حول موضع تازة (المضيق) في زمن المغرب البحري قبل مضيق جبل طارق ..
تازة بريس
عبد السلام انويكًة
لا يزال الباحث والقارئ المهتم بزمن المغرب البحري عموما، لا يجد ما هو شاف من مادة علمية تخص سيرورة وموقع معطى البحر في تاريخه، فضلا عن أثره فيما حصل من وقائع وتطورات وما تبلور من مشاهد بيئية هنا وهناك. ولا شك أن علاقة الانسان المغربي بالبحر ممتدة في القدم بدليل بقاياه الشاهدة، وما افرزه من تجويفات نتاج مد وجزر عبر العصور الجيولوجية، ونتاج ايضا تفاعلات كيميائية وتفتتات بفعل التعرية ومن ثمة ما هناك من كهوف بأحجام واشكال متباينة. وإذا كان الانسان المغربي قد استغل هذه التشكيلات بعد تراجع البحر عنها بشواطئ الشمال والغرب، فعلى مستوى وسط البلاد حيث تازة مثلا، نفس الأمر قد يكون حدث لِما هي عليه المنطقة من بنية كهفية كانت بحياة بشرية منذ القدم، من قبيل ما عُرف بالحضارة” الموستيرية” وحضارة “العصر الحجري الأعلى”، اللتان ارتبطتا بحسب الدراسات والحفريات ب”كيفان بلغماري الشهيرة محليا. ولعل الالتفات البحثي العلمي للموضوع من قبل متخصصين، هو بقدر كبير من الأهمية من اجل أجوبة شافية حول ما هناك من حديث عن أثر حياة انسان حجري قديم وعن كهوف ذات علاقة بالمجال البحري.
والى حين ما ينبغي من مواعيد علمية، ومن ثمة من مادة علمية حول البحر والأثر البحري بتازة بيئة ومعها حياة انسان. ارتأينا بعض الضوء حول ما عُرف في زمن المغرب الجيولوجي ب”مضيق جنوب الريف”، الذي يعد موضع تازة الحالي جزء منه ومن امتداده المجالي. ولعل تازة موقعا وموضعا وممرا ترتبط بأعالي وادي ايناون، التي بمرتفعات ذات تدرج في العلو مع هيدرولوجيا جعلت منها قاعدة تجميع للمياه. وأن تازة بمورفولوجيتها تشكل نقطة لقاء بين مقدمة جبال الريف شمالا والأطلس المتوسط جنوباً، وبين أطراف سهوب ملوية شرقاً وأسافل وادي ايناون غرباً. هكذا يظهر موضع المدينة بين مكونات طبيعية ضمن امتداد بيئي متباين، موضع جامع بين مجال شبه جاف حيث ملوية الوسطى شرقاً وآخر رطب غربا بتأثير على عدة مستويات. مع ما يسجل حول خاصية تشكيل المنطقة البنيوي الذي سمح بممرٍ استراتيجي جعله تاريخياً بغير بديل، إن في تجارب من حكم المغرب من كيانات سياسية منذ العصر الوسيط، أو فيما ارتبط بهجرات وتدافعات بشرية وأطماع أجنبية على فترات، من قبيل ما حصل حديثا مع فرنسا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن الماضي.
ولعل تازة الممر والموضع والجبل والامتداد جيولوجيا، تنتمي لمجال نشأ خلال الزمن الجيولوجي الثاني. ذلك الذي اجتاحته بحار وترسبت فوقه طبقات سميكة عملت الحركات التكتونية على رفع بنياته وتشكيل أجراف به وتموجات، سمحت ببروز قاعدة زمن جيولوجي أول بشكل واضح في بعض أطراف جبال الأطلس، كما في مرتفعات تازكا المطلة على المدينة وعلى ضفة وادي ايناون اليسرى من جهة الجنوب. وعليه، بحكم موقعها تنتمي تازة وممرها لبنيتين جيولوجيتين، جزء تابع لكتلة الأطلس المتوسط جنوباً وهو الأهم من حيث ارتفاعه وموارد مياهه وغطائه النباتي. تكوينه الجيولوجي قديم وبنيته بركانية وشيستية نشأت خلال الزمن الأول، مكونةً قاعدةً جيولوجية للمنطقة بصخور تعلوها رواسب من سجيل وكلس تعود في نشأتها للزمن الجيولوجي الثاني، مُحدثة معظم النتوءات الظاهرة (جبال). أما تلال مقدمة جبال الريف شمالا كجزء ثان من بنية ممر تازة، فهي تتكون من رواسب سجيلية تراكمت خلال الزمن الجيولوجي الثالث. وعليه، فبمجال قبيلة البرانس بالمنطقة شمالا كانت ولا تزال مقاطع غنية بمعدن الملح الذي يعد من النوع الجيد مقارنة بجهات أخرى.
ولعل مجال تازة بمثابة وعاء شبه دائري منفتح على ممر بالوسط، تتوزع به إلى جانب وادي ايناون مجار مائية تنحدر من الجبال والتلال، مُشكلة مجالا فاصلا بين حوض ملوية شرقاً وحوض سبو غرباً. وتزيد تركيبة تضاريس المنطقة التي يغلب عليها طابع التقطعات والتدرجات، من صعوبة مسالك الاتصال والعبور خاصة من جهة الجنوب. وعليه، شكل هذا المنخفض (تازة) عبر التاريخ ممراً إستراتيجياً بين شرق البلاد وغربها. ويسجل أن بداية العناية بالمعطى الطبيعي للمغرب تعود لمطلع القرن الماضي، عندما وضع “هنري بارير” خريطة للمغرب بمقياس واحد على مليون، وهي الوثيقة التي انبنت على جهد جغرافي كبير ومعطيات علمية هامة، سمحت بتكوين فكرة حول بنية البلاد التضاريسية عموماً. وكان “لويس جنتيل”، أحد الباحثين الجيولوجيين الفرنسيين الذين دعموا سياسة ما عُرف بالتهدئة عند ليوطي، قد أورد في تقرير له وصفاً دقيقاً للمنخفض الذي يفصل بين جبال الريف والأطلس المتوسط ككتلتين جبليتين يتوسطهما ممر تازة، مشيراً إلى أن المنطقة كانت مجالا بحرياً يصل البحر الأبيض المتوسط بالمحيط الأطلسي، قبل انفتاح مضيق جبل طارق الحالي. وأن هذا الامتداد البحري في الماضي الجيولوجي للمغرب كان يغطي جزءًا من حوض ملوية وتازة وفاس والغرب. وهذا الارتباط البحري هو ما أطلَقَ عليه اسم “مضيق جنوب الريف” (مضيق تازة). وقد أبانت الدراسات العلمية الاستكشافية الأجنبية الجيولوجية حول المغرب خلال السنوات الأولى للحماية الفرنسية، عن علامات طبيعية تخص هذا الاتصال الذي كان قائماً بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي عبر ما يُعرف حالياً بممر تازة، حيث النقطة الأكثر انخفاضاً فيما عُرف في جيولوجيا المغرب بمضيق جنوب الريف (مضيق تازة).
وممر تازة الذي يتوسط مرتفعات وادي ايناون يقطع هذا الأخدود حيث تتراكب مقدمة جبال الريف والأطلس المتوسط، هو بمورفولوجية متباينة ناتجة عن تنوع البنية الصخرية وتوالي الحركات التكتونية، التي أصابت جبال الأطلس المتوسط بخلاف ما حدث في جبال الريف. مع أهمية الإشارة الى أن وادي ايناون كان عنصراً دينامياً هاماً في عملية البناء ورسم أشكال المنطقة منذ عصر البليوسين الأسفل، كما تؤكد ذلك الدراسة المورفولوجية حول ممر تازة، والتي أنجزها بوشتى الفلاح الباحث في جيمورفولوجيا المغرب والأستاذ بالمعهد العلمي بجامعة محمد الخامس بالرباط. وقد اعتبرت الدراسات الأجنبية أن المغرب مجال مكون من جزأين متباينين، الأول يوجد جنوب خط فاصل يمر عبر ممر تازة وكان مرتبطاً بالقارة الإفريقية، وأما الثاني فيوجد شماله وهو سلسلة جبال الريف التي كانت متصلة بشبه جزيرة إيبيريا. هذا بشكل معزول عن إفريقيا عبر مجال بحري Bras de Mer كان يجمع بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي. كما اعتبرت أن حوض استقبال المياه بممر تازة الذي كان امتداداً بحرياً (مضيقاً) قبل مضيق جبل طارق الحالي، هو مجال مغمور برواسب الزمن الجيولوجي الثالث وأنه يتسع كلما اتجهنا غربا مُشَكلا ما يُعرف بسهل الغرب بالمغرب.
ويظهر على بعد حوالي خمسة عشر كلم غرب تازة مرتفع منتظم الامتداد باتجاه جنوب شمال، حيث تلتقي جبال الأطلس المتوسط بمقدمة جبال الريف على شكل حاجز طبيعي يتوسط هذا الممر به خانق عميق نتج عن عملية نحت وحفر بواسطة مياه وادي ايناون. ممر بأجراف شبه قائمة وعمق ما بين أربعمائة وستمائة متر ، شبيه بأجراف أخرى نجدها موزعة على روافد وادي ايناون خاصة تلك المنحدرة من مرتفعات مجاورة لمنطقة تازكة. ويسجل أن مرتفع ما يُعرف بـ”اطواهر” من الناحية الجيولوجية هو بمثابة نقطة التقاء بين تكوينين طبيعيين، الأول يعود للزمن الجيولوجي الثاني”الجوراسي” والثاني يعود للزمن الجيولوجي الثالث، أما الخانق الذي يجري فيه وادي ايناون فيوجد في منطقة شستية. وانطلاقاً من تازة باتجاه الغرب يرتبط هذا الوادي ببنية جيولوجية متباينة، حيث نجد تكوينات صخرية كلسية جوراسية هي جزء من الأطلس المتوسط على ضفته الجنوبية. أما شمالاً فهناك طبقات صلصالية ممتدة تعود للزمن الجيولوجي الثالث هي نتاج عمليات تكتونية تشكلت على إثرها تلال بمسالك وعرة. وإذا كان التكوين الجوراسي ومعه صخور الشيست والكًرانيت هو ما يميز مجال تازة في جزئه الجنوبي، فبشماله تظهر امتدادات صلصالية واسعة. وحول ممر تازة (مضيق تازة) من خلال الاهتمامات والتقارير البحثية الاستعمارية الفرنسية بالمغرب مطلع القرن العشرين، تمت الاشارة لارتباط بين حوضي ملوية وسبو عبر هذا المقطع الطبيعي الذي يتميز بقيمة مجالية واستراتيجية.
ويظهر الزمن الجيولوجي الرابع بمجال تازة، من خلال تكوينات متباينة حسب وضع التضاريس والانحدارات والأساس الجيولوجي وتركيبة الصخور، فضلا عن نوعية الحركات التكتونية وشبكة الهيدرولوجيا. ووَادِي ايناون الذي يُعد قاعدة تجمع الجريان المائي ونقطة التقاء الرواسب من واجهتين متقابلتين يعكس تطور المنطقة الجيولوجي. وعلى هذا المستوى يُعد فج “زحازحا” على بعد حوالي خمسة عشر كلم شرق تازة نقطة عبور أساسية إلى هذا الممر (مضيق تازة)، كما يعد خطاً لتفريق المياه بين حوض ملوية باتجاه الأبيض المتوسط، وحوض سبو عبر ايناون باتجاه المحيط الأطلسي، بحيث يمكن الوقوف على تباين مجالي يجعل من هذه الأعالي (تازة)، امتداداً لتلاق جيولوجي ومناخي بين نقطتين جبليتين من جهة فج زحازحا شرقاً بعلو 547م، ومن جهة ثانية فج اطواهر بعلو 556م غرباً. ولعل ممر تازة (ضمن مضيق تازة في سياقه وبنائه الجيولوجي) الذي يتوسط مرتفعات وادي ايناون، هو بطول حوالي 40 كلم من الشرق إلى الغرب وعرض يصل لحوالي 10 كلم. وعلى مستوى مجاله الجنوبي هناك مرتفعات جبال الأطلس التي تستوطنها قبيلة غياتة، وبشماله توجد منحدرات تلال مقدمة الريف حيث قبيلة البرانس واتسول.
ولعل بسبب العمليات التكتونية تظهر رواسب بتكوينِ حديثِ ناتجة عن تعرية قديمة، بجزء ضيق من هذا المجال الذي كان يُعرف بمضيق جنوب الريف (مضيق تازة) حيث كثرة الرواسب المغطاة بالفرشات المائية. مع أهمية الإشارة إلى أن ممر تازة مجال طبيعي فاصل بين مشهدين إيكولوجيين. الأول ذو خاصية متوسطية من جهة الغرب، والثاني جاف له علاقة بهضاب المغرب العليا شرقاً. وجيولوجياً تعود الرواسب الطينية سابقة الذكر من حيث تكوينها لعصر الميوسين، متى كان يلتقي المحيط الأطلسي بالبحر الأبيض المتوسط على مستوى ممر تازة (المضيق)، الأكثر ارتباطاً بالجزء الغربي من المغرب حيث الرطوبة والانفتاح على المحيط الأطلسي، بدليل اتجاه جريان المياه ثم معدل التساقطات المطرية الهام. ويسجل أن وادي ايناون الذي يجري في هذه البنية، يرسم حول الجبل الذي تحيط به مرتفعات الطواهر منعرجات عميقة تبلغ 50 متراً على امتداد حوالي 5 كلم تقريباً. ومن حيث تحديدها الجغرافي توجد تازة (الممر) بين خط طول أربع درجات فاصلة عشرة، وأربع درجات فاصلة ثلاثين غرب خط كًرينتش، وبين خط عرض أربع وثلاثين درجة وأربع وثلاثين فاصلة خمس عشرة شماله.
وهذا الممر الشهير في المجال المغربي بتازة وضمن هذه المرتفعات التي يتوسطها، يشكل حداً فاصلا بين بنيتين مورفولوجيتين: شمالا هناك مقدمة جبال الريف وجنوباً هناك جبل تازكة، ومعه الأطلس المتوسط الشمالي الشرقي. أما جيولوجياً فيمكن تسجيل ملاحظتين أساسيتين تخصان هذا الممر وفق ما يؤكده الباحثون المتخصصون في هذا المجال. أولا ما يلاحظ حول بنية الطبقات الجيولوجية، تحديداً الجزء المرتبط بجبال الأطلس المتوسط، حيث يظهر غياب جيولوجي بين عصر الجوراسي الأوسط وعصر الميوسين، وثانياً ما يهم مقدمة جبال الريف شمالا كبنية رسوبية تبدأ من الزمن الجيولوجي الأول إلى غاية الثاني. وقد ظلت هذه المرتفعات بأهمية استراتيجية كبرى منذ القدم، بحيث لم يتم اختراقها إلا عبر منخفض ضيق يجري فيه وادي ايناون أين موقع تازة، كوعاء لعدة مجار مائية قادمة من الجبال شمالا وجنوباً وشرقاً، وبقدر قيمة هذه المرتفعات (تازة) من الوجهة الطبيعية والاستراتيجية بقدر ما كانت عبر التاريخ ممراً برياً مثيراً جاذباً لا بديل عنه.
مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث