تازة بريس

لِم الراديو ولِم التلفزيون ولِم السياسة وكل شيء كذب في كذب ؟..

-

تازة بريس

سعيد عبد النابي

صور المرشح التقطتها عدسات فنان محترف، قدير، لا يكتمل عمله إلا بعد دراسة الزوايا وضبط المسافات، وتأمل انكسار الأشعة المرسلة من السراج الوهاج. وهذا سر انبهار الناخب بالابتسامات المشرقة عليها، وبقاءها خالدة في الأذهان كورود باقات يتجدد إهداءها للديمقراطية كل أربعة سنين. يكون وراء انجازها عادة طاقم مهم، يتكون من مدراء و تقنيين، و أسماء أخرى …لا يستوعبها دماغ الفلاح البسيط، الذي لا يهتم سوى بالألوان الصارخة، التي تكاد تنطق، في بريقها وتوهجها، سواء انعكس تلألؤها على ثياب المرشح، أو على أسارير وجهه، أو من الحدائق المحدقة به.. تظهر على صفحات الجرائد و المجلات بأنواعها، فاتنة، أو توزع على اللافتات، صور شمسية بمعنى الكلمة، ليست كتلك التي تذكركم بالمبدع الجيلالي الذي كنتم تنتظرونه شهرا كاملا، أو تبحثون عنه في الحدائق العمومية حولا ليصدمكم في النهاية بضياع الفيلم بمختبرات فاس، كلا، الصور التي يقصدها وحي اليراع هنا يصل تأثيرها شغاف القلوب، وتهمس من داخلها لصالح المرشح: انتخبوني..  صوتوا علي…

والسي احميدة لا رابط شده إلى السياسة من قبل، ولا علاقة جمعته بالأحزاب، بل لم يشتر لاجل التواصل مذياعا، مبررا رفضه ما يراه الناس علامات رقي وتحضرـ بكراهيته للكذب، وهذه الأجهزة لا تختلف عن الكذابين الأفاكين في نظره، لذلك كان يصرح ضاحكا لمن سأله: انا ما ندخلش لداري الكذاب، ونزيد نصرف عليه… و نوكلو … (يعني : يشحنه بالطاقة ، سواء كانت من بطاريات او كهرباء ) مانيشي خلا. لكن حشودا باغتته وهو في سوق اثنين الطايفة، على غير موعد فاجأته، وثيابه الرثة المنفرة التي كانت عليه، وسحنته، كل شيء فيه أكد بعده عن الحداثة والمعاصرة، على عكس ذاك الرجل الباسم الثغر، على الصورة الكبيرة أمامه، المرفوعة فوق الأكف كنعش أم الشهداء، والعشرات من الأفواه تحتها تصرخ وتعيد، وترنم الشعارات لأجله وتجيد. وهو شخص يذكره جيدا، زار المكان قبل أربع سنوات، ورغم إخفاقه الشنيع يومها، هاهو الآن يجدد المحاولة على أمل الفوز، خلص السي احميدة وهو يهاجس نفسه ويتأمل الحشود المتوالية، ويتابع الأحداث المتكالبة على مكان كاد الهدوء يطبعه طيلة الدهر، أن السياسة علامات حمق تختم حياة الأثرياء، كالخرف والرعاش، إذ ظنه أغدق لهم العطاء، ما جعلهم يتوافدون على هذا المكان القصي، توافد أسراب نحل مهاجر، لدعمه. وليصرخوا ملء الفم، بقوة زبدت بها الأشداق، وليرفعوا صوره على الرؤوس، في مشهد أنساه الغاية التي ساقته الى الصاكا الوحيدة المتواجدة بمكان السوق، علبة تبغ تشترك مع السحر والليل البهيم في سوادهما، اشد السجائر رداءة، رغم إيحاء اسمها الانجليزي، بأنها المحبوبة والمفضلة ـ فافوريت، ورغم عدم تجاوز ثمنها حينها سقف النصف درهم … ولا احد أذرك المعنى أو فهم سر هذا التناقض الغريب وهذه المفارقة العجيبة …و لعل ذلك سيبقى من حظ المجربين …

لقد اعتاد في المناسبات السابقة التي حضرها في البيوت سماع ثنائي الدوار، الشاكوش و الشويكش، يمتعان من عزم بسكيتشاتهما الممتعة، و إن قطع عليهما من حين لآخر تواصلهما متطفل، اشتعلت في ذهنه رغبة التبراح، ووقف في الوسط كالصاري، يحسب نفسه واحدا من فطاحل الشعر زمان سوق عكاظ .( او هادي ف خاطر الذيب اللي ولا حبيب لبسناه السروال و وسعنالو الجيب )، كما اعتاد في الساحات العمومية، متابعة من يحل عليها من الشرق حكواتيا، ينفخ في القصبة لإحياء فن الحلقة. وقد كان رابح درياسة لجيله في مقام الشاب خالد لجيل من ختم الألفية الثانية، وكم مرة وجد نفسه يردد لازمة / احبيبي درني كارو,,, وشعلني من جوج جيهات اعمري/ .. لغرابة النص، و للضحك، أما السياسة فكانت عن أحلامه اشد نأيا، لا يحظى بشرف الوقوف في حضرتها إلا نادرا، كل أربع سنين، تماما كما يحدث معه الآن .. وهو يستمتع بها غاية الاستمتاع، لاختلاف الفرجة فيها و تنوعها.. وتضاعف عدد الزوار بحلول حشود أخرى، هل تعمدت الحضور؟ أم لاقتهم الصدف؟ هل جاؤوا بترتيب مسبق؟ أم جاءوا عن قصد لمهمة واحدة؟ عاقدي العزم على نسف المنافس انتخابيا..اللقاء أشعل فتائل كل العداوات، وحرك عكارة الأحقاد في القلوب، الغريب أن  قليلا من الزوار الجدد رفع  صورة مرشحه، لاكتفاء الأغلبية منها بمحاصرة صاحب الحشد الأول، الذي احتفظت ذاكرة السي احميدة بصورته احتفاظ العملة بنقوشها ، فبدأت لعبة التراشق، اختاروا فيها كل الكلمات النابية، واستعملوا فيها كل ما بوسعه إحداث كدمات، دون الوصول إلى كسر أو جرح بليغ، وعبثا حاول المرشح الضحية الدفاع عن نفسه، و البذل في سبيل الانعتاق الجهد الجهيد، بعدما أصبح كالكلب الواقع في ترعة، يحاول النجاة بنفسه، فتزل قدمه ثانية، و يسحبه ثقله إلى العمق، فلا تسمع منه غير أنفاس متتالية اقتلعت من عمق رئتيه، و صدى نبضات قلب مفزوع تكاد تكسر أضلاع صدره، و هم يرددون، الكلب، الخاين، شحال اعطاك حزب القرعة د البزيم يا قليل الايمان…  يا خديم المخزن ..

و في خضم هاته التجاذبات، كانت قهقهات السي احميدة تزداد قوة، حتى طغت على الضوضاء و غلالة الغبار، و الأحرى قول كخكخات لا قهقهات، كونه كاد يتمرغ في التراب كالحمار من كثرة الضحك و هو يكرر كخكخكخ، كأن الكخكخة عنده تاتي فوق القهقهة درجات، و لما لفت الانتباه و الأنظار تحاصره، اقترب من المرشح فشنف أذنيه بهذا القول الجميل: ويحورك بالتحيورات لا ش ادترشح لاش؟  شكو ماشي يسمعك فالحكومة  ولخرارك غي ف الطايفة غموك ، قول لم،  لا يسجلو ، لا يصورو ، لا يراسلو راديو ، دفن همك جنب البيرو داعراب  و ريح عطيماتك …..و السياسة بلاش…لا دقرباش بالكل .. ونزلت هذه الكلمات على قلوب الحشود الغاضبة بردا وسلاما، كون البرنوصي يستغل اي مناسبة ليخلد اسمه، كي تترحم عليه الأجيال المتعاقبة بعده، كلما ذكر اسمه في مجلس، و هذا ما يسمى عندهم بالقرنابي ، و القرنب في اللغة خاصرة أو يربوع، و القرنبى حشرة شبيهة بالخنفس ، لكن القرنابي عند اولاد عبو إبداع في القول اللاذع المضحك. و لربما كان ذاك من مساعي السي احميدة وراء حشر انفه في أمور سياسية لا تعنيه .. من يومها اقتنع بدناءة الحياة، و أنها بالفعل… لا تساوي جناح بعوضة. مئات من الصور توالت على ناظره، صور المرشحين، بأحزابهم المختلفة، والشيخ في دواره لا يزال يخاف ركوب الحمار و هو ذاهب ليصلي، إن تعثر به في طريقه إلى مقام سيدي احمد الزروق، قل لن يصلي ، بل  قل صلوا على جثمانه، وأكرموه ميتا بالإسراع بدفنه. فلم الراديو إذن ؟ ولم التلفزيون ؟ ولم السياسة ؟ وكل شيء كذب في كذب في كذب ….

 جمعوي وكاتب

إلغاء الاشتراك من التحديثات