تازة : البعد الانسي في التعاون الطبي المغربي الصيني..
تازة بريس
عبد السلام انويكًة
لى جانب معسكر الشيوعية، انحازت الصين زمن حرب باردة بعد فترة حرب عالمية ثانية طاحنة توزع على اثرها العالم الى معسكرين ليبرالي ثم شيوعي، ذلك منذ نهاية أربعينات القرن الماضي حتى بداية تسعيناته قبل انفصالها عنه نهاية ستينياته وبداية سبعيناته، بمليها لدول العالم الثالث وانفتاحها على قضاياه كخيار استراتيجي. فترة عصيبة بقدر ما طبعها من خلافات وتقاطب ايديولوجي بقدر ما تباينت فيه سبل تنافس ونهج تدبير ومعه تزيل أجندات، لعل منها ما ارتبط بآليات مساعدات اختلط نبلها الى حد ما بخلفيات سياسية لتحقيق أهداف كل طرف.
وإذا كان الاتحاد السوفياتي آنذاك قد جعل من دول ذات أنظمة ومرجعية اشتراكية وجهة لمساعداته، وفق ما كان ينشده حول بناء تجمع اقتصادي ضمن دائرة خاصة. نجد بالمقابل الولايات المتحدة الأمريكية التي توجه تركيزها ودعمها ومساندتها لدول كانت بجانبها بشكل أو بآخر فيما خاضته من حرب باردة، السياق الذي لايزال قائما يحكم علاقاتها لحد الآن في اطار ما يضمن هيمنة عسكرية لها. وخلافاً لهذين النموذجين حول آليات تقديم مساعدتهما، اختارت الصين الشعبية سبيلا آخر من خلال مؤازرتها لدول ضعيفة حديثة الاستقلال بكل من القارة الأسيوية وأمريكا الجنوبية وافريقيا، رغم ما كانت عليه من مشاكل اجتماعية ومحدودية موارد.
وكان مؤتمر”باندونغ” لعدم الانحياز عام ألف وتسعمائة وخمسة وخمسين، مناسبة تاريخية لإعلان الصين عن خيارها في الوقوف الى جانب دول العالم الثالث ودعمها عبر مساعدات بعيداً عن أية خلفية سياسية. وعليه، تنزيلاً لورشها الاستراتيجي بافريقيا منذ ستينات القرن الماضي، كلفت حكوماتها المحلية بتقديم مساعدات طبية لبلد معين ومحدد من بلدان القارة. هكذا تم تكليف مقاطعة “هوباي” بمساعدة الجزائر ومقاطعة “شان سي” بمساعدة السودان، ثم مقاطعة “شنغهاي” بمساعدة المغرب الذي حلت بعدد من مدنه بعثات طبية صينية منذ أواسط سبعينات القرن الماضي، خدمة منها لِما هو انساني انسجاماً مع ما طبع علاقة المغرب والصين من تفاعل وصداقة تعود لفترة الخمسينات. وهكذا كانت بداية ورش تعاون طبي صيني مغربي قبل أزيد من أربعة عقود من الزمن، حيث استقبلت بعثات طبية صينية بمدن: المحمدية وسطات والحسيمة ثم شفشاون ومكناس وسطات وبنجرير والراشيدية وأكًادير وآسفي ومراكش وأزيلال وبوعرفة وفكيك وطاطا وتازة فيما بعد.
ولعل ما حصل من تواجد طبي صيني ولا يزال بالمغرب، ارتبط بزيارة قام بها وزير خارجيته آنذاك أحمد العراقي الى بكين ربيع ألف وتسعمائة وخمسة وسبعين، محطة كانت قد تكللت بعقد اتفاقية تعاون اعتبرت الأولى من نوعها بين البلدين، وهي التي امتدت حتى أواسط تسعينات القرن الماضي لتنفتح على أفق تعاون ثنائي ورهان ورش شمل مجالات أخرى فضلاً عما هو طبي انساني. ولعل ما خلفته البعثة الطبية الصينية بالمغرب من انطباع جيد، كان حافزاً للبلدين المغرب والصين على توقيع بروتوكول ثانٍ بالرباط خريف سنة ألف وتسعمائة وتسعة وسبعين لتقوية تعاونهما. وكان ما هو طبي قد شكل واجهة بقدر كبير من الأهمية لتعاون ثنائي، عبر بعثات طبية دأبت دولة الصين على ارسالها بانتظام للمغرب. بناء على ما جمعهما منذ سبعينات القرن الماضي من بروتوكولات تعززت إثر زيارة ملكية رسمية للصين قبل حوالي عقدين من الزمن، حيث تم توسيع مجال التعاون ليشمل الى جانب مجال التطبيب والعلاج والأدوية ما هو تكوين وتأطير وتبادل خبرات بحثية وتقنيات متطورة، تخص الجراحة الدقيقة وأمراض المسالك البولية وجراحة الأعصاب وطب المستعجلات وغيرها، فضلاً عن استراتيجية تكوين في مجالات العلاج باعتماد تقنية الوخز بالإبر وغيرها.
ورش تعاوني طبي بين المغرب والصين توزع ولا يزال على مدن عدة مغربية من خلال بعثات، يسجل أن التي منها بمستشفى ابن باجة بتازة عن حكومة “شنغاي” هي بحضور لأزيد من أربعة عقود، وبمساحة زمنية تعكس روح صداقة وتعاون سمحت بخدمات طبية علاجية صينية لآلاف المرضى عن الوسطين القروي والحضري، فضلاً عما طبع تدخلات أطباء هذه البعثات الى جانب زملاءهم المغاربة، من خبرة ومهنية ومهارات وسلوك وقيم انسانية وتفان في العمل. واذا كانت هذه البعثات التي تتجدد كل سنتين بحكم ما يؤطرها من قانون، هي بانطباع ايجابي لِما يحاط بها من ثقة ويطبعها من تواضع وتفاعل وشعور بمسؤولية. فهي ذاكرة بدور هام في تعزيز علاقات انسانية وتقوية صداقة شعبين، رغم ما يفصل بينهما من مسافة وما هي عليه لغتهما وثقافتهما من اختلاف، كمعطى كثيراً ما يتم استحضاره في كل مناسبة من قِبل مسؤولين مغاربة وصينيين سفراء ودبلوماسيين وغيرهم لجعل التجربة أداة لتقوية ما يجمع البلدان منذ عقود ودفعه لِما هو أفضل.
ويذكر أرشيف التعاون المغربي الصيني، أن المغرب استقبل منذ سبعينات القرن الماضي عشرات الأطقم الطبية بما يقترب ألفي طبيب متطوع أسهموا جميعهم بملايين الفحوصات وآلاف العمليات الجراحية. واذا كانت تجربة الصين الطبية بالمغرب قد أحيطت بعناية معبرة داعمة منذ بدايتها وبالتالي ما يسجل لبعثاتها من عمل جيد، فلا شك أن هذا الورش والرهان بحاجة لمزيد من الدعم والحضن لتجاوز ما يؤثر على ايقاع خدماته لبلوغ المنشود من الأهداف. ولعل ما يمكن الحديث عنه في هذا الاطار فضلاً عما هو بيئي طبيعي يخص ما يسجل من درجة حرارة قياسية خلال فترة الصيف واختلاف نمطي العيش بين “شنغاي” و “تازة”، هناك ما يتعلق بالعمل وأجواءه من صعوبات تخص اللغة مثلاَ. فإذا كان تكوين هؤلاء هو بلغتهم الأصل فإن إتقانهم للإنجليزية لا يسهل تواصلهم مع طاقم طبي وشبه طبي مغربي يتقن الفرنسية، ورغم ما يبدلونه من جهد للحديث بالفرنسية فالمرضى في غالبيتهم لا يتقنون هذه اللغة. واذا تجاوزنا هذا الإشكال التواصلي، نجد ما يطرحه التجهيز الطبي من صعاب من أجل تدخلات تهم حالات مستعجلة واسعافات أولية ضمن طاقة استشفائية مستوعبة.
ويتحدث بروتوكل البلدين الذي يؤطر عمل هذه البعثات الطبية، عن التزام هذه الأخيرة بأداء مهمتها بما يتماشى وبنيات ادارة وأنشطة قطاع الصحة بالمغرب، كذا أداء خدماتها في اطار مندمج بين عمل بمكان قار وآخر ضمن حملات طبية خارجه، مع توفير الصين لمعدات العلاج بواسطة الوخز بالابر، واحترام فريق الصين الطبي لقوانين البلاد وتقاليد وعادات شعبها. بالمقابل يلتزم المغرب بتوفير تجهيزات ومعدات طبية وأدوية كذا نفقات عودة هذه البعثة الى الصين وتنقلها داخل المغرب، فضلاً عن توفير سكنها ولوازم اقامتها كذا مساهمة جزافية شهرية لأعضائها طيلة مدة خدمتها مع سماح بحويل ثلاثين بالمائة منها، هذا الى جانب تحمله ضرائب واعفاء أدوات عمل البعثة واغراضها الشخصية منها، مع استفادتها من أيام عطلة وأخرى سنوية متفق عليها بين الدولتين.
وعن الثقافي بين الشعبين قبل ما حصل من تعاون طبي منذ أزيد من أربعة عقود، نجد السياسيين الصينيين الدبلوماسيين خاصة، لا يترددون في كل مناسبة عن ذكر ما قام به الرحالة المغربي بن بطوطة، من انجاز غير مسبوق وما أورده في نص رحلته التي ترجمت للصينية حول الشعب الصيني الذى يحضى لديه بمكانة خاصة. فضلاً عما تبذله الصين من جهود تواصل عبر توسيع تعليم اللغة العربية، بأنشائها لتسع مؤسسات بالعالم العربي لهذا الغرض واحدة منها بالمغرب، عملاً برأي الفيلسوف الصيني”لوتسو” الذي يقول بكون معرفة الآخرين حكمة. ويسجل حول تعميق العلاقات الثقافية بين الصين والمغرب، أن بداية توجه الطلبة من اجل الدراسة بينهما تعود لنهاية ثمانينات القرن الماضي، فضلاً عن تنظيم أول معرض لخزف الصين بالمغرب في بداية تسعيناته. وفي أفق ورش البلدين رهان فتح مراكز ثقافية كذا مقترح جامعة صينية افريقية بالمغرب لإشاعة ما ينبغي من فكر وثقافة.
وبتازة التي تستضيف بعثة طبية صينية منذ عقود، من احالات الصين الرمزية بها فضلاً عن مستوصف شهير بعمل هذه البعثة، نجد ما يرتبط بزمن الحماية الفرنسية تحديدا فترة الحرب العالمية الثانية، من خلال من كان من ابناء تازة وباديتها ضمن جيش فرنسي بالهند الصينية. مع أهمية ما ترتب اثر ذلك من امتداد ثقافي بل وأسري. علما أن من هؤلاء من استقر هناك ومنهم من عاد بأسرة كونها هناك، وعليه، ثمة شواهد ومشترك ومزي تجدد مع تعاون وبعثات طبية كانت خيطا ناظما لتعميقه واستمراريته منذ عقود. ولعل من زمن تازة ما يحيل على ما هو صيني كتسميات لا غير، بحيث نجد أعلام تازية حملت اسم “الصيني” منها نذكر محمد بن عبد الرحمن الصيني التازي، شيخ وصفته نصوص مصدرية مغربية بسر زمان وآية عرفان عالم محدث صوفي مفسر وفقيه جليل، توفي رحمه الله سنة خمس عشرة ومائة وألف هجرية ودفن بتازة. وهناك ابنه عبد القادر الصيني التازي الفقيه العالم الذي كان بصيت كبير، عاش بتازة وتوفي ودفن بها عام تسعة وأربعين ومائة وألف هجرية.
يبقى تثمينا لِما هناك من تعاون مغربي صيني عبر تجربة البعثات الطبية كالتي تقيم بتازة منذ عدة عقود، أن ما هو كائن يشكل بحق مساحة انسانية وشكلا من أشكال تضامن وتقارب بين شعبين صديقين، تجمعهما ذاكرة تاريخية غنية وإرث رمزي يستحق حضناً أكثر مع تضافر جهود دعم هنا وهناك، من أجل استثمار ما هناك من ماض ورأي وتقارب خدمة لأفق ورش مشترك بين شعبين صديقين ومن ثمة لسلم وسلام عالميين.