مثيرة هويتها للسؤال، فضلا عن خصوصية وشروط نشأة ونواة اصل وكذا دلالات تسميات وطبيعة مواقع وعمران شاهد على ما شيده السلف منذ القدم. تلك هي مدن المغرب العتيقة عموما لِِما هي عليه من أصالة وتراث مادي ورمزي وبصمات حضارة مغربية عريقة وامتداد في الزمن. ولعل بقدر ما توزعت مدن المغرب العتيقة هذه على جميع جهاته، بقدر ما منها من ارتبط بسواحل ومسالك تجارة صحراء ومواقع جبلية فاصلة ووممرات، كما بالنسبة لتازة الربوة والصخرة والجبل والأجراف معا، تلك التي تحفظ إرثا بمعالم دالة على عظمة مكان وهوية وتفاعل انسان، نظراً لِما أحيطت به هذه الحاضرة التاريخية الشامخة المغربية من عناية سلطانية منذ العصر الوسيط، وما احتضنته من مرافق روحية وعلمية وسياسية ودفاعية جمعت بين دار إمارة ومدارس وإقامة طلبة وزوايا ودور عبادة، منها جامع المدينة الأعظم الذي يعود بناءه للقرن السادس الهجري، باعتباره واحداً من أجمل تحف عمارة المغرب التاريخية. معلمة عرفت ووردت في مصادر عدة باسم الجامع لِما احتواه من أثاث وما كان له من أدوار عدة، فضلاً عما حضي به من عناية سلطانية ورعاية ملوك بني مرين خاصة والذين جعلوا تازة عاصمة أول أمرهم بالبلاد.
حول نشأة تازة وتطور نواتها الأصل في امتدادها منذ القدم، جدير بالاشارة الى أنه بقدر ما هناك من اشارات في مصادر تاريخية، بقدر ما يتبين فيها وعبرها من غموض شديد يخص ما طبع بداية نشأتها، والى جانب ما هناك من اشارات حول كون تازة كانت قبلة لحملات المولى ادريس الأول في بداية أمره السياسي كما هو غير خاف عن باحث مهتم، بقدر ما نواة ونشأة تازة هذه ربما تعود لفترة سابقة عما هو متداول هنا وهناك من دراسات وبين هذا وذاك، فابن خلدون مثلاً يشير لكيانات استوطنت المنطقة على مستوى بلاد جرسيف حتى ممر تازة، من بني العافية وقبيلة مكناسة التي قد تكون اختطت تازة خلال القرن الثالث الهجري. وعليه، قد تكون نواة تازة أحدثت قبل أن تتعرض لتخريب ما وقبل اعادة بناءها من جديد وانتقالها من وضع رباط الى وضع مدينة زمن الموحدين. وهو ما أشرنا اليه وتساءلنا حوله منذ سنوات وبتفصيل في مؤلفنا “تازة صفحات من تاريخ مدينة” الذي صدر لنا قبل عدة سنوات، لتبقى الكلمة الفصل في هذا الإطار لِما يمكن أن تسهم به الدراسات الاركيولوجية من أجل تدقيق معطيات ذات علاقة وردت بمصادر تاريخية.
وإذا كان اسم تازة قد ورد بصيغ عدة جمعت بين تيزا وتازا وتازى وتازة منذ القرن الرابع الهجري، عبر ما جاء عند مؤرخين عرب ومغاربة منهم المقديسي في أحسن التقاسيم وابن حوقل في صورة الأرض والبكرى في المسالك ثم ابن خلدون في العبر .. وغيره، فبلوغ أصل التسمية ومصدرها والحديث التاريخي عن الإشكال ليس أمراً سهلاً، ذلك أن للمسألة علاقة بدراسات أماكنية وتدقيق طوبونيمي، علما أن تسميات المدن ومنها تازة أمر شبيه بما هو أثر أيضا قد يكون فَقَد كثيراً من دلالاته الأولى، بل اسم تازة قد يكون تجمد بدوره مع الزمن ولم يبق منه سوى بقايا لشيء ربما تفكك منذ قرون، ومن هنا صعوبة معرفة أصل الاسم وما طبعه من تغيرات. وعوض الحديث عن تزي باعتباره أصل تسمية اشتقت منه تازة قد يكون العكس أي كون اسم تيزي هو الذي اشتق من تازة. ولعل من فعل الطبيعة وعواملها ومشاهدها ما قد يكون مصدر اسم تازة، فغير خاف ونحن ابناء المنطقة أن مجالها غني بصخر الكلس وهو الذي يعرف محليا ب”تافزة”، وهو اسم ضارب في القدم وحاضر في الذاكرة الشعبية لصخر تصنع منه مادة الجير قد يكون أصل تسمية تازة.
وقد يكون لإسم المدينة علاقة بصوت تحدثه رياح قوية عند التقاءها بأجراف مقابلة وفتحات كهفية مغلقة، ما هو غير مستبعد مع ما ورد عند لسان الدين ابن الخطيب لما زار تازة ورتب حولها صورة ومواصفات ومن ثمة مقولة، مشيراً الى أن المدينة هي بمكان ممتنع مرتبط بجبل وأن ريح هذا المكان عاصف وبرده لا يصفه واصف، خصوصية لا تزال قائمة من خلال باب تاريخي شهير بها يعرف بباب الريح من جهة الغرب، من شدة ما يكون عليه هذا الجزء من المدينة من قوة ريح محدث لصوت بصدى قوي خاصة خلال فصل الشتاء يصعب المرور عبره والوقوف فيه، وقد يكون مكان نشأة تازة وهو عبارة عن صخرة واسعة محاطة بأجراف عميقة، هو أصل التسمية لِما قد يكون هناك من علاقة بتعبير يعني الصخرة باللغة الأمازيغية. وأمام ما هناك من تعدد قراءات لأصل تسمية المدينة، وهو ما تعرضنا له بتفصيل في مؤلفنا السابق الذكر، من الدلالات التي يمكن أن يميل اليها المهتم تلك التي تعني الفج، خاصة وأن تازة توجد على مستوى ممر فاصل في علاقته بجبال الأطلس المتوسط جنوبا ثم تلال مقدمة الريف شمالا.
وأما حول تازة وتسمية مدينة النحاس فهذه اشارة لم ترد في أي مصدر تاريخي لا عربي ولا مغربي، والحديث عن معدن النحاس وتازة بل وغيرها من المدن الأخرى التي نعتت بهذا الوصف، هو درب من خيال واساطير وخرافة ممتدة في الزمن، كما أن منطقة تازة ليست بمعدن للنحاس من الناحية الطبيعية وهذا أمر واضح، ولو كان لخضع للاستغلال خلال فترة الاستعمار الفرنسي للمغرب. وقد يكون ما حصل حول (مدينة النحاس) مجرد لبس تعبير وإسم وتدوين ورد في تقارير استعمارية أعدها رحالة ومستكشفون أجانب أواخر القرن التاسع عشر، معتمدين في محتوى تقاريرهم على كل شيء يتم التقاطه من الأهالي فقط من أجل تلبية هاجس جمعهم للمعلومة بما في ذلك رواية الأهالي حول عدد من القضايا. وعليه، قد يكون ما ورد مكتوبا باللغة الفرنسية لدى بعض الرحالة الأجانب الاستخباراتيين، يعني مدينة النعاس وليس النحاس بحيث كتبوا الكلمة وفق ما سمعوه ربما من رواية محلية، علما أن تازة كانت محطة توقف واستراحة للزوار والعابرين من تجار قوافل بين شرق البلاد وغربها، فكانوا يقيمون فيها لبعض الوقت مع أهمية الاشارة هنا لما كان بتازة من فنادق بأثر لا يزال شاهدا لحد الآن، ومن حمامات ورحبات بيع وشراء وحرف تقليدية بخدمات لقوافل التجارة وغيرها.
كل هذه الأشياء وغيرها من اشارات، حول مجال تازة الترابي ومشاهدها الطبيعية البنائية ومياهها المتدفقة في علاقتها بنشاط الأهالي البشري وتفاعلاتهم، وحول معالم المدينة الأثرية في امتدادها المجالي وتنوع مستويات أدوارها ومظاهر وهندسة بناءها من جوامع ومدارس وأبواب وأبراج ساحات ودروب، وحصون دفاعية كما بالنسبة لحصن المدينة السعدي الشهير ب”البستيون”. كل هذه المساحات التاريخية والحضارية التي طبعت تازة عبر الزمن، عملنا على اثارتها ومناقشتها في عدد من المناسبات والمقالات والأنشطة العلمية والاعلامية هنا وهناك داخل البلاد وخارجها، ومن هذه المواعد حلقة كان قد نظمها مركز باريس العالمي للدراسات والأبحاث حول تازة قبل يضع سنوات.
فعن جامع تازة الأعظم التاريخي الموحدي المريني الذي كان محور هذه الحلقة، أشرنا الى أن دولة الموحدين التي حكمت المغرب حتى منتصف القرن السابع الهجري كانت بتقدم عمراني جعلها بمنزلة حضارية. عِلماً أن ما هو زخرفة في بداية حكم عبد المومن بن علي الكًومي الموحدي كان بحرج فكري، جعل البناء في عهده خالياً من كل زخرفة سيراً على نهج المؤسس ابن تومرت في الزهد. لكن ما أن فتح عبد المومن بن علي بلاد الأندلس حتى بدأ ينهل من حضارتها وعمارتها وبدائع زخارفها، لكي لا يوصف بتخلف عما بات تحت نفوذه من أقاليم جديدة. وعليه، كان أول عمل له في التشييد بعد فتح تازة هو بناءه لجامعها الأعظم وبنفس التخطيط الذي طبع جامع تنمل. وكان بناء جامع تازة قد بدأ عند تأسيس عبد المومن بن علي للمدينة 529ه، مشتملا في بنيته الأولى على بيت صلاة من ثلاث بلاطات وأربعة أساكيب. مع أسكوب محراب بثلاث قباب وبصحن الجامع مجنبتان متصلتان ببلاطين شرقي وغربي، مع أهمية الاشارة الى أن صومعة الجامع وضعت في ركنه الشمالي، وأن ما أضيف في زمن حكم بني مرين من زيادة أمر واضح بالنظر لما هناك من أثر موحدي. وحتى يكون الجامع ظاهراً من جميع الجهات تم تشييده في موضع هو نواة المدينة (أشرقيين)، موقع مرتفع يطل من خلاله على ممر شهير يصل شرق البلاد بغربها.
وتؤكد ميزة اتساع صحن جامع تنمل شكل صحن جامع تازة الموحدي، الذي ورث شكله عن مساجد دولة المرابطين بفاس التي يعتبر مسجد قرطبة نموذجها الأول. وجامع تازة الذي شكل انتقالا بين عمارة الموحدين وعمارة المرينيين يعود لأواخر القرن السابع الهجري 691 ه زمن أبي يعقوب يوسف الذي كان وراء زيادة فيه، حيث أصبح يشتمل على سبعة بلاطات وثمانية أساكيب مع أسطوانة محراب مريني جديد تميز بأروع قبة اسلامية. وكان للوح تأسيسي عبارة عن نقش يخص ما أضافه بنو مرين من زيادة، فضل في فك غموض تحديد معالم الجامع الموحدي وحدوده مع أسماء وتواريخ مساعدة. وقد جاء هذا النقش بخط مغربي من خمسة عشرة سطراً، يحتوي كل واحد منها على سبع كلمات وبه أخطاء إملائية كالتالي :”أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد، أما بعد أمر أمير المسلمين وناصر الدين أبي يعقوب ابن أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين، أبي يوسف أسماه الله وخلده ببنا الزيادة التي زيدة(كذا) في هذا الجامع شرفه الله، وذلك أربعة بلاطاة(كذا) في قبلته وبلاطان شرقي وغربي(مع) الصحن الذي وابتديء في مفتتح ربيع الأول من العام المنصرم(..)، وكان الفراغ منه أواخر شوال إحدى وتسعين وستمائة”.
وحول جوامع المغرب خلال فترة المرينيين بالمغرب ليست هناك معطيات شافية تاريخية حول سبل الإنارة بها، والإشارات الوحيدة تلك التي تهم فاس وسبتة وتازة وتهم ما يتعلق بثريات واستعمال زيت الانارة. وكان صاحب روض القرطاس قد أورد معطيات بقيمة هامة حول ثريا تازة، مشيراً لتاريخ صناعتها 693 ه بعد انتهاء يوسف بن يعقوب المريني من توسيع جامعها. اضافة لكلفتها ووزنها وعدد كؤوسها. قائلا:”وسنة ثلاث وتسعين وستمئة فرغ من بناء جامع تازة، وعملت الثريا وزنها إثنتان وثلاثون قنطاراً من النحاس وعدد كؤوسها خمس مئة كأس وأربعة عشر كأساً، وأنفق في بناء الجامع وعمل الثريا.. ثمانية آلاف دينار ذهباً.” يذكر أن ثريا جامع تازة مكونة في قسمها الرئيسي من شكل مخروطي مصنوع من البرونز، بشعاع مترين وخمسة وأربعين سنتمتر وبعلو متر واحد وأربعين سنتمتر.
ثريا جامع تازة التي تم الحديث عنها في حلقة مركز باريس العالمي للدراسات والأبحاث هذه، اضافة لِما تتميز به في المغرب والغرب الاسلامي والعالم الاسلامي، ما يزيد من تفردها كون جزئها الأسفل يحتوي قصيدة شعر منقوشة عليه، بمعاني بالغة التعبير والوصف لشاعر مجهول الى حين، قصيدة شهيرة عند أهل تازة لارتباطهم وجدانياً بهذه التحفة التي زين بها جامع مدينتهم، اعترفاً بفضلها وفضل وأهلها زمن نشأة دولة بني مرين في أول أمرهم السياسي. ولعل من الاشارات الهامة التي تحتويها هذه القصيدة، تاريخ تعليقها 694 ه بخلاف ما هناك من لبس تعبيري فيما جاء عند ابن أبي زرع، وهو ما يطرح سؤال تأخير ونقل وتعليق هذه التحفة الفنية في جامع تازة. وكان الوزير الاسحاقي عند زيارته لتازة ضمن رحلة حجية شهيرة له، قد أورد أن من جملة ما رآه وأثار انتباهه في تازة ثرياها العجيبة التي يضرب بها المثل، مشيراً الى أنها لا مثيل لها كعنقود عظيم مرصع بمراكز قناديل متماسكة في الهواء من خلال سلسلة نحاسية.
وإذا كانت ثريا تازة تشكل عملاً ابداعاً ونبوغاً حرفياً، فإن أصولها تنحدر من نموذج موحدي هو ثريا جامع القرويين التي أنجزت بداية القرن الثالث عشر الميلادي بأمر من السلطان محمد الناصر، وتتكون الثريتين التي بتازة وفاس من قاعدة سفلى بطبقات محاطة بجسم دائري كان مخصصاً لحمل قناديل يسرج بها الزيت. ويبقى أن ترثا تازة هذه التحفة المرينية المتفردة التي تسكن جامع المدينة الأعظم منذ نهاية القرن السابع الهجري، باستثناء ما ورد عنها من اشارات محدودة في نص ابن أبي زرع الأصيل، وما ورد عنها أواسط القرن الماضي في مؤلف ”هنري تيراس” الذي خصصه لتاريخ هذا الجامع، ولعله دراسة بمحاور جاءت بمعطيات على درجة من القيمة العلمية حول ما هو حضاري يخص هذه المعلمة، لِما احتوته من تحليل ومقارنة وأشكال قياس وتصاميم وأبعاد هندسية.
يبقى الذي يسجل باستثناء هذه الاشارات مع احاطات ارتبطت بدراسات فرنسيين تعود لفترة الحماية، غياب أبحاث دقيقة تاريخية واركيولوجية حديثة العهد توجهت بعنايتها لهذه المعلمة الأثرية، من أجل مزيد من التنوير والمعرفة والتحليل…صوب جوانب عدة منها، تلك التي لا تزال بأسئلة عالقة في حاجة لأجوبة علمية مؤسَّسَة. ناهيك عن كون ثريا تازة المتفردة التي يزخر بها تاريخ وتراث المدينة، لا تزال دون اشعاع بأثر في التنمية المحلية عبر سبل ادماج وتدبير ترابي، من شأنه تحريك وانعاش ومن ثمة تثمين وانقاذ مجال المدينة العتيق وتسويق أثاثه الترابي.