بين”تلوان” و”أهرار” ذاكرة كماشةِ مكانٍ لم يبق منه غير ثرى خانته أمطار
تازة بريس
سعيد عبد النابي
بهذا المكان بالضبط، حل الزعيم عند الضحى .. في نهار مشمس.. فجال ببصره في كل اتجاه باحثا عن دواوير فتنته أسماؤها، سأل القائد : لم سمي هذا الدوار بأولاد سيدة ؟ والآخر بالفحص، الثعالبة . إنها حقا أسماء غريبة تثير الاهتمام .. والعيون كذلك.. تستحق نفس الاهتمام.. سمعت بعين فوارة ..عين اوداد .. بني صواب.. العنصر.. والميزاب.. انها بالفعل أسماء مثيرة توحي بأن الساكنة، لم يكونوا أمازيغ أقحاح ..كما سطر المؤرخون.. إنما عرب.. أو كانوا أمازيغ .. عشقوا العربية حتى النخاع لدرجة أنستهم لهجتهم الأصلية. لم يحصل منه على الرد المنتظر.. لأنه ببساطة.. لم يكن من أبناء المنطقة .. حل بالجماعة على عجل، بعد فرار من سبقه إلى وجهة مجهولة.. لم يعلمها أحد غيره و الله.. فر من جيش التحرير.. كي لا ينحر كالأضحية، جاء ليخلفه.. لذلك فضل الصمت..
أومأ إلى الشيخ أو ما يسمى حاليا بعون السلطة، الذي فهم من إيماءه أنه يستغيث…هو بدوره لم يرد..حط طائر الصمت على رأسه فأطرق.. لعل الأنظار تتجاوزه.. و تبسم دون أن تفرج شفتاه عن ثغره.. تبسم اعتذار.. لأنه لم يحظ بتمدرس، الزاوية التي كانت بدوار آهل القرية.. حولها القايد أيام الاستعمار الفرنسي إلى “عزيب “.. سمن فيه العجول..كانت العجول عنده أكثر أهمية من الطلبة المتنورين.. لأنها تزين السرادقات بعد المحافل.. أما المدارس فتخرج الفلاسفة والمعارضين .. وطلبة الزوايا لا يجيدون قراءة التاريخ.. يخرجون كأبناء هاجوج وماجوج ..، إما محرضين عدوانيين.. او طفيليين متملقين.. ونحن بعد الاستقلال.. نتمنى أن يدوم السلام على أرضنا.. طويلا…، لنأكل من فاكهة الأشجار التي سنغرسها.. ونرى الحب.. والأب .. والعنب.. والقضب .. والحدائق الغلب .. نرى أحفادنا عليها يتقاتلون .. نحن لا نرضى للرموز إساءة.. نهلك دون التفكير في إسقاط الملك .. لأننا من اوربة .. أمة أنقدت الأمير فجعلته ملكا .. نستبعد عن أذهاننا إثارة أعداء الوطن.. ضدنا…حتى لا تهدم منازلنا فوق رؤوسنا.. علمنا أجدادنا أن نتمسكن .. حتى نتمكن .. وبما أن صناعاتنا لن تمكننا من شيء، فالأسلم لنا أن نبقى متمسكنين.. إلى أن ينفخ في الصور ونتأكد من الصاخة.. والطامة الكبرى.. ويوم الحشر.
ود الزعيم لو اكتشف شيئا جديدا غريبا عجيبا في رحلته التي كلفه بها الملك .. هو كاتب قبل أي شيء ..، كل صفحات الجرائد ترحب بأفكاره.. لو عاد بمواضيع مهمة من هذا المكان، سيضرب العصافير كلها بحجر واحد .. لكنه اكتشف أنه بعث نبيا إلى أميين.. جل الزوايا حولها القايد إلى عزب، والمدارس النظامية تبعد عن القرية بعد النجوم عن الأرض. وهذا النأي..جعل الكل يهتم بالزراعة، على الأقل…العمل في الحقول ينتج الطبال والزمار، وهذه المدارس تضمن للقروي الصغير الحفاظ على مهنة أجداده، الفلاحة ..كما توفر له فرصة الاغتناء من إحياء الحفلات والأعراس.. وهذا كاف لتحقيق التنمية ..ما الفائدة من الأماكن و أسماءها ؟ وما فائدة العلم لقوم لن تسجد لهم الملائكة ..لقد كان تصرفهم حكيما لما هدموا المدارس.. وحولوا الزوايا الى عزب.. وسمنوا كل سنة ألف عجل ..هكذا هاجس الزعيم نفسه .. وهو يفكر في خطابه .
كانت المنصة على مرمى حجر منه والناس من حولها محتشدين، فالزعيم ضيف الملك أولا .. والملك ليس كأي ملك.. والمناسبة كانبلاج صبح..عودة الملك من منفاه ..وعودة الأرض لأهلها. وسعى الزعيم إلى المكان.. ليخطب في الملأ… زين خطابه بالآيات والأحاديث والحكم جعله مؤثرا في القلوب. اهتزت فيه الكلمات كأوتار قيطارة تلوى لاهتزازها العازف المبدع ، وسحر بأنغامها الغريب المستهام، وانجذب إليها العاشق الولهان، كحشرة زغلل ضوء مصباح ساطع في ليل بهيم نظرها، فاختارت الاحتراق طوعا، كلمات انحنى لها واستقام من تأثر بها، يحسبه من يراه على حاله درويشا استغرق في جذبة أوصلته درجة الهذيان. هل كان لتلك الكلمات المنتقاة بعناية ودقة متناهية قوة خفية ضاغطة حررته من أوجاعه الدفينة.. وهو يخطب في جموع أنِقَتْ به أيما أنق ؟ أم كانت لها قوة شافية دملت جروحه التي كانت تنزف من قبل من حدة جشعه ؟ عيون البسطاء ذرفت الدموع الحرى يومها، أحيي فيهم تمسكهم بحريتهم، تفاعلت كيمياء الحياة بدواخلهم فأحدث تفجيرات وتدفقات وانسيابات، جعلت اضعف خلق الله فيهم يبدو كالمستأذب، حين يتحول من الوداعة إلى الشراسة الرهيبة في لمح بصر، تماما كما يحدث في أفلام الرعب الهوليودية وعلم الخيال، لم يكن فيهم من يعلم الغاية من هذا التجييش ولا الغاية من هذا النفخ في الإنسان ليصبح وحشا، ألتحرير الوطن من المغتصب؟ أم لأجل تحرير وطن المغتصب من النازيين؟ سبحان الله.. كيف يُدَوِّرُ الدوائر، بعث هتلر كغاية عظيمة تمت بإيجاز، زعزع العالم وانتحر دون إتمامه عقده السادس .. سنة الله في تاريخ البشر : كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها.. و لكل قتال قتال.
في هذا المكان بالضبط .. كان يقف المقاومون الأشاوس مستكينين، ورغم ظهور الزعيم أمامهم بأصابع رخوة وبشرة بضة ناعمة، وثياب أنيقة بدا فيها كغلام أمراء الخليج، صراخه فيهم ضاهى صراخ لينين أو موسوليني على المنصات النضالية، أو صراخ عنترة وهولاكو في ساحات الوغى، بث الرعب في قلب الخصم، أربد وجهه.. أزبد شدقه .. ارتجفت فرائصه من الغضب، فسد في السامع كل منافذ الشك، بل أقنعهم أن النعومة التي ينعم بها، هي كالخشونة التي ميزت طباعهم لها فعل و دينامية وتأثير، أكد لهم.. أن اللسان يحدث مالا يستطيع السلاح إحداثه، وأن الليونة..لا تقل خطورة عن الصلابة. و أن الله أودع حكمته في كل شيء، وضرب لهم مثلا الحروب الناعمة، فنصحهم بالمرابطة والجهاد والمقاومة، حتى كبرت في أعينهم الثغور والخنادق. أقنعهم إنها تؤدي إلى النصر..أو الشهادة، أما ختم الكتابة.. فكل ما فيه سيئ .. القتل و التنكيل والنفي أو السجن.. هذا ما ينتظر المتعلم.
أفرغ الزعيم كل ما كان في جعبته عند الزوال.. فجلس وسط سرادق شامخ شموخ هرم خوفو العظيم، شدته الأطناب من كل جهة.. حفته أشجار الزيتون المباركة، سبقه إلى فضاءه قتار لحم خرفان مشوية توسطها عجل حنئذ .. و نكهات الشاي المنعنع على طبيعته، وشقشة الطيور على أنواعها، ورقرقة الماء المنساب من تلوان، وغابة الشريف عبر السواقي والجداول إلى واد الدالية الممتد إلى نهر الهرار. في مأدبة اتخذها فرصته لنثر أخبار العالم على مسامع المحدقين به، وتوضيح صور.. عن تصرف الملك والزعماء مع الأجانب الكفار منهم والمؤمنين سواء، حتى تكون لهم فكرة عن العلاقات الدولية المتشعبة..ويقدروا مجهوداتهم في الدبلوماسية. كان الواحد من الساكنة ينتشي بذكر الملك انتشاء صاحبات امرأة العزيز بمقدم النبي الجميل سيدنا يوسف عليه السلام، وإن لم يحظ بلقاء أو قرب من حاشية جلالته من قبل، إنما ما وصله من أخبار عنه سواء بالمغرب أو بالمنفى، كفى عينيه لتريا ما لا يُرَى، وبسمعه كي لا يسمع سوى همساته الآتية إليه من داخله. وعلى كثرة القصص المتداولة وتناقضها..توهج بسويداء القلوب عشق الوطن، قصص من قبيل أن الملك نزلت عليه السكينة في منفاه، فعاش رغم السجن مطمئنا مهابا، ولقد حكى من دخل عليه زنزانته أنه وجده جالسا خاشعا كراهب بودي، رأس غزال مستغرق في النوم على فخده الأيسر، وعلى كثب من فخده الأيمن غضنفر، فاق جميع الغضافر مهابة وجلالا، أو عندما رماه العدو بوابل من الرصاص فلم يخترق جلبابه الطاهر العفيف، ولقد رآه من رآه و هو ينفض تلابيبه نفضا خفيفا، سقطت بعده الخراطيش أرضا بعيدا عن قدميه الشريفتين، وحتى الطائرة التي أقلته، بعث الله فيها الروح .. فأصبحت له كطائر العنقاء للسندباد البحري، تنقاد له بفضل دعواته المستجابة، يختار أي وجهة أرادها فتنساق له دونما حاجة إلى ربان .
في هذا المكان بالضبط .. تهلل قبل الزعيم .. وجه مولاي إدريس الأول و أشباه اوغست مولييراس، الأول، لاستعداد ساكنة المنطقة لنصرة دعوته والآخرون، لاكتشاف غنى المنطقة بفلاحتها ومعادنها، كتاباتهم المستفيضة عنه نفثت في رأس الصليبيين فكرة الاستعمار، فما أبقوا أرضا على هذا الكوكب دون سيطرة و لا شعبا في القارات الخمس دون ظلم وهلاك. في هذا المكان ترعرعت شجرة الزيتون البرية، وامتدت قضبانها و أفنانها في كل اتجاه تظلل مئات الزائرين للمقام، وهي إلى الآن ..لا تزال في الجوزات حية.. تحج إليها البنات العانسات.، عسى أن يكون لهن نصيب من حظ كنزة الأوربية. في هذا المكان.. أعلن الفرنسي نجاحه في عملية الكماشة، واحتفل بإحكام قبضته على المملكة، أعتبرها سهولا منبسطة وساكنة منبطحة وعند وصوله قمم الجبال انكمش. في هذا المكان .. حلقت لأول مرة المناطيد على رؤوس الرعاة.. ذهلوا لِما رأوا، وحاروا في تصنيف هذا الكائن الغريب. وبينما هم يفكرون في كبيرها ويسألون بوعروف الذي أجابهم لعنه الله انها ـ ربي سبحان جا يعبي جلبانو ــ، جاءتهم طائرات حربية بحجم أصغر.. رمتهم بوابل من القذائف ما كانت لهم في حسبان .في هذا المكان ضربت المدافع المساجد..هدت أسقفها على المصلين، هدمت زاويا.. حولت أخرى إلى إسطبلات كي لا يبقى للبسطاء وازع أو دين. هذا المكان .. لما كان العالم طاووسا كان هو ريشة من ذيله العجيب.. الآن بعد قرون من الزمان، انظر إليه هذا المكان لم يبق منه غير ثرى خانته الأمطار، وهاجت الرياح لتدروا غباره عاليا كأنه قرر الصعود إلى السماء ليحاسب الكل، كل من تنكر له .. هذا المكان أرض البرانس.