذ سن مبكرة وهومن مواليد 1911 بجزناية ناحية تازة دائرة أكنول حاليا، إثر اغتيال والده اشتاتو عبد السلام من طرف أحد أعوان الاستعمار ثم هناك الفقيه عبد السلام العرقوبي من نفس المنطقة اي جزناية المجاهدة أحواز تازة ساهموا في الكفاح الوطني / تخطيطا وتوجيها سواء منه السياسي أو ما تعلق بالعمل المسلح ونقصد العمليات الفدائية وتلك التي نفذها جيش التحرير بعد تشكيله في مستهل سنة 1955 علما بأن العمل السياسي يرتبط بالممارسة السلمية عموما من أجل مطالب محددة قد تتقاطع في جزء أو كل منها مع مطالب وأهداف العمل العنيف أو المسلح .
وعود على بدء ففي سنة 1944 تأسست أولى خلايا الحزب الشيوعي في تازة بإشراف المناضل الفقيه محمد التوزاني والتي ساهمت في تعميق الوعي الوطني وروح النضال لدى الفئات الوسطى خاصة ثم التصدي للإدارة الاستعمارية وأعوانها المحليين وذلك على الخصوص، إثر اغتيال المناضل النقابي التونسي فرحات حشاد، علما بأن هذا الحزب بدأ اعتبارا من نفس التاريخ ينخرط شيئا فشيئا في النضال الوطني إلى جانب التنظيمات المغربية الأخرى ونتيجة لحوادث ما بعد المطالبة بالاستقلال اعتبارا من 29 يناير، تم اعتقال كل من أبي عبد الله واشتاتو، وكان التواصل مستمرا مع لجنة تحرير المغرب العربي بالقاهرة بدءا من سنة 1947، وعبر القيادات الوطنية وأبرزها الزعيم علال الفاسي، ويسجل هنا أن من أوائل من ربطوا الاتصال بهذه اللجنة وبالفاسي عبد القادر اشتاتو بقبيلة كزناية، وكان ذلك بشكل مباشرأو في أكثر الأحيان عبر المجاهديْن عبد العزيز بن ادريس واحمد مكوار، في حين كثف الحسن بن حموش الزكريتي اتصاله بالزعيم عبد الكريم الخطابي ضمن نفس الاستراتيجية التحررية التي استهدفت تحقيق استقلال المغرب وعودة محمد الخامس وجلاء القوات الأجنبية .
ومن الخطوات النضالية الوطنية التي شارك فيها اشتاتو إلى جانب التوقيع الشعبي على عريضة الاستقلال الاحتفال بعيد الأضحى مع المغفور له الملك محمد الخامس بالرباط رفقة عشرات المجاهدين الآخرين من قبيلة جزناية وغيرها من القبائل، كما ظلت قبيلة جزانية كسائر قبائل تازة تحتفل بعيد العرش والمقصود 18 نونبر كل سنة كتعبير عن تشبث أبناء المنطقة بالحرية والاستقلال وما يمثله شخص الملك الوطني المجاهد، وفي نهاية سنة 1951 اعتُقل عبد القادر اشتاتو من جديد لنشاطه الوطني فقضى ستة أيام تحت التعذيب بتازة ثم نقلته السلطات إلى سجن بقرية بركين من أحواز تازة على جبل موسى وصالح الشاهق لمدة سبعة أشهر، لأنهم لم يفوزوا منه بحق ولا بباطل ونتيجة اتصاله ونشاطه الوطني داخل وخارج السجن زاد المستعمر من التنكيل به وبلغ الأمر حد سحله بفرس قبطان بركين الفرنسي عبر مسافة مائة كيلومترا كاملة وحتى مدينة جرسيف، حيث كان السجن ينتظره أيضا والتقى هناك بالوطني المجاهد عبد السلام القباج وأخيرا أبعد إلى ميسورهو الآخر والتي شهدت أيضا إبعاد المناضل الوطني محمد أبو عبد الله في سنة 1952إلى ميسور وظل هناك لمدة سنتين .
لما لم ينفع أسلوب القمع والتنكيل لجأت سلطات الحماية إلى أسلوب الإغراء ومحاولة شراء الذمم، وهي عملية دنيئة، تمارس عادة حين تفشل باقي وسائل القمع والردع، فقد حاول الجنرال لابارا الحاكم العسكري لجهة فاس إغراء المجاهد عبد القادر اشتاتو بمنصب قائد على رأس قبيلة جزناية مع امتيازات أخرى مقابل الامتناع عن أي عمل عدواني ضد فرنسا وسياستها في المغرب، لكن تلك الإغراءات قوبلت جميعا من طرف اشتاتو بالرفض والإصرارعلى التشبث بالمطالب الوطنية وفي طليعتها الاستقلال وعودة السلطان محمد الخامس ونحب أن نشير هنا إلى أن المجاهد عبد القادراشتاتو رحمه الله، يجسد بشخصه ونضاله تقاطعا فريدا في نوعه بين العمل السياسي المنظم والكفاح المسلح، ولابد هنا من التأكيد على دور الحمَامات العمومية التقليدية بتازة إضافة إلى المساجد، في الاجتماعات واللقاءات شبه السرية التي كانت تعقد في تلك المرافق العمومية كحمام قبة السوق وصب الماء وسوق اليهود والباشا، وهناك كان يلتقي مع مجاهدين آخرين، ومنهم أخواه ميمون ورحال، وكان ينسق دائما مع الزعماء الوطنيين بالشمال وخاصة بفاس ونذكر هنا عبد العزيز بن ادريس والحاج العربي الإدريسي من جهة و عباس المسعدي أحد قادة جيش التحرير من جهة ثانية.
وبسبب نشاطه الوطني المكثف منذ 1936 وسط قبيلة كزناية والذي تجلى في توزيع المناشير الوطنية وتأطير المظاهرات الاحتجاجية وأهمها تلك التي تلت التوقيع على عريضة الاستقلال 11 يناير 1944 ومظاهرات 1952 وأخيرا الهرب من سجن بورد والمشاركة الفعالة في انتفاضة 2 أكتوبر 1955، فقد عانى من القمع الاستعماري البغيض خاصة السجن والاعتقال والتعذيب حتى بلغت مدة اعتقاله أربع سنوات وسبعة أشهرتراوحت بين 3 أشهر وسنتين نافذتين، ووصلت ذروتها مع الحكم الغيابي بالإعدام في خضم معارك جيش التحرير شمال تازة، بل وخصصت السلطات الاستعمارية جائزة مالية لمن يقتل عبد القادر اشتاتو قدرها ملونا فرنك في ذلك الوقت .
كان عباس المسعدي رحمه الله قد التحق بقيادة الناضور قادما من الدارالبيضاء في محاولة من أقطاب المقاومة لتوسيع رقعة الصراع مع الاستعمار بعد أن تمت محاصرتها إثر استشهاد الزرقطوني في 18 يونيو 1954، فقد وجه المسعدي رسالة إلى اشتاتو قصد تعبئة مجموعة مجاهدين من جزناية والالتحاق به في موضع أزلاف بالريف الشيء الذي تم كشفه من طرف عملاء الاستعمار فألقي القبض على المجاهد اشتاتو مرة أخرى وسُجن بمركز بورد أحد نقاط مثلث الموت الشهير بالريف أي تيزي وسلي، أكنول وبورد، كل ذلك والمجاهدون يستعدون لإطلاق عمليات جيش التحرير بقبيلة جزناية المكافحة والقبائل المجاورة كالبرانس وكان اشتاتو وهو في السجن على علم بكل تلك التحركات وأيضا على استعداد لفك القيود والهرب من سجن المستعمر .
تم له ذلك الهرب البطولي من السجن ليلة الفاتح من أكتوبر 1955 بعد تحضير من طرف زوجته المجاهدة للا ميمونة التي وضعت تلك الليلة قدرا كبيرا من الملح في طعام العشاء الذي كان عبارة عن قديد حيث عزمت ” العريفة ” التي كانت تتجسس على زوجها لفائدة السلطات الفرنسية، فغطت هذه في نوم عميق الشيء الذي أتاح للمجاهد اشتاتو الهرب من السجن بعد مهاجمته صباح اليوم التالي من طرف إحدى فرق جيش التحرير، وكان ضمن السجناء الذين أطلق سراحهم يوم هجوم المجاهدين.
إضافة إلى نشاطه السياسي الوطني فقد شارك عبد القادر اشتاتو في عدة معارك مسلحة لجيش التحريرإلى أن حُكم عليه بالإعدام غيابيا، فعاش متنقلا وفي سرية تامة بين شمال وجنوب إقليم تازة وحتى تطوان حيث تابع نشاطه الوطني وتواصله مع زعماء الحركة الوطنية في الشمال أو الجنوب وخاصة علال الفاسي وعبد العزيز بن ادريس والعتابي والدكتور الخطيب، إلى أن هل الاستقلال وعاد محمد الخامس إلى عرشه وكان من مستقبلي بطل التحرير لما حل بالمنطقة في 14 يوليوز 1956 وتم تعيينه في أحد المناصب بعد الاستقلال بتندرارة إقليم وجدة ثم البهاليل بإقليم صفرو وانتخب عضوا بالمجلس الوطني المؤقت للمقاومة وأعضاء جيش التحرير إلى ان رحل رحمه الله إلى دار البقاء في 30 غشت سنة 1989.
استمر النشاط الوطني بتازة ودخل في منعطف حاسم مع عمليات المقاومة وجيش التحرير، ولسبب منهجي فقط تركز حديثنا حول النشاط السياسي الوطني، لأن تشكيل جيش التحرير بالشمال وزعاماته ومعاركه التي خاضها يحتاج إلى بحث خاص على حدة، في حين أن هدف المقال تحدد في رصد مميزات الحركة الوطنية ذات الطابع السياسي والمطلبي والتنظيمي بتازة والأحواز، فبعد معارك أكتوبر 1955 بدأت اعتبارا من دجنبر عمليات فدائية نوعية داخل مدينة تازة والأحواز رغم الحصار الاستعماري، شملت إطلاق الرصاص وإلقاء القنابل واغتيال الجنود الفرنسيين أو المتعاونين معهم ، وبدا لبعض الوقت كأن النشاط السياسي قد أخلى السبيل للعمل المسلح بتازة، إذ لم يتبن حزب الاستقلال العمل المسلح رسميا كماهومعروف فهذا النوع من العمل الوطني ونقصد العمليات فدائية – عمليات جيش التحرير، كان يعني ببساطة حكم الإعدام أو المؤبد في أحسن الاحوال، أما العمل السياسي فكان يعني السجن فقط، لكن عددا من منخرطيه حملوا السلاح فظل التقاطع بين المجالين السياسي والمسلح محل أخذ ورد في نهاية المطاف، خلال هذه الفترة الحاسمة، وكما أبلى مجاهدو الأحواز في العمل المسلح من خلال اعترفت فرنسا مثلا بسقوط 100 قتيل في ثلاث معارك فقط دون باقي المنازلات هي ” بورد ” و” بِينْ الصّفوفْ ” و” باب مْطيق” مقابل 14 شهيدا في صفوف جيش التحرير إلى حدود مارس 1956. كثف الوطنيون جهودهم في تنظيم الملتحقين بالحزب الوطني ثم حزب الاستقلال وجمع الأموال ومراسلة الهيئات الدولية كالأمم المتحدة وإرسال بعثات للسلطان كما ارتفع عدد الخلايا ” الإرهابية ” مثلما كانت تصفها الصحافة الاستعمارية، وأمام سلاح مقاطعة البضائع الفرنسية كان البديل موجودا ومتمثلا في البضائع الإسبانية بحكم تواجد جزء من المنطقة ضمن الاحتلال الإسباني، وبعد أن سجل ابن المنطقة الشهيد علال بن عبد الله عملية نوعية ضد السلطان الدمية ابن عرفة، شكلت بداية العمل الفدائي الوطني وهو الذي كان قد تشبع بالمبادئ الوطنية من بلدته جرسيف ومدينة تازة، ثم انتقل إلى الرباط وهو في ميعة الشباب حيث انتظم في الخلايا الوطنية وعمق اتصالاته هناك وخاصة مع الحاج احمد الشرقاوي أحد أبرز وطنيي العاصمة ، ومع الأيام نشأ بالتربة التازية مناضلون وطنيون آخرون ساهم بعضهم في العمل الوطني خلال السنوات الأخيرة للحماية الفرنسية، كمحمد بن الطاهر التوزاني والفقيه محمد أبو عبد الله والفقيه الزرهوني ومحمد الفكيكي والمكي الصحراوي ثم العمل الوطني والفدائي معا كعبد الرحمان بن سعد وأحمد بن قليلو، وكانت المحكمة الاستعمارية قد قضت بالإعدام على المناضل بن قليلولم يتم تنفيذه لحسن الحظ وكما حكمت بالمؤبد على المجاهد بن سعد، فقضيا معا أزيد من سنتين بسجن القنيطرة، ومما ساعد على النجاح النسبي للعمل الوطني بتازة الموقف المرن بل المتعاون سرا في بعض الأحيان، لباشا تازة مولاي ابراهيم السملالي الذي كان يتستر على نشاط الوطنيين حسب العديد من الروايات الشفوية، فقد استفز أحد العملاء شخصا وطنيا معروفا بتازة فوجه له أي للعميل لطمة ألزمته السجن لكن الباشا مولاي ابراهيم كان يسمح له بالمبيت في داره وبين أهله كل ليلة حتى إذا أتى الصباح عاد مجددا إلى السجن في شبه تمثيل لدوره كسجين أمام الفرنسيين وعملائهم وأخيرا هبت تازة وجماهيرها عن بكرة أبيها لاستقبال المناضل بن قليلوالذي أطلق سراحه يوم 3 مارس 1956 فتزامن ذلك مع أفراح الاستقلال وعودة المغفور له محمد الخامس إلى عرشه، بعد أن تلقت فرنسا الاستعمارية هزائم وتراجعات هنا وهناك وكانت لقاءات إيكس ليبان قد تمخضت عن نتائج أولية تحاول حفظ ماء وجه فرنسا، لكن المفاوضات استمرت سواء مع العاهل المنفي أو مع الحكومة التي تشكلت لهذا الغرض كما هو معروف مما أسفر عن اتفاق ثاني مارس 1956 فإعلان الاستقلال .
* رئيس مركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث .