حول ريادة البحث التاريخي عن تازة – نموذج أبي بكر البوخصيبي..

تازة بريس18 نوفمبر 2022آخر تحديث : الجمعة 18 نوفمبر 2022 - 1:51 مساءً
حول ريادة البحث التاريخي عن تازة – نموذج أبي بكر البوخصيبي..

تازة بريس

عبد الإله بسكًمار *

لا أحد ينكر جهود الباحثين العصاميين الذين لم يحصروا أنفسهم في خانة التخصص العلمي الضيق، أوفي المقابل، انطلقوا من ذلك التخصص نفسه ( التاريخ هنا) لارتياد آفاق متشعبة من البحث والتنقيب والتحقيق والسؤال، إما لتزامن ذلك مع بدايات الجامعة المغربية وندرة التخصصات المعنية وقلة الاطلاع على ما كتب في تاريخ المغرب باللغات الأجنبية ( خاصة الفرنسية ثم الإسبانية والانجليزية )، أو بسبب شروط أخرى كالإكراهات المهنية والاجتماعية والمجالية أحيانا.

 لاشك أن الجميع يثمن أبحاث ومولفات الرواد كعبد الله كنون صاحب النبوغ المغربي وهو أول كتاب أدبي تاريخي حول نبوغ المغاربة في مختلف حقول المعرفة التقليدية  منذ أقدم العصور، الشيء الذي كان يعد في حينه ردا مزدوجا على المشارقة ودهاقنة الاستعمارمعا، الجميع إذن إلا من تنكر وتنطع يعترف بجهود نماذج فذة أمثال الفقيه المنوني وعبد الهادي التازي قيدوم الديبلوماسيين المغاربة وعباس الجراري  ومحمد داود والعباس بن ابراهيم ومحمد سعيد الصديقي ومحمد بن ابراهيم الكتاني ومحمد المختار السوسي وعبد السلام بن سودة  ودون أن نعد جميع الأسماء و العلامات المضيئة في مجال البحث المنفتح على المعارف الإنسانية وفي تاريخ وتراث المغرب، ممن عبدوا الطريق أمام أجيال المؤرخين والباحثين المغاربة، وممن أسسوا قاعدة متينة للبحث التاريخي والتراثي عموما، وبتماس مع المجالات القريبة كتاريخ الأدب المغربي وبعض علاماته ومظاهره المتميزة .

يمكن أيضا  تصنيف أو توزيع تلك الأعمال ضمن مجالات التاريخ المونوغرافي والممتزج أحيانا بتاريخ الذهنيات والرجال ثم التاريخ العلائقي ( الديبلوماسي ) والمدرسة الوضعانية المعتمدة على مركزية الوثيقة  Positiviste، فضلا عن أعمال التحقيق والتي أفادت الباحثين وأمدتهم بمنابع مصدرية غزيرة تخص العصر الوسيط وطلائع العصر الحديث بالمغرب، وطبعا لم تكن أعمال الترجمة من الفرنسية أو اللغات الأجنبية أو حتى عبرالاطلاع على نصوص بتلك اللغات، قد اقتحمت مجالات البحث التاريخي ومن ثمة، أن تتيح التعرف والاطلاع على مجمل الكتابات الأجنبية حول المغرب سواء كانت ذات طابع كولونيالي أو انتفى منها ذلك الطابع مع استثناء أعمال قليلة عُدَّت رائدة  خلال هذه الفترة أي أواسط سبعينيات القرن الماضي على وجه العموم .

هي مواد هامة على مستوى تلك المجالات المذكورة أو فيما يتعلق بمراحل من تاريخ المغرب الشامل بما فيها التاريخ السياسي، وقدحدث أن  اقترب بعضهم من مدرسة الحولياتAnnales  كما تبلورت عند فرناند برودل وقبله لوسيان فيفر ومارك بلوخ، من خلال التعريف بأعمال حول عادات وتقاليد بعض المدن والمناطق المغربية وتاريخ الزوايا، أوتقديم وتحقيق وتحليل  أجناس وعناصر وثائقية مختلفة، ترفد البحث التاريخي كالرحلات والفتاوى والنوازل الفقهية والمعالم الأثرية وتراجم الأعلام والرسائل والظهائر المخزنية وقوائم الحسابات والحولات الحبسية وغيرها وذلك  بانفتاح على بعض نتائج العلوم الاجتماعية، فضلا عن مكتسبات الدراسات التاريخية التقليدية وبارتباط عميق مع هاجس المرحلة والمتمثل في تجاوز مخلفات الإستوغرافيا الاستعمارية أو الكولونيالية ومحاولة كتابة تاريخ المغرب .

صحيح أن بعضهم تخرج من جامعة القرويين وهي مؤسسة كانت ذات طابع تقليدي كما هو معروف، الشيء الذي يطرح الإشكالية المنهجية على مصراعيها لدى هؤلاء وآليات الكتابة التاريخية  الحديثة، لكن أكثرهم زاوج بين الدراسات التقليدية والانفتاح ( بتفاوت طبعا ) على علوم العصركالاجتماع وبعض مبادئ التحقيق وعلم اللغة والطوبونيميا، إن بشكل منهجي واضح أو على نحو عفوي غير مباشر وضمني.

نعد الباحث قيد حياته المرحوم أبا بكر البوخصيبي واحدا من هؤلاء العصاميين، ولن نرجم بالغيب إذا افترضنا أن وجوده بمدينة تازة برسم المهنة هو من أسباب وعوامل كتابته عنها مع ناحيتها، ومن مفارقات مدينة متوسطة عريقة في التاريخ كحاضرة تازة، أن الستار لم يرفع عن بعض من تاريخها المتشعب، إلا في عهد قريب مع هذا الباحث الذي نبغ في وسط علمي مهيب هو وسط عائلة البوخصيبي المسفيوية وبالضبط رفع هذا الستار الكلسي الصلب (  ( !!!!! سنة 1972 من خلال مؤلفه الرائد ” أضواء على ابن يجبش التازي ” الذي نال به جائزة المغرب الثانية للكتاب  برسم نفس السنة، وإلا فقد سَجل الجميع القحط المبين الذي عاشته المدينة والإقليم على مستوى البحث التاريخي والتراثي ولو في أول أولياته، رغم وجود طلبة وأساتيذ لهم علاقة بالتخصص لم يحركوا ساكنا للأسف الشديد، لا بل حتى ما خرج من بحوث الإجازة مثلا بقي بئيسا ورهين الرفوف والرقانة، علما بأن إجازة سنوات 1970 إلى حدود أواسط الثمانينيات من القرن الماضي توازي وربما تفوق مستويات الماستر والدكتوراه حاليا ويبقى الحكم نسبيا بالطبع حتى لا يقع الخلط الكبير في الأوراق .

من هنا أهمية وقيمة الكتاب الرائد ” أضواء على ابن يجبش التازي ” والذي استفاد منه الباحثون في أعمالهم وبينهم من انتمى إلى الجيل الثاني من المؤرخين المغاربة كعبد الرحمان المودن على سبيل المثال لا الحصرفي كتابه ( الأطروحة )” البوادي المغربية قبل الاستعمار- قبائل حوض إيناون والمخزن بين القرن السادس عشر والتاسع عشر” الصادر سنة 1995، وأول وربما أهم ما يعلل ذلك هو ما أشرنا إليه من فراغ رهيب، ومن المؤسف مرة أخرى أن يلجأ الباحثون للاستنجاد بكتاب الأضواء والنهل من مادته التاريخية الثمينة، دون أن يلتفت أحد إلى مقاربة الكتاب نفسه والتعريف بصاحبه باستثناء نتافات قليلة حول البوخصيبي، رغم مضي أزيد من ربع قرن على رحيل صاحبه، فقد توفي أبو بكر البوخصيبي رحمه الله بسطات سنة 1993 .

لعلنا بهذا المقال المتواضع ننصف الراحل أبا بكر وكتابه السباق في نوعه، ليس في مادته المعرفية فحسب، بل أيضا لحضور البعد المنهجي في تناول المادة التاريخية والتراثية، ربما بشكل عفوي أو نتيجة احتكاك الرجل بقامات سامقة كالفقيه المنوني وعبد الله كنون وعبد السلام بن سودة، فرغم أن الكتاب صدر في مسودته الأولى بشكل مبكرنسبيا  أي سنة 1972، فإنه اخترق الزمن فعلا، بسبب الهم الإشكالي المحدد في مقدمتي عبد الله كنون وصاحب الكتاب علاوة على عمق التناول وقتذاك، وتدقيق الإحالات المختلفة، وإخراج كتاب ابن يجبش المعني من العدم، والمقصود ” كتاب الجهاد ” الذي ألفه هذا العلم التازي المتصوف في خضم المحنة العامة التي عاشها المغاربة جراء احتلال الشواطئ المغربية من طرف الاستعمار الإيبري بدءا بسبتة سنة 1415 مرورابالعديد من المرافئ والمدن الشاطئية وذكر الناصري في هذا الغرض “ولما نزل بأهل المغرب الأقصى ما نزل من غلبة عدو الدين واستيلائه على ثغور المسلمين ، تباروا في جهاده وقتاله وأعملوا الخيل والرجل في مقارعته ونزاله ….” وأضاف ” فمن ألف في ذلك الباب وأفاد : الشيخ المتفنن البارع الصوفي أبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم بن يجبش التازي ” .

المعروف أن الأستاذ الباحث قيد حياته أبا بكر البوخصيبي ولد سنة 1928 بمدينة آسفي حاضرة قبائل احمر وإحدى أقدم المدن المغربية، وترعرع هناك وسط عائلة من العلماء والصلحاء، واقتضت حياته الإدارية وقتذاك أن يعين مدرسا ثم  انتظم في إطار الإشراف التربوي بمدينة تازة اعتبارا من فاتح أكتوبر 1966 إلى غاية متم شتنبر 1973، ولم يقتصر فيما يبدو خلال هذه المرحلة على عمله الوظيفي بل تفرغ للبحث والتنقيب والنشاط العلمي فكانت باكورة إنتاجه الكتاب الفذ الذي بين أيدينا ” الأضواء ” واعتبره صاحبه بداية لمشاريع أخرى تخص مدينة وإقليم تازة (الرجالات على وجه أخص) ثم مدنا وأقاليم أخرى كآسفي وسطات والصويرة وأغمات وتوات وفاس من خلال كناشة الشيخ احمد زروق .

صدر هذا المرجع الهام حول تاريخ وتراث تازة عن دار الثقافة بالدار البيضاء وبتقديم عطر للأستاذ الفقيه الأديب العلامة عبد كنون الحسني رحمه الله، والمثير فيه أن صاحبه لم يقف على ما يُنعت عادة من فقر وقلة اهتمام بتاريخ المغرب وإنما أصل الداء حسب ذات التقديم هو الكسل والتقاعس والتواكل، ويورد كنون أن أحدهم من مزدوجي الثقافة أتعبه منذ أربعين سنة بموضوع متكرر هو تاريخ المغرب وضرورة كتابته ” فكنت أقول في نفسي ( الكلام لعبد الله كنون ) ولماذا لايبدأ هو فينقل على الأقل، بعض كتب الأجانب التي يعرفها إلى العربية ويسهم بذلك في كتابة تاريخ المغرب ؟”وبالطبع، يستثني كنون من هذا الكسل ثلة من الباحثين المكدين المجتهدين ومنهم أبو بكر البوخصيبي الذي وصفه ب” الباحث المـــــتمكن ” .

العلامة ع كنون سجل كل هذا في شتنبر 1974 وطبعا جاءت الدراسات والبحوث التاريخية الغنية والمتشعبة بعد ذلك أي في فترة عطاء وزخم الجامعة المغربية ومعها المنابر الثقافية والمنتديات العلمية والمحطات الإشعاعية الأدبية والفكرية والمطارحات المفاهيمية وأيضا الايديولوجية، فرَبْطُ حديث كنون بسياقه التاريخي ومعه كتاب الأضواء مسالة ضرورية حتى لا نحمل الأشياء ما لا تحتمل أو نسلط الظلم على فترات وعطاءات شهد لها التاريخ والناس .

يتألف كتاب “أضواء على ابن يجبش…” من 183مائة وثلاث وثمانين صفحة ومن حيث محاوره فتشمل تقديما لعبد الله كنون ومدخلا لصاحب الكتاب  ثم توطئة تليها عناوين وفصول متفاوتة الحجم ومن حيث تناول الموضوع وهو أساسا المتصوف المجاهد أبو عبد الله بن عبد الرحيم بن يجبش التازي ( ت سنة 920 هــ/ 1514 م)، غيرأن اهتمام البوخصيبي أو حدود بحثه  بدت أبعد من ذلك كما أوضحه في مدخله، إذ وجد نفسه يواجه الأسئلة المتشعبة لتاريخ وأعلام تازة، لا سيما وأنه انطلق من فترة بياض شامل، أي أنه لم يجد أمامه الطريق معبدة، ونقصد هنا البحوث والدراسات والأطاريح، بل اعتمد فيما يبدو على رصيده الوثائقي الذي توفر له تبعا للارتباطات التي عُرفت عن الرجل، وتمكنه من الحصول على عدد لا بأس به من الوثائق والتقييدات والكناشات وبعض المخطوطات مما عزز رصيده البيبليوغرافي.

 بغض النظرعن ما أثيرحول طرق وأساليب التفرد بتلك الثوائق والتقييدات والظهائر، كتلك التي أمده بها العلامة ادريس بن الاشهب أوالأخرى التي عثر عليها في خزانة الجامع الأعظم وعن طريق القيم آنذاك ج احمد الخصاصي رحمه الله، لا بل أقر المؤلف نفسه أنه اعتمد على مواد توثيقية عثر عليها بخزانة الجامع الأعظم بتازة وذلك في سياق التداول حول إسم ابن يجَّبْش ( بتشديد الجيم المفتوحة وتسكين الباء والشين على النطق المغربي ) بسبب ما أثيرمن أخذ ورد ، هل هو بن الجَبْش( الكاف المغربية بثلاث نقاط) كما تنطقه عامة ساكنة تازة أو ابن يحْبش كما ذهب إلى ذلك الحضيكي ( بالحاء المخففة ) في مناقبه على سبيل المثال يقول صاحب الكتاب ص 31 ” إذ بهذه الصورة (أي إسم ابن يجبش كما قدمناه ) وجدتها في تقييد بخزانة الجامع الأعظم بتازا لصاحبه اجمد بن علي، الذي وإن كان بدون كنية ولا نسب فإنه شديد التحري فيما يكتب “كما يؤكد نفس الحقيقة أي استفادة البوخصيبي من مخطوطات وتقييدات وظهائر سلطانية بخزانة الجامع الأعظم بتازة حين يقول في معرض تصحيح تسمية ابن يجبش أيضا ” …ودع عنك المحدثين والمعاصرين من الكتاب، في حين أن ما حققه المؤلف مستندا إلى وثائق خطية من بلد المترجَم فيها ظهائر ملوكية وغيرها هو أنه ابن يجبش بشين مشددة مفتوحة …” ص 5 من المؤلف .

ذكرنا أن الكتاب يتوزع إلى عدة مفاصل – حتى لا نسميها فصولا- متفاوتة الحجم ونوعية المادة المختارة أيضا ضمن محوره العام، وعدد تلك المفاصل ستة عشرغير التقديم والمدخل والتوطئة، والواقع أن الكتاب برمته يعد مادة معرفية مؤسِّسة فعلا ونظرا وواقعا، ليس فقط قياسا للفراغ الرهيب الذي جاء ليملأه إلى حد ما ولكن أيضا، لأنه صمد مع الزمن وأصبح من أبرز المراجع حول تاريخ وتراث تازة، وهذا لا يعدم بالطبع وجود بعض الهنات في المصادروالبيبليوغرافيا  أو التوثيق وتوطـــــــين الأعلام التازية .

ثمة إشكالية أساس حاول البوخصيبي احتواءها عن طريق فرز التقاطعات والتشعبات بين تاريخ وتراث تازة من جهة ورجالاتها من جهة ثانية والتركيز على ابن يجبش من جهة ثالثة، ومن هنا نعتقد أنه أخذ بالحُسنيَيْن، فمحور الكتاب هو أضواء على ابن يجبش التازي، لكن المقام يفرض تقديم ولو بشكل موجز لمحات ومحطات من تاريخ تازة منذ أقدم العصوروحتى حقبة ابن يجبش ( العصر الوطاسي)، ثم الإشارة إلى بعض رجالاتها الذين تمكن الباحث من التعرف على سيرهم أو بعض المعلومات والنتافات حولهم ، وبهذا وضع صاحب الكتاب مؤلَّفه في إطار معرفي ومنهجي مناسب قياسا لتواضع مرحلة السبعينات من القرن الماضي في عطائها المونوغرافي تحديدا والبئيس جدا على مستوى المنطقة ذات التاريخ الغني المتشعب .  

من أبرز محاور الكتاب ” تازا بين عهدين ” ويقصد البوخصيبي العهد المريني الذي عرفت تازة خلاله ازدهارا وتألقا سياسيا وعلميا وحضاريا بوجه عام، والعهد الثاني هو الذي شهد تدهورا شاملا للبلاد نتيجة ما أصابها من ضعف سياسي وانهيار اقتصادي واجتماعي ولا سيما عندما غزا الإيبيريون الشواطئ المغربية وهي ذات الفترة التي برز فيها إسم الشيخ أبو عبد الله بن يجبش التازي، وذلك مقابل الاستقرار النسبي لتازة وناحيتها، وفي الغالب ودون أن نصادر على المطلوب، فإن الباحث العصامي قيد حياته أبا بكر البوخصيبي قد عن له بوضوح أنه لا يمكن الإحاطة بحياة وآثار المتصوف المجاهد ابن يجَّبش دون أن يتعرض ولو اختصارا لبلده تازة، المدينة وناحيتها، تلك المنطقة التي وإن كانت معلومة عند بعض الكتاب والباحثين المعروفين ( ممر تازة أساسا) فإنها ظلت عموما في عداد المناطق المغمورة بحثا وتنقيبا وتأليفا للأسف الشديد شأنها في ذلك شأن كثير من مناطق البلاد خلال هذه الفترة ( زمن تأليف الكتاب) بسبب تقاعس أبنائها أولا وثانيا تبعا للأضواء المشعة جدا والتي انحصرت في المدن الكبرى والعواصم المخزنية Villes Impériales  ولم يبدأ الاهتمام بالمدن التاريخية المتوسطة والصغيرة إلا في عهد قريب .

في فصل “ابن يجبش كما عرفته ” يتعرض البوخصيبي لسيرة هذا الصوفي المنسوب بإجماع مؤرخي المناقب إلى تازة، وقبيلة التسول تحديدا ومنها انتقل إلى المدينة، ولكن كان بعض حفدته يعيد أصله إلى عين حوت بنواحي تلمسان ومن هناك يفترضون قدوم سلفه إلى التسول ومن ثمة إلى تازة ويذكر شيوخه عمه وجده ( دفين روضة علي بن بري بتازة ) فهو ينتمي إذن إلى بيت علم وولاية، معقبا فيما يخص مراسلاته مع الشيخ السنوسي ومعاصرته لإبراهيم التازي دفين وهران بالجزائر، أما تقاطعات العلوم المعروفة وقتئذ أي زمن ابن يجبش فنحن نعلم أنها كانت ذات طابع موسوعي ( من كل فن طرف ) ويغلب عليها الطابع الديني، وإن كان البوخصيبي يرى أن المهيمن  في شخصية وعطاء ابن يجبش هو جانب التصوف والشعر وشيء من الانفتاح على الفقه، ثم الطابع الفردي البحت لعلمي النحو والعروض، أي أنهما نفعاه في شعره وليس في قيمة كتابه سواء في التصوف أو الجهاد، مع التذكير بالتوتر المستمر الذي طبع البعد الثقافي والديني في المغرب ليس فقط بين المتصوفين والفقهاء بل أيضا بين الفقهاء والشعراء !!!

يعود الباحث بعد ذلك إلى الحديث عن رجالات تازة في فصل ” نهضة وأسبابها ” معرجا على ثلاثة عشر علما من فقهائها وقضاتها ومتصوفيها، معللا أسباب تلك النهضة التي تحدث عنها في الفصل السابق وارتبطت أساسا بالعصر المريني، بعدة أسباب وعوامل أهمها اقترانها بمفهوم الرباط – دور ممر تازة عبر التاريخ أي البعد الجغرافي – نشاط ثلاث دول في المنطقة : الأدارسة – بنو مرين والعلويون – تفاعلها مع مدينة فاس العاصمة العلمية والسياسية في كثير من فترات تاريخ المغرب وأخيرا دور المسجد الأعظم ( الجامع الكبير) في احتضان العلماء والفقهاء والمتصوفة ورجال الدولة، وهذا الأخير يفرد له البوخصيبي حيزا وافرا من الفصل إياه ومما يعرفه الخاص والعام حول الثريا الشهيرة والخزانة العلمية وبعض النفائس الأخرى التي ضاعت للأسف فيما ضاع من تحف كالأسطرلاب ونضيف لها الساعة الشمسية وهي واحدة من أربع ساعات وقد كانت في صدر الصحن المريني واختفت دون الساعات الأخرى في ظروف غامضة ونحن نحمل المسؤولية للجهات المعنية أي إدارة الأوقاف بتازة.

ومن تفاصيل الكتاب حديث البوخصيبي عن ابن يجبش الصوفي والشاعر والناثر مستحضرا تائيته الشهيرة في الحظ على الجهاد والكتاب هو تجاوزا كراسة من الحجم الصغير وكذا كراسته الأخرى وعنوانها ” إرشاد المسافر إلى الربح الوافر ” وكنا ننتظر من الباحثين داخل وخارج تازة أن ينتبهوا لهذا المخطوط ويحققوه لأنه وثيقة حول السفر ( الرحلة الحجية ) وهي تشبه فيما يبدو قصيدة / وثيقة العامري التلمساني ( عاش خلال أوائل القرن الثامن عشر ) في وصف مراحل الرحلة من تازة إلى المشرق، لكن تحقيق هذه الكراسة الموجودة بالجامع الأعظم لم يتم لحد الآن  .

هناك إشارة تاريخية هامة حول قلة ما كتب عن الفترة الوطاسية بالمغرب والتي يكتنفها كثير من الغموض باستثناء ما أورده المؤلف في عنوان مخطوط “عروس المسائل فيما لبني وطاس من المسائل ” وهولأبي عبد الله محمد الكراسي فضلا عن نتافات لا تسمن ولا تغني من جوع، وهنا ألح البوخصيبي على معلومات تاريخية وردت في منظومة الجهاد كتأدية المغاربة لضرائب الاحتلال لصالح البرتغال ووصول هؤلاء إلى أبواب مراكش نفسها، فضلا عن انتشار الجاسوسية لصالح البرتغال وهناك القيمة الأدبية لهذه المنظومة ثم ما حملته من قيم وطنية تلخص الدفاع عن الوطن والدين وضرورة تحرير الثغور أو حمايتها  .

وبعد أن يحلل البوخصيبي بعض الموازنات في موضوع الجهاد من أجل تحرير الوطن، مقارنة مع عدد من كتبوا في الموضوع أو بنوا دعوتهم عليه كالمرابطين والموحدين وكلسان الدين بن الخطيب وغيرهم، وبعض المجاهدين المعاصرين لابن  يجبش، يقدم نص كتاب الجهاد أو بالأحرى كراسته دون أن يوضح ما إذا كان الأمر يتعلق بتحقيق مخطوط، وهذا له – كما هو معروف – شروطه ومحدداته العلمية والمنهجية، بل قدمه حافيا إذا جاز التعبير ولكن التقديم في ذاته يؤكد قيمة الكتاب باعتباره تأليفا ( وليس تحقيقا ) حول تازة ورجالاتها وبعض فترات تاريخها مع التركيز على  الشيخ ابن يجبش، ولو نص في العنوان أن موضوع  الكتاب هو ” تحقيق لمخطوط الجهاد لابن يجبش التازي ” لوقع في مأزق كبير، والحال أنه تناول أضواء على ابن يجبش وهو أعم وأشمل من كتاب الجهاد، ولكن العنوان بدوره لا يشمل كل موضوع الكتاب وهذه نقطة إيجابية تحسب له، ثم نلتقي في الأخيربتقريظين حول الكتاب الأول لعبد الله كنون والثاني لادريس بن الاشهب، وأخيرا بعض ظهائر التوقير التي حظيت بها الزاوية اليجبشية بتازة كظهير السلطان م اسماعيل  وم سليمان وم عبد الرحمان بن هشام و الفقيه الزرهوني المنتحل لمولاي امحمد الإبن الأكبر للحسن الأول.

بقيت إشارة ضرورية في فقرة لسان الدين ابن الخطيب حول تازة الواردة كما هومعروف في كتابه ” معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار ” ويبدو أنه ألفه بعد رحلته للمغرب عند لجوئه إليه  سنة  760 هــ الصحيح كما ورد الكتاب إياه  ص 82″ تازا بلد امتناع ، وكشف قناع ومحل ريع وإيناع…ألخ ” فهو بلد امتناع وليس بلد مشاع كما هو وارد عند المؤلف .

وعلى العموم رغم ضيق بيبليوغرافية البوخصيبي في كتابه أي المادة المصدرية التي لم تتعد عشرين( 20 مصدرا) من مجموع المصادر والمراجع وعددها 36 تمتد من  التعريف بابن خلدون ومصنفات الحضيكي وابن فرحون وابن عسكر الشفشاوني إلى مراجع من هنا وهناك ، ك ” الاستقصاء” للناصري و”التراتيب الإدارية”لعبد الحي الكتاني و” دليل مؤرخ المغرب الأقصى” لعبد السلام بن سودة  و”قصة الأدب في العالم” لأحمد أمين والزاوية الدلائية لمحمد حجي وغيرها فضلا عن مصنفات قديمة ما زالت- كما نعتقد – في عداد المخطوطات كمناسك الحج للبويعقوبي الملوي وكناشة الشيخ احمد زروق، أما همزية العامري التلمساني في السفر، فقد سبق أن أخرجها الفقيه المنوني كما حقق د عباس الجيراري كتاب المحاضرات لليوسي، وبالطبع كان هذا هو مستطاع  صاحب كتاب الأضواء في تلك الفترة من بواكير البحث العلمي سواء منه الأكاديمي أو الموجه لعموم الباحثين والمهتمين، وحقيقة الأمر أنه جهد مشهود مشكور وفي غياب المراجع الأجنبية ( الفرنسية خاصة ) والتي تعرف بتازة وبعض من تاريخها ككتاب” تازة وغياثة ” للقبطان فوانوVOINOT وكراسة ” تازة إطلالة أركيولوجية وتاريخية ” و” مسجد تازة الأعظم ” لهنري تيراس H. Terrasseوما كتبه هــ باسي  Basset وغيرهم  وأخيرا فحسب البوخصيبي أجر الاجتهاد والريادة في التأليف  رحمه الله وجزاه عنا أفضل الجزاء .

* رئيس مركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث

 

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق