بعيون جبل العلاية .. للا خدوج في برلمان باب مروج.. امي فطيمة ..

تازة بريس
سعيد عبد النابي
لا طعم للطيبوبة ولا رائحة، لا لون، لا وزن، لكنها تشع كالهالة وتؤثر في المحيط، لها طاقة، تجدها عند شخص وتنتفي عند مئات الأشخاص، هي كنز فريد لا تربطه علاقة بالجاه و الثروة. وراءها إيمان يغذيها؟ ربما .. تربية ؟ ربما، كاد الناس ينسون اسم فطيمة لكثرة نعتها بالطيبة، كل شيء فيها كان بالطيبوبة ينضح، لذلك كانت تصرفاتها تأتي متجاوزة حدود المنطق، مثل ما حدث معها في الليلة الأولى. كانت صدفة غريبة، اعترضت خلالها صورة الملك محمد الخامس، و بضع أشرطة عن أنشطته و مقاومته، سبيل نظرات أفراد العائلة، في أول تثبيت على زر الريموت، صدفة، لأن القصر لم يتدخل في الأمر، ولا أصابع خالد المتصلبة حنقا على الأزرار تدخلت، لكنه حدث بالفعل، كأنه مشيئة قدر، بث رسالة عبر الصور، يهمس بها في الجينات أن لا ينسى الواحد أصله ولو بعد حين، مهما رفل في النعم. هل تكون الواقعة بكل تفاصيلها فأل خير؟ .. أن يحل الملك الراحل بينهم كأنه بعث ليشاركهم فرحتهم الأولى، وأن يتجلى داخل الشاشة صورا ميتة رغم الحركات و الأصوات المتداخلة، عكس أفراد عائلة السي علال الذين ثبتوا في أماكنهم أحياء بلا حركة، كأن الشاشة قبر فضي مكشوف على الواقع، وكأن الواقع لا يختلف عن القبر سوى بنبضات الحياة و الأمل، وكلمات النشيد الوطني الخالد تنثال، و إنشاد حناجر يفتك بالقلوب، كأنها تمرنت دهرا على المزامير، تنشد، وأصحابها متوارين، لا تكشف الشاشة عن وجوههم : منبت الأحرار ..مشرق الأنوار منتدى السؤدد وحمـاه دمت منتداه وحمـاه عشت في الأوطان ..للـعلـى عنوان.. ملء كل جنـان ..ذكر كل لسـان.. بالروح ..بالجسد هب فتـاك لبـى نداك في فمي وفي دمي هواك ثار نور ونار إخوتي هيـا .. للعلى سعيا ..نشهد الدنيا .. أن هنا نحيا بشعار الله الوطن الملك.
لحظات ليست باللطيفة المرور، نغمات تتنزل على أرواح طيبة نزول النجوم على صفحة ماء هادئة عند السكون، تنثر الكلمات حجارات من سجيل منصهر …إخوتي هيـا.. للعلى سعيا ..نشهد الدنيا.. أن هنا.. نحيا، نحيا.. نحيا. تلتقطها الحواس ..لا تقوى على الاحتفاظ بها، تسوقها إلى دواخل الأجساد، تختلف القراءات، كل فكر له زاويته، كل زاوية يسطع فيها أو يخبو النور، لحظات جرت ذاكرة الأب السي علال إلى ذكريات استعصت على النسيان، بدء بزمن امتهانه الرعي، منذ الصبى، و المغامرات التي واكبت المرحلة، والمخاوف التي حفتها، و ذاك التحدي الذي فرض عليهم الرجولة قبـــل المراهقة، قبل سن البلوغ، وبقاءهم يوما كاملا في الخلاء لأجل الأغنام، وتلك الإرادة القوية التي كانت تحدوهم لكسر أنياب اليأس، و محاربة الملل، بتنويع أنواع اللعب و الأطعمة. انسابت على شفتي السي علال ابتسامة كالنسيم، ناعمة، فاتنة، و هو يتذكر أكلة -عوينات موكا -، كان الراعي الصغير يحلب الشاة و يرش الحليب بزيت الزيتون ليحصل على دوائر خضراء تشبه عيون البوم، ليس لتجويد مستوى الأكلة البسيطة، أو لأهمية زيت الشجرة المباركة المذكورة في القران، إنما ليساعده الضحك على الازدراد و السرط، يتخيل نفسه يلتهم طجين عيون البوم. أحيانا، كان الراعي يطرد الجدي عن أمه ليرضع من الحلمة مباشرة، كأنه روم فصار ابنها بالتبني، و أحيانا أخرى كان يظفر أوراق الدوم ليصنع لنفسه جبنة، وهناك من استغل فراغه لصناعة أشياء عجيبة بنبتة الحلفا أو القصب، لكن السي علال لم يتذكر سوى الشغب .
تذكر الألعاب، كانت مروج الدوار كمعسكرات أثينا القديمة، اللعب فيها ورش لإنتاج مجاهد أشوس، عكس أيامنا الحالية و ألعابها التي بين أيدينا، ينم منها استهزاء الشركات المنتجة بأحلامنا و أحلام الأبناء، لعبة شورا كانت تمكن الراعي من الكياسة و الخفة، حتى انه إذا أراد تهديد خصمه كان بها يذكره قائلا: نلعب ب عطامك شرا ف السما، أي يذيقه الهزيمة النكراء. و صيد الطرائد بالعصي، و التراشق بالحجارة، و سرقة الفواكه من أشجار الجيران المثمرة، و المقلاع الذي كان يسمع دوي فرقعاته في الجبال البعيدة، و القذف بتركيز الاحترافيين لتصاب الأهداف في مقتل.. يحيلنا على زمن الانقلاب بالمقلاع و فلسطين. ألم يأخذ سيدنا داوود بمقلاع و حجر كالنصل ارتز على جبين جالوت ملك الفلستيين، الم يكتب به نهاية عصر الظلم؟ فيم نفع جالوت الطول و العرض و القوة ولباس الحرب من نحاس و حديد ؟ لو كان السي علال شارك سره بقية أعضاء العائلة لصاحت فطيمة الجدة و يطو الزوجة صيحات مترعة بالفرح وأضافت كل واحدة منهما تجاربها، لكنه فضل الصلاة في محراب منزو ليستمتع بخشوع طافح. كما فضلت يطو الاستمتاع بالصور مكتفية بابتسامات فرح، دون تعقيب. أما الجدة فكانت مفاجأة السهرة الكبرى، انتترت من مكانها كوتد اشتد عليه الجذب، فتقدمت نحو الجهاز في سرعة الوميض، بخطى ثابتة وبقوة حضنته، في تصرف مثير، جعل الأب يصرخ : واء, واء, مال هاذي؟ كهربوا بيها لبقر؟ مالا درزت للشقف دقول لدغاتا طيكوك؟ كماشي دعبيه لبيتا؟ وهل توانت الجدة؟ أو اهتزت إرادتها ؟ إطلاقا لا .. تمادت في حضن الجهاز، غير آبهة بالكل، تكلم الملك من خلال صورته على الشاشة، رغم علمها علم اليقين، أنه لن يسمع دعاءها، ولن يحس بحرارة تعلقها بأهداب عرشه المجيد، و لن تتح له فرصة رؤيتها في دار الفناء، مادام برزخ الموت فصل بينهما من سنين، لكنها فعلت ما فعلته لأن الفعل منحها حرارة خاصة، حرك شغاف قلبها، أسعدها، هذا ما همها من كل الأمور. أن تعيش لحظة حب خاص تجلت فيه أسمى درجات التودد، حب لا شوائب طالت صفاءه، فيه سمو، فيه نبل أخلاق، عبرت عنه في كلمات: الحبيب، الحبيب، بغيت ربي يزيدك نور على نور …. ثم أجهشت بالبكاء، كأن خبر وفاته وصلها توا، في وضع عجل بردة فعل صهرها، الذي رد عليها بعين الناقد للحظة: مناقص ايلا دبكي علينا كل عشيا ، اولا درعي لي ذاك الشقف، عند بالك ايشوفوك من الرباط ؟ كانتي خلية..؟ ويبدو أن الطيبة فطيمة كانت واثقة من أحاسيسها وثوق الأولياء، يستحيل على أحد منازعتها فيها، ردت عليه في تحد لفته الفرحـــة و الافتخار : انتا باقي صغير أبني ، ماعندك مادعرف،…انت تزاديت غي البارحين
ولكثرة ما عانت، ولكثرة ما شرب الظلم معاناتها، كانت ترى نفسها اكبر سنا من الكل، كان لا ثقة لها في عمرها ان يعب كل تجاربها بمرها و حلوها، فهي نقطة تقاطع أكثر من نظام، تجهل ثقافات و فلسفات و تيارات تركت ندوبا على وجه الوجود، لحظة الاحتفال باستقلال المملكة كان الشيء الوحيد الذي علق بذهنها، و بقي حيا كختم الكي، الحفل الذي أنهى عندها الاستبداد. علاقتها بالمغفور له محمد الخامس تستحق التوظيف في سيناريو، والسيناريو قد يحقق أعلى الإيرادات ان تبناه مخرج واع، فيه حزنها على نفيه وفرحتها بعودته لوطنه سالما، فيه ما عاشته من إذلال الفرنسي لأهلها، فيه أحداث بقي أثرها في ذاكرتها محفوظ، ترى المغفور له خلاصها من عهد سيبة أهلك جل أفراد عائلتها، وفاتح مرحلة منحتها الأمان. لا تزال تذكر أياما عصيبة سوداء عن فعل الجوع بالبشر، كان خلالها الواحد يتعثر في العشب فيسقط أرضا وتخونه قدرته على القيام ثانية، هناك من سلم الروح إلى بارئها بعيدا عن الديار فصار طعاما للوحوش و الغربان. فطيمة الطيبة، كانت ملكية، حتى النخاع، الاستقلال بالنسبة إليها هو الزمن الجميل الوحيد، أما ما تلاه من أزمنة، لم تعط نفس الوهج، به سمت علاقة الحب العذري تلك حتى صارت أعينها لا ترى شيء آخر غير المغرب، هي.. ومعها كل أهل القرية، ملكيون حتى النخاع. منبت الأحرار ..مشرق الأنوار .. منتدى السؤدد وحمـاه… دمت منتداه .. وحمـاه هذا ما علق في الذاكرة . سمعت عن المغفور له قصصا كثيرة، لا تصلح سوى لحمة في نسيج الملحمات، سمعت الفقهاء يتكلمون عن ملائكة بأجنحة تحمل الأنبياء والرسل وروايات أخرى فاعتقدت أن الطائرة التي نزل منها في طنجة كانت طائره الخاص، وقيل لها ظهر على وجه القمر، فنامت اياما على السطح كأنها تترقب انفتاح أبواب السماء، الجدة فطيمة سيدة طيبة، بساطة الفكر ميزتها، استرسلت في حديثها قائلة… اناغي انسمع اسمية دمحمد انغرق ف همي، وخا ف الطريق، لحريق ف حصايري ايفيق ، محمد الخامس الله يرحمو مسكين، المنفى، الحقرة ، منعرفش انقولا و لكن لحريق باقي هنا، فبسطت يدها على يسار صدرها، إشارة منها إلى جهة القلب، للتأكيد أن المسألة مسألة حب، حب متميز كما قلت من قبل، أضافت بعدها لقطع دابر الاندهاش في عيون الكل، لاعبة دور الراوي لملحمة وطنية طويلة حافلة بالأحداث، وبصوت خافت يعكس مستوى حزنها، رغم تغير الحال إلى الأفضل: . انت ما دعقلش على محمد الخامس مسكين وكيفاش كانت كلمة وحدا منو دفاجي الهم، الشعب ايلا سمع عليه الخير يعرس، و ايلا سمع عليه العيانة كان الواحد أيمشي في الطريق بلا راس، و جوفو عداب.. دقول انتين الجمر كادي فيه، انتوما واكلين لحلاوي و السفنج و ما حامدينش الله ، احنا كلينا تلغودة و الربيع، صبنا بتيغيغش، ما لحقناش حتى السباط … و كنا حامدين الله و شادين فالصالحين، نكرهو عديان لبلاد و نضحيو باولادنا ضدهم ، كان لمحابسي مسكين ايخدم بالجوع، يرفد الكايزة و دحاية ادعبيه ..و فالليل ما دسمع غي تريس د المقاومة، كانوا ايلبسوا غير السبرديلات ، يقيلوا نهارو ما طال مخبعين وفي الليل يباتو فايقين ،غير هوما والوحش ، كعند بالك الاستقلال جا بتعواج الفا.
الجدة فطيمة، آه عليها الجدة فطيمة، آه.. كلمة طاهرة تخرج من قلبها فتستقر في قلب المستمع إليها، لا أحد يخرس صوتها إن هي قررت الكلام، رغم صراخ البقية، وإيقاع النشيد الوطني آت إلى آخر مقطع فيه، رغم الامتعاض الواضح على بعض الوجوه، استمر سعيها، تسوق ذاكرة أفراد الأسرة إلى زمنها المتميز، غير مهتمة بتحامل الكل عليها، بيـن من حاول ثنيها عما أقدمت عليه، أو من تساءل مستهزئا بها و بتصرفها الشاذ، همها كان إشباع روحها بهذا الإحساس المنبعث من ثنايا الذاكرة .. صرخ الحفيد، المولوع بأفلام الرومانسية و كرة القدم . اكلس انانا اكلس … خلينا نشوفو الله يرحم الوالدين شنا مشي يجي ، اوووه …جلس الله دجلس على قنفود…. وضحكت الأم بعده… معقبة: ايوا شفتوا الوطنية ؟ العز على يما … العز و خلاص..العز على الاستقلال . وتجاوز المشهد سقف الاندهاش ليفرض واقعا لا سبيل إلى محوه، و عقب الأب مضطرا، رغم احترامه لها و هي أم ملاكه: رجاع احنينتي رجاع، ليه ماطلبشي لكريمة، انت ادبغي هاذ لبلاد كثر من شي ناس ف كراسى كبار، ديك.. ان هنا نحيا.. بقات ديالم .. حنا عندنا غي ان هنا نتكرفس تكرفيس وها . ومباشرة بعد النشيد الوطني صدح المقرئ بآيات بينات من الذكر الحكيم، فأنزل الترتيل على القلوب سكينة وخشوعا، وهذا سحر الآيات، فرض السكون و السكوت وتسمرت فطيمة مكانها وتحجرت، لا تدري، أعليها تقديم الخطوة، أم عليها تأخيرها.. انتظرت عودة الملك لتحضنه ثانية. لو كان ظهر أمامها مرة أخرى لاحتضنته، بعدد المرات التي يظهر فيها أمامها ستحضنه، ولو كان الحل و العقد بيدها لاقتلعت الجهاز من الحائط و ووضعته بجانب وسادتها على سريرها لتهجع و هي تستمتع بكل ما وثقته الكاميرات عن الاستعمار، إلا أن الفوضى سادت مباشرة بعد غيابه، وأصبحت الجدة في ارتباكها كممثل على خشبة مسرح ضاع منه خيط الحوار ينتظر أملاءات من الخارج للسيطرة على المشهد وتجاوز الصمت الغادر. لا شيء أفظع من انكسار الرغبة داخل الإنسان و هرمونات الحب متدفقة داخله، أو حينما تحرم نفس شيء وهي طالبة منه المزيد، حين تتبخر الخيارات، يبقى أمامك أمر من اثنين، إما إشباع وارتواء حتى الثمالة أو نحيـب و حسرة مدى الحياة، إما ضحك حتى تتعب الأضلع من ضغط العضلات، أو تذمر و استياء وأسف . تدحرجت على خدود الجدة عبرات عانت لكثرة تجاعيد وجهها، أحست كأنها خذلت، قمعت، تساءلت، ما الفائدة من جهاز يقتل فيها روح المواطنة؟ ما قيمة أطفال يجهلون تاريخهم؟ رؤوس فارغة.. جاؤوا بعد عناء جيل، بعد تضحيات جسام، ليحلموا فقط، ولكي تستريح، انتظرت آخر آية تلاها المقرئ، فأضافت.. مدافعة عن رأيها:
الله يعز لستقلال، هنا ما كدبتيش ابنتي… حنا عطينا ولادنا ونهار ماتوا ما بكيناش ,,,زغرتنا. هكذا توالت أحداث اليوم الأول مثيرة، ممتعة، تجددت فيها الفرحة و المفاجئة والإعجاب بالاختيار، لكن فطيمة بقيت تغرد خارج السرب، تدافع عن رأيها، عن واقع كانت الوحيدة التي عاشته، تمر ساعة و تنطق بما يخالج صدرها، تمر ساعتين وتعيد الكرة، تطفأ المصابيح، يسود الظلام فارضا على الجفون النوم، وتستمر فطيمة تنبش ذاكرتها، كأنها أهم جسر ربط الماضي بالحاضر، وأمتن صلة بين التراث والمستقبل، بين الموروث و الوارث، تعقب، توضح، تنفعل إذا لزم الأمر، مدافعة عن قبيلة اوربة، عبق أجدادها، و الذكريات الجميلة المختزلة. مضى اليوم الأول كعرس، كفرحة عيد، تراقصت خلالها كل ألوان الفرح، أبدى كل واحد مكنون فؤاده، رغم ما أظهرت فطيمة من اختلاف، لأن التغيير، مهما تجبر، عند أقدامها ينحني احتراما ويعتذر، ما جعل العائلة تقرر، بعد تراكم الأحداث و الخرجات، حذف أفلام الحرب بالمرة، وبرامج العنف كيفما كانت، رحمة بها و بأنفسهم، حتى تنتفي من أمامها كل الأسباب المحفزة على الحكي، تجنبا لاجترار هموم أثقلت داخلها، وإلا ستصاب بجلطة تشل حركتها بالمرة. فضلوا مشاهدة برامج لا سفك فيها للدماء. مي فطيمة كانت كجذوة مشتعلة تذرو رماد النسيان، ولكي لا تحترق الأجواء بذكرياتها الأليمة، كان لزاما على أفراد العائلة منع هبوب الرياح . رغم جهلها كل شيء عن الأرض التي تدور فيها أحداث الأفلام و المسلسلات، إسالة الدماء كانت تؤثر فيها أيما تأثير، فتفتح شهيتها للرغي، وتعود لتتحدث عن المقاومة مجددا، عن فترة أفقدتها العديد من أفراد عائلتها، من مات لنيل الحرية ومن لفظ أنفاسه دعما للجزائر، و من سقطت جثثهم إتباعا على الحدود الفرنسية الألمانية الإيطالية الهندية الصينية، بل و على تراب الجزر المتناثرة في كل المحيطات، تردد في كل حين : اوكا غي ايقريوا عليهم مساكن.
كاتب وجمعوي