تازة بريس
صدر عن منشورات باب الحكمة للأستاذ حسن الزكري ترجمة كتاب“قصة حياتي لـ”إميلي كين، المعروفة بشريفة مدينة وزان. ويحكي الكتاب الصادر بدعم من وزارة الثقافة، عن قصة إميلي كين هذه التي ولدت في إنجلترا سنة 1849، وقدمت الى طنجة في سنة 1872، حيث اشتغلت مدبرة منزل (مربية اطفال) لدى المليونير الأمريكي الشهير ذي الأصل اليوناني إيون برديكاريس. وفي سنة 1873 تعرفت على شريف مدينة وزان الأكبر”الحاج عبد السلام بن العربي الوزاني” الذي عرض عليها الزواج، إلا أنها ترددت في البداية قبل أن تقبل آخر الأمر لما تأكدت من حقيقة مشاعرها نحوه. وبعد الزواج انتقلت إميلي الانجليزية للعيش في منزل الشريف الوزاني بوزان الذي كان زاوية في نفس الوقت، واكتشفت هناك نمطا مغايرا من الحياة لذلك الذي ألفته من قبل، ووقفت على حجم التبجيل الذي يحظى به الشريف الوزاني بين أبناء دينه، وعلى المكانة التي يحتلها في قلوب الناس داخل المغرب وخارجه.
وقد توفيت “إميلي كين” الأنجليزية زوجة الشريف الوزاني في منزلها بحي مرشان بطنجة سنة 1941، بعد أن قضت قرابة السبعين عاما في المغرب تمكنت خلالها من العيش على أعتاب ثقافتين وهويتين مختلفتين، كانت تكن لهما نفس القدر من الإجلال والاحترام. وكتاب “قصة حياتي” تروي فيه إميلي كين الانجليزية سيرة حياتها في المغرب وبين المغاربة منذ اليوم الذي تزوجت فيه شريف وزان، لذلك يمكن عدها بهذا الاعتبار نوعا من السيرة الذاتية. ومن جانب آخر يمكن إدراج هذه السيرة حسب التقديم ضمن أدب الرحلات، لأن الكاتبة “اميلي كين” تصف فيها أقطارا مرت بها فضلا عما جرى لها من أحداث وما صادفته من وقائع خلال رحلاتها المتعددة في مختلف المدن والمناطق، والكتاب متوفر بعدد من المكتبات بتطوان وطنجة وشفشاون والحسيمة والناظور والدار البيضاء وأكادير والرباط ووجدة والرشيدية والجديدة.
يذكر أن الانجليزية اللندنية”إميلي كين” تزوجت بزعيم أحد أكبر الزوايا في مغرب النصف الثاني من القرن 19 م، ففي إحدى السهرات وقعت إميلي هذه الحسناء تحت أعين شيخ الزاوية الوزانية الحاج عبد السلام بن العربي الوزاني كبير الزواية الوزانية فطلبها للزواج. ولعله االزواج الأول من نوعه في تاريخ الزوايا وشيوخ الزوايا بالمغرب، وهو ما أغضب السلطان محمد بن عبد الرحمان وأثار حنق وغضب وردود فعل ووجهات نظر وقراءات علماء فاس والقرويين، وقد تسبب ذلك في أن أكسبت هذه الواقعة صاحبها (الشريف الوزاني) عداء واسعا دفعه للارتماء في أحضان الحماية الأوربية حيث اصبح شخصا محميا من طرف سلطة وقوة اجنبية. تقول “املي كين” الانجليزية اللندنية هذه، انها تعودت على لقاء زعيم أحد أكبر الزوايا في مغرب هذه الفترة إما قادما من المدينة (طنجة) أو عائد إلى الجبل (حي الجبل الكبير) (طنجة)، حيث كانت تقطن مع أصدقائها. وأنها مع مرور الوقت عرفت أنه شريف وزان الكبير وأن هذا لم يعن بالنسبة اليها شيئا كبيرا. مضيفة انها تعرفت عليه أكثر في السهرات الموسيقية التي يحضرها. علما ان شريف وزان هذا حل بطنجة بعد مغادرة مهد الزاوية (وزان) وبعدما طلق زوجاته المغربيات عاقدا العزم على الاقتران بـ”رومية” ولم تكن ميولاته الأوربية تخفى على أحد.
وكانت “املي كين” قد رفضت عرض الزواج متحججة بدواعي دينية، وأن المعارضة كانت قوية جدا من جهة عائلتها . الا الذي حصل قد حصل حيث تم توقيع زواج أمام عدلين مسلمين قبل أن يوثق مرة أخرى في المفوضية البريطانية تحت أعين جون دراموند هاي سفير بريطانيا في المغرب. وفي عقد الزواج هذا كانت هناك شروط فرضت إميلي منها: تعهدُ الشريف الوزاني وشيخ الزاوية بعدم الزواج عليها، ثم حقها في الاحتفاظ بديانتها وكذا الاستقرار في مدينة ساحلية وولوج أبنائها إلى التعليم والاستفادة من حماية دولتها ودفنها في بلدها انجلترا بعد الوفاة.
لم يكن زواج مغربي بأجنبية وامرأة غير مسلمة أمرا عاديا في مغرب النصف الأخير من القرن التاسع عشر، ناهيك أن يصدر هذا عن شيخ زاوية كبيرة هي الزاوية الوزانية(دار الضمانة). وقد أبدى السلطان محمد بن عبد الرحمان معارضة شديدة للزواج، وقاد علماء فاس والقرويين من على منابرهم حملة قوية ضد شيخ الزاوية الوزانية الذي لم يملك سوى الاحتماء رفقة زوجته بالمفوضية الفرنسية. وفي طنجة، بعث النائب السلطاني محمد بركاش إلى السفير البريطاني جون دراموند هاي رسالة ينبهه فيها بأن إميلي كين أصبحت منذئذ مغربية ويتوجب عليها الخضوع للقانون المغربي: “(..) بلغنا أن الشريف سيدي الحاج عبد السلام بن سيدي الحاج العربي الوزاني، تزوج بامرأة نصرانية إنجليزية، وتعين علينا إعلامك بأن المرأة المذكورة صارت الآن مراكشية (أي مغربية) بسبب تزويجها للشريف المراكشي، ولا يمكن الحكم عليها وعلى مطالبها إلا بحكم شريعة المسلمين. كما لا يخفاك أن كل أرض تتمشى على قوانين شرعها، وأعلمناك لتكون على بصيرة (…)”.
بعد الزواج بحسب ما أوردته بعض الدراسات هنا وهناك، انتقلت “إميلي” للعيش في منزل الشريف الوزاني في دار الضمانة الذي لم يكن غير زواية. هناك اكتشفت واقعا جديدا وصفته بدقة في كتابها: “منزل الشريف نفسه زاوية، يرتادها حشد كبير من الناس للبحث عن العون في حل مشاكلهم العديدة. الباحثون عن مأوى وذوو الشكايات يمكن لهم أن يقيموا هناك لمدد تقصر أو تطول، قد لا تتعدى ساعات معدودة وقد تصل إلى أشهر، حسب الوقت اللازم للانتهاء من قضيتهم. في الزاوية، تجد الأم التي تتضرع من أجل ابنها المرمي في السجن، أو المرأة من أجل زوجها، يمكن أن تصادف أشخاصا جاؤوا للمطالبة باسترجاع حقهم في ظلم تعرضوا له من فرد من العائلة، وآخرين سجنوا بدون حق من قبل أعوان السلطة. هناك تصادف المشتكي، والمرأة المتشردة، والمريض، والمرأة العاقر. كلهم جاؤوا من أجل راحة تمنحها البركات”. كي لا يبقى هذا العالم الجديد كتابا مغلقا في وجهها، وجدت إميلي أن الحل يكمن أولا في تعلم العربية. “في غضون أشهر قليلة”، تقول شريفة وزان، “استطعت أن أميز بعض الكلمات، ثم بعض الجمل مع نهاية السنة… اليوم أتكلم بطلاقة لهجة أهل طنجة، لكن صفاء لكنتي لا يبعث على الرضا، ويثير ضحكات أحفادي الصغار”. في المقابل، لم يفت إميلي أن تدخل لمستها الأوربية على الجناح الذي تحتله في البيت/الزاوية، كما حرصت على تربية ابنيها مولاي علي الوزاني ومولاي أحمد الوزاني، الذين ازدادا على التوالي سنتي 1874 و1876 على الطريقة الأوربية، فقد كان الصغيران يتكلمان الفرنسية والإنجليزية حتى قبل أن يكمل أكبرهما عامه الثامن.
عاشت إميلي كين حياة مع زوجها الشريف عبد السلام الوزاني مدة 11 سنة، قبل أن تنقلب الأمور رأسا على عقب منذ صيف سنة 1884. حيث ألقت شريفة وزان هذه الانجليزية بالمسؤولية على أوربي من جنسية فرنسية، تسبب في تأليب مشاعر الحاج عبد السلام ضدها كما حاول رفقة أوربيين آخرين الاستيلاء على أمواله بطرق ملتوية. بالتزامن مع ذلك، فوجئت شريفة وزان هذه بتغيير جذري في عقل زوجها. حيث كان الشريف الوزاني هذا يعتقد أنه مهدد بالاغتيال في أية لحظة من قبل السلطان المولى الحسن، ولم تنجح الحماية الفرنسية التي يتمتع بها من تخفيف وطأة الفوبيا التي أصابته، دون أن تستبعد فرضية تسميمه، تؤكد إميلي أن “القدرات العقيلة للشريف لم تعد كما كانت سابقا، لقد أصبح مهووسا بفكرة واحدة: الخوف من اغتياله”، لم يعد كبير شرفاء وزان ينام إلا وخنجر مغروز تحت وسادته ومسدسان محشوان فوق طاولة السرير.
مع مرور الوقت، تصاعد الخلاف بين الشريف عبد السلام الوزاني و”إميلي” الانجليزية إلى درجة القطيعة، دون أن يصل الأمر إلى طلاق رسمي. رغم ذلك لم تتخل السيدة البريطانية عنه بل قادته سنة 1890 في جولة ضمت عددا من المدن الأوربية أملا في شفائه. في ليفورنو بإيطاليا، رفض حتى النزول من الباخرة، بعدما وصل إلى علمه وجود عدد من المغاربة في المدينة. كان يتوهم أنهم من رجال المولى الحسن قدموا لاغتياله. وفي نابولي التي أعجبته كثيرا أغلق عليه أبواب غرفته رافضا الذهاب إلى أي مكان، فقط لأن المدينة كانت بها بعثة سفارية خاصة بالمغرب. نجحت “إميلي” بصعوبة في إقناعه بالجلوس في شرفة الفندق حتى يشهد مرور ملكة إيطاليا في عربتها الملكية، الأطباء بدورهم، كانوا يذهبون إليه في الفندق للاطلاع على حالته الصحية، بعد عامين على هذه الرحلة، توفي شريف وزان عبد السلام الوزاني في مدينة طنجة يوم 28 شتنبر 1892.
في الواقع، ميولات الشريف الوزاني الحاج عبد السلام الأوربية قديمة جدا، فمنذ الصغر أبان عن استقلال تام وتجاهل لوضعه الخاص كمرشح لخلافة والده على رأس الزاوية. حرية تصرفاته وسلوكاته كانت أبعد ما تكون عن الانضباط، إلى حد أن والده مولاي العربي الوزاني كان ينتقده بشدة عندما آلت مشيخة الزاوية الوزانية إليه، كثيرا ما غادر “دار الضمانة” ليقضي فترات طويلة في طنجة قبل أن يستقر بشكل نهائي في هذه المدينة الأكثر قربا من النموذج الأوربي. هكذا كان كبير شرفاء وزان هذا ليبراليا إلى أبعد الحدود: لم يمنع زوجته من الخروج إلى الشارع، وكان يذهب معها إلى الكنيسة ويظل منتظرا حتى انتهائها من صلاتها، كما لم يمنعها من الأطعمة المحرمة في الإسلام، كان معجبا بالموسيقى ويحمل معه دائما آلة كمان. كان عاشقا للحفلات والسهرات حتى لقاءه بإميلي، وخلال زواجهما اعتاد الشريف الوزاني الحاج عبد السلام أن يصطحب معه زوجته الانجليزية هذه إلى البرية في رحلات لصيد الأرانب والخنزير البري. وفي إحدى المرات أخذها إلى سبتة لمشاهدة مباراة في مصارعة الثيران.
رغم هذا التناقض الذي يبدو بين سلوك الشريف وموقعه كشيخ للزاوية، إلا أنه حافظ على حظوته وهيبته لدى مريديه. إميلي تصف في كل مرة الحشود الهائلة التي تلاقي الشريف في طريقه، طمعا في “البركة”: “كم هي رائعة هذه المشاهد التي كنت شاهدة عليها: رجال ذو بنيات ضخمة يبكون، بخدود مبللة بالدموع، جاؤوا بحثا عن بركات الشريف… أشخاص يحملون مناديلا، وآخرون ملابس في أيديهم. من أجل ماذا؟.. يجب أن يلمس الشريف هذه الملابس حتى تنتقل البركة إلى أصحابها الذين لم يستطيعوا القدوم. الطحين الذي يباركه الشريف يمزج مع الحساء ليقدم للمريض. الدقيق يخلط مع حبات القمح طمعا في حصاد جيد في المواسم المقبلة”. في كثير من صفحات كتابها، تسجل إميلي أن أغلب الطامعين في بركات الشريف هم من المرضى، فهذا الشريف اي الحاج عبد السلام الوزاني نفسه وقف عاجزا عندما سقط أحد أطفاله مريضا، بسبب بيضة أهداها له أحد المريدين، “ظننت أن الشريف سيصبح أحمقا، كان يبكي مثل أم من أجل ابنها”، تعلق إميلي واصفة حاله.
في فقرات كثيرة منه، يبدو كتاب إميلي كين مرافعة عن الحاج عبد السلام الوزاني الذي تسببت ميولاته وارتباطاته الأوربية في توتر علاقته مع السلطان المولى الحسن. هذه الارتباطات توجت سنة 1884 بحصوله على الحماية الفرنسية، في سياق اتسم بتزايد حدة الأطماع الأجنبية في المغرب. في بداية حياته على رأس الزاوية خلفا لوالده مولاي العربي، كان شريف وزان ما يزال مرتبطا بالبلاط، إلا أنه سرعان ما صار يبتعد عنه شيئا فشيئا، خوفا من أن يصبح في النهاية سجينا لدى مولاي الحسن الذي لم يكن يستسيغ ميولاته الأوربية. وقد تعقد الموقف أكثر بحلول سنة 1860، أي بعد حرب تطوان، عندما أقدم الشريف الوزاني هذا– حسب إميلي- على تأسيس وحدات مسلحة خاصة به، بل إن فكرة الحكم خطرت بباله في وقت لاحق قبل أن يتراجع عنها. وهذا ما تؤكده زوجته بالقول: “فيما بعد، وبسبب إصغائه إلى بعض الاقتراحات الأوربية، استميل الشريف إلى أن تتولد لديه فكرة الحصول على السلطة، لكن بعد تفكير عميق، تخلى عن هذا المشروع الوهمي”.
بعد وفاته، أخذت إميلي على عاتقها مهمة إصلاح الأمور، فحملت ابنيها مولاي علي الوزاني ومولاي أحمد الوزاني إلى فاس للقاء السلطان المولى الحسن. تقول السيدة الإنجليزية التي صار عمرها حينها 43 عاما: ”بعد تبادل التحايا المعتادة، وتقديم التعازي المتبادلة (في وفاة شريف وزان)، أبلغهما مولاي الحسن أنه حزين لوفاة والدهما وأنه سيكون لهما أبا وسيتعهد برعاية أمهما”. في آخر فقرة في كتابها، كتبت شريفة وزان الانجليزية اللندنية هذه: “لا أنصح أحدا أن يتبع الطريق التي سلكتها، في المقابل أنا غير نادمة على أي شيء، وأتمنى أن يكون للأربعين سنة التي قضيتها بين المغاربة أثر جيد على المستقبل”.