تازة بريس
عبد السلام انويكًة
شاهد على العصر، هو رصيد الشعوب والجماعات والبوادي والمدن الثقافي التراثي المادي واللامادي. وهو جسر وصل ايضا بين ماض وحاضر، لدرجة يعد في بعض تجلياته سياجا يبقي هذه المكونات حية حاضرة في المسار الانساني بعيدا عن كل نسيان وذوبان. ولعل تراث مدن المغرب الثقافي الذي بجوانب عدة متداخلة، هو بحاجة لمزيد عناية ودراسة من أجل استكشاف جواهره وكنوزه الدفينة، تنويرا وإبرازا أهم وأوسع لذاكرة لا تزال قائمة هنا وهناك من المكان. ويسجل أنه رغم ما تراكم من احاطة وتأطير ذو طبيعة تراثية يخص مدن المغرب العتيقة، تبقى هذه الأخيرة مجالا خصبا لبلورة مساهمات رافعة ضمن عمل فردي وجماعي ومؤسساتي، علما أن ما هناك من شواهد تراث بهذه المدن يقتضي أثر الجميع كل من موقعه كتخصصات واهتمامات، لبلوغ ما هو شاف من مسح وأمكنة وأزمنة وتنوع وتحولات وتركيب تاريخي فضلا عن توثيق. مع أهمية الإشارة الى أن توجيه العناية لتراث مدن المغرب التاريخي عموما، ليس أمرا سهلا لِما ينبغي من اطلاع وقراءة ومقارنة وتدقيق وتأسيس، اعتمادا على نصوص مصدرية وأرشيف من اجل معلومة علمية تخص ما هناك من مشاهد وبصمات تعمير إنساني وعمارة.
وتازة التي من مدن المغرب التاريخي والتي تسكن جبلا وممرا منذ العصر الوسيط، لا تزال شرفتها ومجالها ومعالمها الترابية التراثية المادية تحديدا، تشهد على ماض وأدوار وخاصية مستقر. مدينة بقدر ما هي عليه عمارتها التاريخية من دهشة لأول وهلة وسؤال وشغف تعرف عن اصالة ضاربة في القدم، بقدر ما تتوزع على ما هو دفاعي وديني روحي وعلمي وآخر سياسي..، حيث أسوار محيطة وابراج ودور عبادة وأضرحة علماء، فضلا عن أبواب بمثابة مداخل هوية وأزمنة وحضارة. أبواب بمواقع وتسميات لا يزال بعضها بحاجة لفك دلالاتها، عبر تعقب المصادر وما شهدته المدينة تاريخيا من وقائع على مستوى مركزها وجوارها، من اجل استنطاق علمي وسياق وتركيب وحقيقة نسبية. ويسجل حول أبواب تازة كونها جزء من ذاكرتها المعلنة، ذات الصلة بما أحيط بها من أسوار استهدفت تعميق مناعتها وتحصينها وتأمين ربوة مستقرها منذ القرن السادس الهجري. أبواب بقدر ما هي عليه من ذاكرة بقدر ما يطالها من سؤال حول مواقعها الأصلية، وما قد يكون اندثر منها ويخص شكلها على مر الحقب وتجارب من حكم المغرب من الدول. بل أيضا ما قد يكون طال هذه الأبواب من تغيير واتلاف وإعادة بناء، في علاقة بتوسع مجال المدينة الحضري وحاجتها لجوارها من جبل وممر. ومن ثمة ما قد يكون حصل من تغير مواقع ودلالات أمكنة متأثرة بأحداث تاريخية وضغط تعمير ومرافق جديدة وغيرها.
إن أبواب تازة على أهمية ما احيطت به من عناية بحث ودراسة بعد استقلال البلاد، هي من جملة معالم المدينة التراثية الثقافية المادية التي يلاحقها سؤال المعلومة التاريخية التعميرية والطوبونيمية. التي بندرة مصدرية اللهم ما يخص إشارة يتيمة تهم “باب الشريعة” زمن العصر الوسيط وفترة حكم بني مرين، ما يظهر أن كل حديث عن هذه الأبواب وما كانت عليه من بداية تشييد وأول شكل معلمة وموقع، فضلا عن سبل تدبير علاقة بين داخل ومحيط وطبيعة وظائف، محفوف بعدم دقة ومغامرة حديث وأن سواد هذه الذاكرة المادية الأعظم لا يزال في حكم المجهول. مع أهمية الإشارة الى أن أبواب تازة التاريخية بصورتها ومشهدها الحالي لا شك أنها كانت بأدوار أمنية تحصينية، علما اننا لا نجد في المصادر الوسيطية ما يشفي حول شكلها وهندستها، من حيث ما كانت عليه مثلا من افريز وسمك جدار وأقواس ومدخل وانعطاف في مداخلها، فضلا عن علو واتساع وطبيعة زخرفة من عدمها وكذا مواد بناء ودفاف واتجاهات. وأنه اذا كانت بعض أبواب المدينة بنوع من الإحالة البيئية التي تخص اصل تسميتها من قبيل باب الريح وباب القبور وباب الزيتونة..، فبعظها الآخر يلفه غموض حول اصل تسميته ودلالته التاريخية من قبيل باب الجمعة وباب طيطي (باب الخميس)، علما أن باب الجمعة وما هناك من حديث حول وجود باب فوقي وآخر تحتي، يصعب الاطمئنان اليه ضمن وضعه الحالي وفق ما ورد من معلومة وتقرير وخريطة اركيولوجية عن زمن الحماية. ذلك أن البابان الفوقي والتحتي ربما كانا في مكان واحد متقارب كان يفصل بين سور أول وآخر ثان ضمن سور مريني مزدوج على مستوى الجزء الشرقي للمدينة، ذلك الذي كان يمتد من الحصن السعدي مرورا بالقصبة حتى باب الجمعة الحالي، وهو ما يتبين من خلال صورة بقدر كبير من الأهمية عن الأرشيف الفرنسي، تظهر وجود بابان متقاربان بمعالم واضحة كانت بمثابة مداخل للمدينة من جهة الشرق، وهو ما يزيد من جدل سؤال حول حقيقة وجود باب حالي يحمل اسم “باب الجمعة التحتي” على مسافة اسفل المكان السابق الذكر. والذي نعتقد أنه حتى لو كان هناك باب بهذا الاسم في هذه الاسافل من تازة العليا، كان سيحمل اسما آخر في علاقة بمحيطه البيئي غير باب الجمعة التحتي، من قبيل باب أنملي مثلا بحكم قربه من واد انملي الذي كان يؤثث المجال بتدفق مياهه ومنظره وقنطرته، أو مثلا باب الجنان بحكم ما كان يملأ هذه الاسافل من بساتين وسواقي واشجار مثمرة عدة من قبيل الزفزوف غير بعيد عن ضريح “سيدي عيسى”، أو مثلا باب الشرق أو الشرقي كما حال باب الغربي بمدينة وجدة المنفتح من جهة الغرب على طريق تازة، أو مثلا باب وجدة بحكم الاتجاه من تازة مثلما نجد في مدينة سلا (باب فاس، باب سبتة).
هكذا هي أبواب تازة على وقع أسئلة معلقة، جزءا لا يتجزء من تاريخ المدينة وذاكرتها التي قد تكون تمتد حتى زمن نواتها مرورا بما طبعها من تعمير خلال العصر الوسيط، وقد جمع بين ما هو ديني ودفاعي وعلمي وسياسي بحسب طبيعة أحوال زمن المغرب وأحداثه وتجارب كياناته السياسية. علما أن اهم ما يسجل حول أبواب تازة عموما، كونها ساهمت في حفظ هوية المدينة وما كانت عليه من أدوار وعمارة بلغت أوجها زمن حكم دولة بني مرين، التي كانت فيها تازة بدور عاصمة البلاد في بداية أمر هذه الدولة السياسي. وأن العمارة المرينية بتازة تبقى الأهم والأبرز بدليل ما هناك من تحف تؤرخ لزمنها الذهبي، مشكلة أهم مفاخرها حتى الآن من قبيل الجامع الأعظم السلطاني وثرياه الشهيرة، التي زاد تفردها من عظمة ورمزية المكان التراثية. ثم القصر السلطاني / دار الامارة بجوار الجامع، ثم المدرسة المرينية، ثم المارستان، ثم زاوية أنملي، فضلا عن خزانة علمية وغيرها من أثر المرينيين.
يبقى أن ما طبع تازة من تعمير وعمارة وأبواب وغيرها، لا شك أنه جاء ضمن سياق مجالي ترابي منتظم بدأ من جهة الشمال باتجاه الجنوب، وأن ما حصل من استقرار وهندسة منشآت كانت وفق عناصر طبيعية موجهة، جامعة بين خصوصية موقع وجبل وريح وأجراف وغيرها. بعض فقط من حديث ذو شجون حول ذاكرة المدينة وتاريخها الذي لا يمكن فهمه سوى عبر أزمنتها وأمكنتها وعمارتها التي منها أبوابها وأسوارها، التي لا شك أنها كانت في أدوراها بنفس هيبة مآذن المدينة ومناراتها، منسجمة مع مقولة شهيرة من تراث المغرب الوسيط الموحدي”سيوفنا أسوارنا”. وكان ابن خلدون قد أشار حول أبواب واسوار مدن المغرب، لِما وفرته من شعور بأمن وأمان لسكانها ووقف لكل خطر كان يهددها، من خلال ما كانت عليه من نظام مراقبة عبر أبوابها التي كانت تغلق ليلا وتفتح نهارا تحت عيون بوابين مسلحين.
مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث