تازة: المدرسة المرينية (المشور) بين المجد الغابر والحاضر الملتبس
تازة بريس
عبد الاله بسكًمار
تعد فترة العصر المريني الأول من أكثر فترات تاريخ المغرب عطاء ونشاطا في الميادين العلمية والثقافية والحياة الدينية، وذلك اعتبارا من عصر السلطان أبي يعقوب يوسف بدءا من سنة 685 هـ وحتى بداية الأفول مع نهاية عهد السلطان أبي عنان سنة 760 هــ،، فقد بنى السلاطين المدارس والربط والزوايا وأسسوا الخزانات وازدهرت المجالس العلمية بتشجيع الأمراء والسلاطين وإنفاق هؤلاء على العلماء والفقهاء، إذ تبنت الدولة التوجه المالكي رسميا ووقع التركيز في الفقه على المدونة ورسالة أبي زيد القيرواني.
وظهر تياران للتصوف السني، أحدهما ارتبط بأبي محمد صالح الماجري دفين آسفي والآخر بأبي الحسن الشاذلي، كما عرف التواصل الثقافي بين الغرب والشرق الإسلاميين تألقا ملحوظا، تجلى بالأساس في الرسائل والهدايا المتبادلة بين الدولة المملوكية ودولة بني مرين وفي سفريات الأعلام المغاربة، من متصوفة وفقهاء وقضاة وسفراء وشعراء، الأعلام الذين تنقلوا بين المغرب وتونس والقاهرة والحجاز ومنها البعثة العلمية السلطانية التي حطت بتونس وكانت تضم فيما تناقلته المصادر أربعمائة عالم وسجل من بين أعلامها محمد بن سليمان السطي وأبي العباس الجزنائي، كما بدا التأثير الأندلسي واضحا في الفكر والأدب والتصوف وخاصة في فن العمارة، التي اتخذت طابعها المغربي الخاص وتحت نفس التأثيروبما أن الطرق التجارية والحجية أصبحت سالكة، بعد أن سيطر عليها وأمنها المرينيون، فقد ازدهر فن الرحلات في العهد المريني، ومن ذلك رحلات ابن الخطيب وابن بطوطة وابن خلدون والعبدري والتجيبي السبتي والمقري الجد، وبلغت المراكز الثقافية في المدن خاصة، ثلاثة عشر مركزا، تستوعب مختلف جهات المغرب وعبرالمناطق المرتفعة كمكناس وفاس وتازا وعلى حوض المتوسط ونماذجه باديس وسبتة وطنجة ثم المدن المطلة على المحيط كسلا وآنفا وآزمور وآسفي وفي المراكز الحضرية بالجنوب كمراكش وأغمات. ويأتي بعد قواعد فاس وسبتة ومراكش مدينة تازا، حيث يعلق الفقيه المنوني بأن المواد العربية كانت ناهضة والمعارف الأخرى متدارسة، ومثلها في ذلك مدينة مكناس.
في هذا السياق، نذكر تأسيس أو تجديد المرينيين لعدد من المساجد في بعض المراكز الحضرية، وأهمها فاس تازة ووجدة وتلمسان والمنصورة وطنجة وسلا ومكناس ومراكش وتؤكد وثائق ومصادر الفترة أن كل المنشآت المرينية كانت ذات طابع حضري، وهي المنشآت الدينية التي تختلف عن نظيرتها في العصر الموحدي من حيث الحجم ونوعية البلاطات والصحون والمنمنمات والنقوش وأشكال التزيين والاهتمام بالمحارب، وقد عزز كل تلك المرافق الدينية تأسيس مدارس العلم والفقه المالكي، في كل من فاس كالعطارين والمدرسة البوعنانية والمصباحية أساسا، وفي كل من مكناس وسلا وتازة وأنفا وأزمور وأغمات والقصر الكبير والعباد بتلمسان .
جاء بناء المدارس المرينية الثلاث بتازة، عبر هذه الحركية العلمية والثقافية ولا سيما ضمن التوجه الأيديولوجي الرسمي، الذي كانت الدولة المرينية في حاجة ماسة إليه، بسبب عدم كفاية عنصري القوة والغلبة وفي محاولة لاجتثات اختراقات التشيع والاعتزال ومختلف المشارب والمذاهب، التي عرفها المغرب، أثناء وبعد الفترة الموحدية إن لم نقل قبل ذلك، وإن قضى المرابطون قبل المرينيين على عدد من تلك النحل، ناشرين ما اعتبروه إسلاما سنيا صحيحا، بين قبائل المغرب ومناطقه منذ القرن الخامس الهجري، والأمراء والسلاطين المرينيون نهجوا في ذلك نفس مسلك السلاجقة الأتراك في الشرق وعلى عهد الوزير نظام الملك لدى السلطان ملكشاه السلجوقي، والذي أسس مدارس في كل من بغداد وأصفهان والموصل وبلخ والبصرة وهراة وتكاثرت هذه المدارس في منتصف القرن السابع وبالمناسبة فهو الزمن الذي بدأ فيه السلاطين المرينيون تأسيس المدارس المرينية، حتى بلغت ثمانين بدمشق وأربعين بحلب، على سبيل المثال لا الحصر.
كانت الغاية من تأسيس تلك المدارس مشرقا ومغربا، القضاء على التيارات الشيعية وفي الغرب الإسلامي، محو ما تبقى من عقيدة المهدي بن تومرت وتكوين إطارات الدولة وفتح التعليم وانتظامه، ضمن نسقية معينة، أمام الطلاب من مختلف أرجاء المغرب المريني ومن حيث مشروعية المشروع نفسه، لم يخرج المرينيون في بداية أمرهم عن الخط المرن الذي سطرته الحركة الحفصية، ليتم تسخيرهم ضد الموحدين بعد أن انشقت عنها وحيث بلغت الخلافة الموحدية أوج تمزقها السياسي والمذهبي أواسط القرن السابع الهجري، فاتُّخذت تلك المدارس ضمن نظام تلقيني وتعليمي محدد يقوم على اقتران التعليم بالإيواء، بمعنى أن المؤسسة ذاتها تختزل وظائف التدريس والتلقين، علاوة على إيواء الطلبة من خلال نظام المنحة المخصصة للطالب أو ما كان يسمى بالمُرَتَّب، وإطعامهم طيلة مدة إقامتهم بتلك المدارس والتي تصل إلى سبع سنوات، توازي على وجه التقريب فترتي التعليم الإعدادي والثانوي حاليا، في حين أن حلقات المساجد والجوامع وخاصة جامع القرويين، كانت تمثل عموما التعليم العالي وضمن مسار تلك المعارف المعلومة وقتئذ، فإذا بلغ الطالب عشر سنوات في هذه المدارس ولم يفتح الله عليه شيئا، أخرج منها جبرا على حد تعبير الونشريسي، لأنه يعطل الحبس ولا يختزن بالمدرسة من سكنها إلا على قدر عولته عما جرت به العادة في الأحباس.
ولاشك أن هؤلاء الطلبة كانوا من مدينة تازة وأحوازها دفعهم غالبا حب العلم وضرورة الارتقاء الاجتماعي وعلى الأرجح أيضا، الحصول على تلك المنحة المالية، أي المرتب الذي كان يعينهم في حياتهم خاصة وأن أغلبهم كان من الشرائح الفقيرة، وتَشخَّصَ هدف المدارس المرينية أيضا عبرتكوين الطلبة في الفقه المالكي، وكذا توفير جو علمي لكل من الطلبة والأساتيذ، قصد العمل والإنتاج الفكري والديني، ثم لا ننسى نشر الفكر السني، وإذا كانت المقاربة الأيديولوجية والعقدية، تضع هذا المذهب في خانة محافظة لا غبارعليها، بالقياس إلى المذهب الحنفي مثلا أو المشارب المذهبية ذات الصيغ الشيعية الممزوجة بالفكر الاعتزالي، فإن المؤرخين والمناقبيين وأصحاب الحوليات، يبرزون دور المذهب المالكي ومعه عقد الأشعري وتصوف الجنيد في توحيد المغاربة وتأسيس ودعم كيانهم السياسي عبر العصور التاريخية منذ المرابطين على الأقل.
وبلغ من إجلال البعض لهذه المدارس أنهم اعتبروها من أبرز المنشآت العلمية التعليمية لحد الآن، ولئن كان ملوك بني مرين قد قصروا في حماية الفلسفة باعتبار الطابع الأيديولوجي المحافظ الذي تبنوه وكذلك استنكفوا عن مد اليد إلى علماء الطبيعيات كما فعل الموحدون، فإن المرينيين ناصروا الفنون الجميلة لما اتصف به سلاطينهم من ذوق رفيع، نشأ عن تأثير الفن الأندلسي، وبهذا عُرفت مساجدهم ومدارسهم ومارستاناتهم وزواياهم وربطهم ومختلف منشآتهم العمرانية والثقافية والدينية، ونخص هنا فن العمارة والنقش والزخرفة وهي الفنون التي ازدهرت خلال هذا العصر. وكان أول من أسس المدارس من سلاطين بني مرين، يعقوب بن عبد الحق، أو بالأحرى حاول ذلك التأسيس سنة 675 هـ أي بعد أن اختط البلد الجديد أو فاس الجديد وقد كانت كلها تحت إشراف الدولة، فهي التي تؤمن للطلبة سبل الإقامة وللأساتيذ أقواتهم وأجورهم عن طريق الأوقاف وما ينفقه السلطان خاصة عليها، ومن أبرز مدارس فاس المرينية : مدرسة الحلفاويين التي بناها أبو يوسف يعقوب سنة 670 وقد حبس عليها الكتب المهمة الواردة من الأندلس. ومدرسة العطارين بناها أبو سعيد المريني سنة 723 وأوقف عليها عدة أملاك وضياع. ومدرسة الصهريج بناها أبو سعيد وبها البيلة المجلوبة من المرية بالأندلس. ومدرسة الرخام بناها أبو الحسن المريني ونقل إليها بيلة من المرية سنة 725 وتسمى مصباحية لأن الشيخ مصباح الياصلوتي المتوفى سنة 750 أول من علم بها. والمدرسة العنانية بناها أبو عنان المريني وتعرف بساعة عجيبة مائية من صنع علي بن أحمد التلمساني سنة 758. ومدرسة جامع الأندلس بناها أبو الحسن المريني سنة 721. ومدرسة الوادي أنشأها أبو سعيد المريني عام 723 ولم يتجاوز العدد الإجمالي للمدارس المرينية في المغرب الأقصى 18 مدرسة، إذا ما قارناه بالأعداد الكبيرة في المشرق العربي وانتهى مسلسل بناء المدارس هذا سنة 756هــ أي على مدى ست وثلاثين سنة مع تسجيل فترات انقطاعات محددة، وكان السلطان أبو الحسن أكثر سلاطين بني مرين بناء لتلك المدارس. أما مواد التلقين في المدارس المرينية، فكانت المنطق والقرآن والعلوم الشرعية والعروض وعلوم اللغة ثم الطب والفلك والرياضيات والتاريخ وقد قسم عبد الله كنون تلك العلوم إلى شرعية وأدبية وكونية .
على غرار باقي المدن والحواضر المرينية، عرفت تازة بثلاث مدارس من ذلك النوع وإن كانت الأولى مُتحَقَّقٌ منها وهي المدرسة الحسنية بمشور تازة، أو زنقة سيدي علي الدرار وتسمى أيضا مدرسة سيدي علي الدرار أو مدرسة المشور والثانية شبه متحقق منها وهي المدرسة المرينية خارج الأسوارشرق تازة العتيقة والمواجهة مباشرة مع الهضبة التي توجد عليها تلك الحاضرة، ويقال لها مدرسة أنملي ويجب في الواقع أن نفرق بين مدرسة أنملي هذه وزاوية أنملي التي أشارت إليها معلمة المغرب، ويوجد فندق إفريواطو حاليا في حيزها الواسع نسبيا . وفيما يخص مدرسة أنملي، فيرجح انها مرينية كما قلنا، ويرى البعض ممن أول حديث ج كولان G. Colin عن المدرسة وزاوية أنملي من جهته إلى اعتبارمدرسة أنملي هي نفسها زاوية أنملي التي بناها السلطان أبو عنان المريني، بمحاذاة نفس واد أنملي الذي كان موجودا بين تازة العليا والسفلى الشيء الذي يعد مصادرة على واقع مجالي لم تثبته أية حفريات أو وثائق لحد الآن ومن خلال ما تبقى من رسوم دارسة يبدو أن المدرسة المرينية كانت توجد في حيز أبعد نسبيا عن زاوية أنملي التي يدل إسمها أنها كانت بجانب الواد الذي يحمل إسم أنملي ، مع أنه قد اختفت الكثير من معالمها وما يفترض أنه موضعها هو محل لتربية الخيول حاليا، أما المدرسة الثالثة والتي نعتقد أيضا أنها تعود للعصر المريني فهي مدرسة المسجد الأعظم ويجزم بعضهم أنها من تأسيس السلطان المريني أبي يعقوب يوسف، الشيء غير المثبوت تاريخيا، ونعتقد أنها مجرد عملية إسقاطية على هذا السلطان الذي ينسب له توسعة الجامع الأعظم ووضع الثريا الشهيرة سنة 694 هـ وبناء القصر السلطاني بجانب المسجد الأعظم وهو القصر السلطاني الذي لم يصمد منه شيء يذكر اللهم إلا بقايا إفريز ذي طابع مريني، ويفترض أن يكون السلطان م اسماعيل والسلطان محمد بن عبد الله ( حكم بين 1758 و1790) قد جددا تلك المدرسة المواجهة للمسجد الاعظم ، بشهادة مفرطة في العمومية لمظان ومصادر هذه الفترة من تاريخ المغرب ( القرن الثامن عشر ) ولكنها في الواقع وطبقا لأطلالها الحالية والتي لجأت الجهات المعنية إلى وضع أعمدة لأسوارها، لا تعمد شيئا بل شوهت المشهد تماما، قلت هي في الواقع كانت أقرب إلى مأوى للطلبة، الذين يتابعون دراستهم في حلقات المسجد الأعظم المجاور لها، على يد بعض شيوخ العلم المعروف وقتذاك، أكثر من كونها مدرسة بالمعنى الذي أشرنا إليه، والسبب أبسط من أن نحدده فهي مجاورة للمسجد الأعظم، حيث كانت الحلقات الفقهية والعلمية المعروفة تاريخيا، وفي حقيقة الأمر، لم تورد المصادر المرينية ولا التي جاءت بعدها شيئا عن تأسيس أبي يعقوب هذا لمدرسة مرينية بتازة، لأن العمل المؤكد هو ما أنجزه الأمير أبو الحسن والمتمثل في بناء المدرسة التي نسبها ابن مرزوق إليه أي المدرسة الحسنية أو مدرسة المشور.
المدرسة الحسنية إذن والكائنة غرب حي المشور سيدي علي الدرار، هي التي حافظت عموما على شكلها كمدرسة مرينية لا سيما في الطابق السفلي الموجود لحد الآن، وقد أسسها أبوالحسن أيام كان أميرا وفي عهد والده السلطان أبي سعيد وذلك سنة 724 هــ أي في نفس مرحلة بناء مدرستي العطارين والرخام بفاس، وهو ما يؤكده ابن مرزوق التلمساني، بقوله عن أبي الحسن المريني ” فأنشأ بمدينة تازا – قديما – مدرستها الحسنة أو الحسنية ” وفي هذا المقبوس إشارة إلى أنه أسسها وهو ولي للعهد في زمن أبيه السلطان أبي سعيد عثمان من خلال كلمة” قديما “، ونستشهد على ذلك بلوحة خشبية منقوش عليها بالخط المريني المغربي هاذين البيتين وهما بمثابة وثيقة تاريخية حول المدرسة: لعمرك ما مثلي بمشرق ومغرب …..يفوق المباني حسن منظري الحسن.. بناني لدرس العلم مبتغيا به …..ثوابا من الله الأمير أبو الحسن. ومن المثير أن هذه الأبيات تشبه تماما قصيدة الثريا الشهيرة في أسلوبها وطريقة نظمها فالمدرسة هنا تتحدث عن نفسها مثلما تتحدث ثريا المسجد الأعظم عن نفسهاأيضا : ياناظرا في جمالي حقق النظرا….ومتع الطرف في حسني الذي بهرا.. أنا الثريا التي تازا بي افتخرت….على البلاد فما مثلي الزمان يرى. ومن المثير أيضا أن البيتين الآنفين، يقدمان المدرسة في حلة حسنة جميلة، حتى أن حسنها يفوق باقي المباني شرقا وغربا، وهذه نقطة تستوجب بعض التأمل، لأنه لا شك أن المدرسة في أصل بنائها كانت تتسم ببعض ذلك الحسن والجمال، من حيث النقوش والمنمنمات والأقواس وذلك كسائر مدارس بني مرين، غير أن وضعها الحالي عادي جدا بكل وضوح، بل إن أعمال الترميم والإصلاح، التي شهدتها، ألحقت بها تغييرات أساسية، غطت بعض الشيء على طابعها المريني وخاصة القبة والنوافذ الملحقة وتغييرات أخرى همت قاعة الوضوء وغيرها . ونعود إلى الأبيات الآنفة، إذ يرجح أن نفس الشاعر، الذي نظم قصيدة الثريا هو الذي نظم هذين البيتين المنقوشين في إفريز المدرسة أعلى بوابتها، ويبقى هذا في عداد الاحتمالات المؤسسة تاريخيا وأدبيا، فالفترة التي تفصل وضع الثريا عن بناء المدرسة هي ثلاثون سنة بين 694 هـ و724 هــ وهي بالكاد تستغرق جيلا بشريا واحدا .
المدرسة المرينية بمشور تازة مصممة، حسب حجم الطلاب والحاضرة نفسها إذ هي متوسطة الكبر، إن لم نقل إنها أصغر حجما بكثير من المدارس المماثلة بالمدن الأخرى كفاس ومكناس وسلا، وتبلغ مساحة المدرسة الحسنية بمشور تازة 368 م مربع، لها مدخل أو بوابة على المقاس يعلوها إفريز، على النمط المريني، كتبت أسفله آية قرآنية ثم البيتان الشعريان الآنفا الذكر، أما سكنى الطلبة وحلقتها المشرعة على السماء، فقد أصبحت كلها أثرا بعد عين، تبعا لأعمال الترميم والإصلاح في الأصل والتي لم تأخذ مسارها الصحيح، وفقا للمعايير العمرانية المميزة لكل المدارس المرينية، إذ أقيمت قبة بالنوافذ وتم تسقيف المدرسة على هذا النحوالملتبس، الشيء الذي لم يكن موجودا في الأصل ومنذ العصر المريني، فإننا نجد المدرسة المرينية، محاطة في طابقها الأول، أي الصحن بشبه رواق مع الحجرات وقاعة الصلاة حيث المحراب الموجه نحو القبلة، أما في الطابق العلوي، فكانت توجد غرف الطلبة المصطفة أفقيا وعموديا كما نلحظ ذلك بوضوح في المدرسة الحسنية أي نسبة إلى أبي الحسن المريني الذي يعودله بناؤها، بطالعة سلا والتي تأسست سنة 742 هــ/ 1341 م، وتتوسط كل المدارس المرينية على قاعدة المعمار المغربي الأندلسي نافورة أو صهريج مياه ( خصة ) يتفاوت حجما ورونقا حسب حجم المدرسة.
والواقع أن هذه المدرسة كانت أوسع من حيث المساحة فإن دار القرآن الحالية وقبل أن تكون دار القرآن كانت مدرسة للبنات وأصبحت ملحقة للمدرسة الحرة ثم لثانوية سيدي عزوز، قلت إن دار القرآن، كانت تشكل حديقة خلفية للمدرسة، مع جزء من السور التاريخي المريني، وفيها كان الطلبة يأخذون استراحتهم ويعيدون محو أو كتابة ألواحهم بالصمغ طبعا، ويُجهل تماما تاريخ فصل المجالين بسور ممتد بحيث تقلصت المساحة الأصل للمدرسة المرينية، ثم بنيت حديقتها وفقا للمراحل التي ذكرناها سابقا. لابد من التذكير بحقيقة تاريخية هامة وهي أنه مع تلك المدارس، التي تمثل صروحا حضارية ودينية كبيرة في هذا العصر، فإن المصادر ووثائق الفترة تخبر بتعثرها في تحقيق أهدافها التعليمية وحتى السياسية الايديولوجية، من حلال النقد الذي وجهه الآبلي لها ومعه المقري الجد، باعتباردخول من لاعلم له على الخط وتهافت الطلبة، من أجل المرتبات وهو ما يعكس وجها من وجوه أزمة هذه المدارس الرسمية والهوة التي كانت تفصلها، عن ما يمكن وصفه بالتعليم العالي، الذي كانت تمثله حلقات المساجد وإلى حد ما بدايات الزوايا الصوفية .
واعتبارا من القرن الرابع عشر، انتشرت تلك الزوايا والاتجاهات الصوفية، التي حملت معها تصورات مختلفة حول علاقة الشيخ بالمريد وحلقات الدروس وطبيعة التنشئة، التي يجب أن يكون عليها طالب العلم، وهي الظواهر التي زادت في الاتساع والانتشار بتأثير الشاذلية والجزولية معا وما عرفه مجتمع الغرب الإسلامي من تحولات عميقة، نتجت عن احتلال الشواطئ المغربية واتساع ظواهرالبدع والتفسيرات الخرافية القيامية للتاريخ، ولكن مع ذلك ولتنسيب الأمور ووضعها في سياقها الصحيح، نقول إنه رغم الإقرار بهذه الحقيقة التاريخية، تبقى لتلك المدارس أهمية كبيرة في التراث المغربي على وجه العموم وتراث العصر المريني خصوصا، لأنها تمثل مشهدا حول الازدهار الثقافي والتأنق العمراني والحضاري المستمد من التقاليد المغربية الأندلسية والمشرقية جميعا ومن ثمة، فهي مفصل أساسي للتراث المادي واللامادي اللذين ميزا الحضارة المغربية في العصر الوسيط على وجه العمــوم. اعتبارا من من ثلاثينيات القرن الماضي، شهدت هذه المدرسة الدروس الأخيرة بالفهم التقليدي، وبتماس نسبي مع فكر الحركة الوطنية الوليد، وقد عبرعن هذا الوضع الشيخ المكي الناصري بعبارة ذات دلالة ” إهمال المدارس العلمية وتعطيل الدروس الدينية، ووصفها الشيخ بأنها مدارس علمية مجيدة التاريخ، لها أوقاف خاصة وفيها مساكن عدة لسكنى الوافدين من طلبة العلم، وقد قامت على أساس نشر الثقافة الإسلامية التي هي ثقافة الأمة المغربية ” ويعلق الشيخ الناصري بأن أوضاع هذه المدارس سواء بمراكش أو سلا والرباط أو مكناس تدل على الإهمال المذكور، بحيث تحولت تلك الصروح العلمية إما إلى فنادق أو إدارات أو ملاحق، ولم تسلم مدرسة تازة من نفس الوضع .
في حدود سنة واحد وثلاثين وتسعمائة وألف 1931 حاولت إدارة الأوقاف المخزنية بالأساس، الواقعة آنذاك تحت النفوذ الاستعماري الفرنسي، تحويل المدرسة الحسنية بمشور تازة إلى نظارة للأحباس ومركز للمندوب المخزني، ما أثار احتجاج أعيان وساكنة تازة، وبعد أربع سنوات ” حضر وفد تازي، يحمل عريضة إلى جلالة السلطان، مضمنها المطالبة باسترجاع مدرسة المشورإلى حالتها الأولى وجعلها من جديد مركزا لتدريس العلم وسكنى الطلبة ” علما بأن الأوقاف الخاصة بالطلبة، أصبحت لا تصرف لهم طبقا لشروط المحبسين، وما تسمح به مراقبة الأحباس خصوصا بالنسبة لطلبة فاس، وما ذاك إلا جزءا بسيطا من مدخولات أوقافهم الخاصة ” ويعلق الشيخ المكي على هذا بالقول” لو صرفت على هؤلاء الطلبة تلك الأوقاف كما يجب، لأغنتهم عن الفقر الذي يوجدون عليه الآن وهو يقصد سنة 1935 خمس وثلاثين وتسعمائة وألف، ولشجعتهم على مواصلة الدراسة والبحث العلمي ” .
نستخلص من كل هذا، أن كانت لتلك المدرسة أوقاف خاصة بالطلبة، يقدمها السلاطين بالأساس ثم ذوو الأريحية والمحسنون والذين ظل بعضهم يحبس عليها عدد من الكتب، مثلما يتم الأمر مع المساجد وخاصة المسجد الأعظم ومسجد الأندلس بتازة، وذلك في سبيل استمرارالدراسة بها وتواصل التحصيل الديني والفقهي بالنسبة لهؤلاء الطلبة، رغم ان الإقبال عليها لم يكن في السمتوى المطلوب كا يظن لأول وهلة كما أفاد الونشريسي في معياره والمدرسة المذكورة أكثر بيوتها خالية لم يوجد من يسكنها وهذه الإفادة التاريخية تنسحب – فيما نتصور- على جميع تلك المدارس، لأن الونشريسي لم يذكر مدرسة المشور بتازة تحديدا وقد ذهب بعضهم إلى تفسيرات شتى لهذا الأمر المحير منها احتمال قلة موارد الأحباس المخصصة لتلك المدرسة أوربما التشدد في شروط الالتحاق بها أو حتى الخصاص في الـاطير والتدريس تبعا لكارثة اسطول أبي الحسن المريني في تونس والتي ذهب ضحيتها عدد كبير من العلماء والقضاة والفقهاء ومنهم بعض علماء تازة ، هذا وحصل خلط لبعضهم بين المدرسة الحسنية المرينية بالمشور والمدرسة التي بناها أو أصلحها السلطان العلوي س محمد بن عبد الله بجوار المسجد الأعظم وهي أقرب إلى مرفق إيواء منها إلى مدرسة بالمفهوم الذي شرحناه سابقا ويفهم من إفادة الونشريسي، أن الدراسة في مثل هذه المؤسسات التي كانت تابعة للسلطة المرينية ظلت متقطعة، إلى أن حان حينها مع دخول الاستعمار الأجنبي إلى البلاد ولكن مخططات الفرنسيين، كانت تستهدف تلك المدارس في أدوارها ووظائفها بالأساس، الشيء الذي تصدت له الساكنة وبعض الوطنيين في ذلك الوقت.
إن الوضع القانوني الحالي للمدرسة المرينية بمشور تازة يتسم بالالتباس، ففي الوقت الذي نجد كل المدارس بالمدن العتيقة الأخرى هي ملك عمومي تابع إما للجماعات المنتخبة أو لوزارة الثقافة الوصي الأساس على المآثر التاريخية في البلاد، فإننا نجد الشيء نفسه، لا ينطبق على مدرسة تازة للأسف مما يطرح السؤال كبيرا على كل الجهات المعنية بالرأسمال الرمزي والتاريخي في المغرب .
رئيس مركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث