تازة: حول الذاكرة الوطنية لمنتجع تايناست وملحمة معركة “بين الصفوف” ..
تازة بريس
عبد السلام انويكًة
تحفة بيئية معلقة بالجبل على بعد حوالي خمسين كلم شمال تازة هي جماعة ومركز تايناست، هذه المنطقة التي بقدر ما هي عليه من إهمال وهشاشة بقدر ما تحتويه من غنى موارد طبيعية بأهمية سياحية هائلة تجعلها منتجعاً جبلياً على درجة عالية من القيمة المضافة لخريطة السياحة الجبلية بالمغرب والجهة والاقليم إن هي أحيطت بما ينبغي من التفات وعناية وتهيئة. علماً أن منطقة تايناست المغمورة سياحياً كانت زمن الحماية الفرنسية بعمران كولونيالي هي بمثابة تراث مادي بمعالم لا تزال شاهدة قائمة، موقع جبلي متفرد إن هو حضي بما ينبغي من تأهيل وتعريف وتأطير لموارده الرافعة الخامة، من خلال أوراش تشاركية لفاعلين جمعويين وهيئات منتخبة ومصالح معنية محلية وجهوية، عبر إحداث مراكز شبابية ومخيمات صيفية وربيعية وغيرها من المبادرات. والتي لا شك أنها ستكون رافعة لتنويع العرض الاقليمي والجهوي السياحي الطبيعي، مع أهمية الاشارة الى أن تايناست منتجع جبليي قد يجعله موقعه ومداله قبلة لسياحة طبيعية ترفيهية بالاقليم، مدعماً لِما يوجد عليه مركز باب بودير وما يمكن تحقيقه ايضا على مستوى منطقة كاف الغار غير بعيد شمالاً.
وتايناست هذه التحفة الطبيعية والتراثية المغمورة باقليم تازة وبجهة فاس مكناس الى حين، جماعة قروية تم إحداثها بداية ستينات القرن الماضي. وهو ما يجعلها واحدة من أقدم جماعات المغرب المحلية، بساكنة هي جزء من قبيلة البرانس (صنهاجة) بالمنطقة في التماس مع جبال الريف. ولعل تاريخ تايناست وجوارها من المجال يعود لفترة العصر الوسيط في بعض تفاعلاته على أساس ما هو عالق في الذاكرة الشعبية من وقائع بحاجة لتدقيق وتوثيق، لتدخل حيز الحقيقة التاريخية النسبية بعيداً عما هو رواية لا غير. ولا شك أن ما تتداوله ذاكرة تايناست وجوارها من المجال الجبلي حول المولى ادريس الأول، وما هناك من رواية عن بيعة وزواج بكنزة الأميرة، وعلاقة ذلك بقبيلة أوربة وغيرها من الرمزي الروائي التاريخي، هو إرث وذاكرة جماعية على قدر من الأهمية، فقط ما ينبغي من تأسيس وأبحاث ووثائق ونصوص وأركيولوجيا.. ، في أفق استثماره فيما يخدم نماء المنطقة عبر الممكن من الأعمال كما بالنسبة للدراما، وما يمكن أن تسهم به هذه الأخيرة من خلال تفاعلها مع الذاكرة المحلية ولو في شقها الروائي كإثارة وذاكرة تراثية لا مادية، وما يمكن أن تبرزه أيضاً من موارد طبيعية تخص المنطقة ومن تعريف من شأنه اخراج تايناست وجوارها من ظلها وهشاشتها وعزلتها.
وبقدر ما تاريخ تايناست خلال العصريين الوسيط والحديث في حكم المجهول، بقدر ما هناك من اشارات تخص المنطقة خلال فترة نهاية القرن التاسع عشر. والتي عرفت بروزاً معبراً خلال فترة الحماية الفرنسية على البلاد لأسباب عدة منها طبيعتها الجبلية ومناعة واستراتيجية موقعها في علاقته بمنطقة الريف (المنطقة الخليفية). فقد حولتها السلطات الفرنسية من خلال إحداثها لثكنة عسكرية بها كانت بأدوار هامة على مستوى إمداد وتموين وتخزين وتتبع ومراقبة العمليات، الى قاعدة خلفية اعتبرت الأهم على مستوى الشريط الحدودي بين المنطقتين الاسبانية شمالاً والفرنسية جنوباً. ولعل معالم ثكنة تايناست العسكرية المتميزة استراتيجيا، لا تزال شاهدة على ما كانت عليه من أدوار خلال فترة حرب الريف زمن محمد بن عبد الكريم الخطابي لما انضمت اليه قبائل المنطقة، وأثناء المقاومة المغربية المسلحة منذ عشرينات القرن الماضي الى غاية فترة الكفاح المسلح وجيش التحرير. والى جانب ما هو عسكري من عمران كولونيالي بالمنطقة هناك بنايات بطبيعة مدنية اجتماعية، فضلاً عما احتواه مركز تايناست هذا من بنايات إدارية منها اقامة الحاكم الفرنسي ومحكمة القائد ومكتب القاضي والعدول والأعوان، وغيرهم ممن شكل جهاز تدبير تراب المنطقة خلال فترة الحماية. كلها منشآت وغيرها في موقع بانحدار شديد طبعتها هندسة وبناء أكثر انسجاماً مع منطقة جبلية، بحيث اتخذت سقوفها شكلاً هرمياً مع تغطيتها بالقرميد، على أساس أن تايناست كانت تتمز بغزارة أمطارها وكثرة ثلوجها خلال فصل الشتاء بحكم ارتفاعها الذي يبلغ حوالي الألفي متر.
وعند ذكر تايناست يصعب القفز عن تاريخ المنطقة الراهن وما كانت عليه زمن الكفاح المسلح خلال خمسينات القرن الماضي، ولعل المعركة الشهيرة ب”بين الصفوف”التي كانت المنطقة مسرحاً لها بتأطير من جيش التحرير خلال يناير1956، أكبر شاهد على درجة انخراط تايناست المجال والانسان والقبيلة في ملحمة استقلال البلاد والتعجيل برحيل القوات الاستعمارية. فقد ورد أنه استعداداً منها لمواجهة جيش التحرير أرسلت القوات الفرنسية فيالقها العسكرية إلى مواقع اعتبرت استراتيجية للتحصن بها واحداً من هذه الفيالق نزل بتايناست، وعلى اثر ما حصل من تطورات في هذا المجال الجبلي الفاصل بين المنطقة الخليفية والسلطانية شمال تازة، أصدرت قيادة جيش التحرير أمرها لمحمد العجوري التاغلاسي ونائبه الحاج مسعود بوقلة الجزنائي القياديين الميدانيين، بعد توصلها بما يفيد أن القوات الفرنسية تستعد لشن أكبر هجوم على جيش التحرير ومراكزه الحيوية في مثلث الموت انطلاقاً من قاعدة تايناست. وكان أمر قيادة جيش التحرير هو التمركز في مكان يسمى”بين الصفوف” ذلك الممر الذي يصل بين تايناست ومركز ظهر السوق. وبعد تجميع قوات بلغت حوالي ثلاثمائة مقاوم تم التربص بفرق عسكرية فرنسية بهذا المكان المنيع أواخر يناير 1956. حيث نجحت المقاومة بعد إحكام سيطرتهاعليه في وضع كمين لها مستعملة ما كان بحوزتها من سلاح. وهو ما اضطرت على اثره القوات الفرنسية لاستعمال طيرانها لإنقاذ ما يمكن انقاذه عبر قنبلة الأماكن المحيطة بالموقع حيث دارت هذه المعركة، وعبر ايضاً استغاثتها بما كان لديها من عتاد وفرق في قاعدتها بتايناست.
ومعركة “بين الصفوف” هذه التي استمرت من صباح يوم 28 يناير 1956 الى غاية ما بعد الزوال، كانت رهيبة بكل ما للكلمة من معنى نظرا لِما خلفته من قتلى فرنسيين وغنائم في العتاد والذخيرة التي شملت قنابل وأجهزة اتصال وغيرها، مع تسجيل أربعة عشرة شهيداً في صفوف جيش التحرير. مع أهمية الاشارة الى أنه بعد انتهاء المعركة أقدم الفرنسيون على حمل قتلاهم وهم مكدسين في شاحنات باتجاه تازة، لدرجة أنه عندما بلغت المدينة وكانت تصعد مكاناً مرتفعاً وكان دم القتلى يقطر منها بشكل ظاهر وهو ما تناقلته الروايات وورد في بعض المذكرات. لدرجة أن من الباحثين المهتمين من ربط بين هذه المعركة التي كانت تايناست مسرحا لها وبين معركة أنوال الشهيرة، معتبراً الأولى صورة مصغرة للثانية لحجم ما خلفته القوات الفرنسية من خسائر بلغت تسعمائة عسكري منها حوالي ثلاثمائة قتيل. ومن هنا يتبين أنه بقدر ما كانت عليه تايناست من حدث عسكري بصدى قوي عجل بتوقيع اتفاقية الاستقلال، بقدر ما كانت جزءًا من”مثلث الموت”الشهير الذي تقاسمته معارك جيش التحرير، ومنها معركة بورد والبلوطة وثاورا وبوزينب والقنطرة وأجدير وسوق الخميس وتزي نتايدا وثينملال وجبل هيبل وبين الصفوف وغيرها. ولعل هذا المشهد في شموليته يجعل من الحديث عن ملحمة الكفاح المسلح وعمليات جيش التحرير بهذا المثلث الشهير شمال تازة، لا يستقيم دون اعطاء منطقة وذاكرة تايناست الوطنية ما تستحق في هذا الاطار عبر استحضار معركة بين الصفوف الرهيبة.
إن تايناست شمال تازة لا تعنى إسم مكان وسحر مجال وتدفق مياه ”عين سوق” فحسب، بل ايضا ما هو كائن من ذاكرة وطنية محلية شامخة وثقافة وتاريخ وتراث..، تلك التي تسحق انصاتا والتفاتا وفعلا وتفاعلا وتعريفا وابرازا واستثمارا… عبر ما ينبغي من توثيق وكتابة واحتفاء يليق بعظمة مكانٍ وتنوع وغِنىَ جَبل وعظمة ووطنية إنسان زمن تايناست وعظمة وشموخ موقعة معركة “بين الصفوف” خلال خمسينات القرن الماضي وفجر استقلال المغرب، حتى لا تظل هذه الملحمة من الكفاح الوطني الذي صنعته المنطقة ورجالاتها التي بلغت ذكراها السابعة والستين شبة منسية.
مركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث