فلتسعد بين يدي الواحد الأحد الخالق الصمد تلك التي ذات اللون الأسود ..
تازة بريس
سعيد عبد النابي
كان الصراخ عاليا.. مرتفعا تساقط لقوته نبق السدر، لم تمس الجذع لم تهزه إليها كما فعلت مريم مع رطب النخلة الجني، لم تحركه لم تقربه لكن تساقط النبق احدث صوتا، كالرعد، معبرا عن شدة الظلم عن قسوة الألم، خاطب الله قبل ذلك العهد الجهلة نصرة لليتيمة، كسيد وقف شامخا والفتاة خلفه يحميها، قال لهم: ” وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ” ، واتركوا اليتيمة لا تزيدوها قهرا على قهر.. لا تقربوها إلا بعدل، لكنهم غدروا والغدر من شيمهم، كالضباع استحلوا عرضها و مالها ونكحوا ما شاءوا من النساء، مثنى وثلاث وأربعين وأربعمائة، اليوم ها هي الأمة مع حطب الفرن و النار الملتهبة، رغم استيصاء الرسول الكريم بالقوارير خيرا، فهل سيبقى في السماء ملاكا لم يبكها؟ أو سيبقى على الأرض حجرا لم يلن لحالها أو عينا لم تذرف الدمع لأجلها؟
كانت تتلوى بين أيدي الجنديين للتخلص من قبضتهما، علال من تدمره وضع قطعة قماش على وجهه، بدا كمنقبات الشرق الأوسط أو أفغانستان، ولكي لا يجعل الشبهات تلصقه رد انسياب عبراته على خديه إلى دخان الفرن فصب عليه سياط لومه، وحماد هم بالسيئة، إلا أنه لم يعملها، لان شيخ الأئمة سيدي احمد الزروق رضي الله عنه، علم أجداده أن الله يكتب له السيئة حسنة كاملة إن هو فكر فيها ولم يفعلها، كما رباهم على الكرم و فعل الخير. انداح ألم خاص على دواخله، جاء كمس كهربائي غير شديد، نال من أعضاءه فخدرها، السيد بدوره تأثر، في أعماقه، كونه كان عليما بظلمه، أفتى الفقيه يوما في مسألة عصيان الخادم وتمرده فأفتاه، وخول له مستواه الاجتماعي حق إعدام من خذله، ثم ركن إلى القول بأن القسوة سماد السلطة لا ثمر يينع لها إلا به.
وهكذا طويت الصفحة، فعاد الجنديين إلى الثكنة، صامتين حاملين معهما أكثر من نارين، نار أداء الواجب تحت الإكراه، وواجب طاعة الأكبر رتبة، إذ لا نظام استقر في هذا الوجود، إلا والواجب المقدس عنوان فلسفته ـ نيران الضمير والعدالة الإلهية أيضا زادت من شرودهما، نيران الحساب والعقاب، والإثم الموجب لللعنة ظلا طول الطريق واجمين ينقصهما التركيز، الواحد يري الثاني السها والآخر يريه القمر، أشياء مستعصية على الفهم تدفقت عبر الشرايين فأحدثت تأثيرات، كانت الخواطر تبكي دما، رغم جفاف المآقي، نتجت عنها تحية بلا حرارة و لا معنى، أدياها لما وصلا مكتب الحاكم، كصنمين ثابتين من طين محمى في موقد هامان انتصبا، كعمودي خيزران ناضجين، حركا فقط يمنياهما ـ للتحيةـ، في حركة افتقرت إلى الحماس، سمع فقط النقر، أسفل الحداء، قف، تفجر في سكون جثم على كل شيء اعترض مساره، وآلم صداه القلوب عند انتشاره، أما الآذان فكانت كأسلاك الكهرباء، قامت بمهمة نقل ذبذبات الصوت لا غير.
ومرت أسابيع، من الترقب، من الدعاء الخفي، من أحاديث النفس اللوامة، وتربعت على عرش الأفكار، أحاديث نبوية و آيات قرآنية كريمة، من قبيل دعوة المظلوم مستجابة، لا فرق في أن يكون مؤمنا أو ملحدا، الظلم ظلمات، و الله يرسل لكل ظالم من يعذبه في الدنيا، وبين يديه يعذب العذاب النكر، عاش كل من عاين الجريمة بمخاوف ضحايا حرائق كاليفورنيا، علا تساؤل واحد، لاغير، على من ستحل النوبة؟ خصوصا لما سمعوا بحتف السيد، والحادث الذي افجع كل أهله و معارفه، وحاكم كل واحد نفسه، في صمت، جلدها بعنف: أنا لم المسها، الله يشهد على نواياي أنها كانت طاهرة، و مالي أنا، انا مجرد عبد مأمور، أو هو من قال… هو من يتحمل العواقب، و الله لا يأخذ العبد بذنوب السفهاء.. انقسم الأربعة إلى فريقين، اثنين اثنين، اثنين شاركا، و اثنين عاينا الجريمة، دون علمهم بجوهر القضية، كان حماد أكثرهم تعاطفا مع المرحوم، زاره عند أول جمعة بعد الدفن، حمل معه بعض القناني ليصب الماء على ثرى الفقيد، فشرع يهمهم داعيا له بالرحمة و المغفرة، متذكرا والديه، أجداده، وجميع موتى المسلمين، لكن صياحا شديدا أتاه من داخل القبر، فألجمه الفزع، وارتعدت فرائصه، اعتقد بوقوف الدور عليه، أسوء خاتمة يشعر بها الإنسان في هذا البلد تتجلى في إعاقته او جنونه، ظنه حيا، وتساءل، كيف سينقده، ستغدق عليه السيدة ان هو حرره من ظلمة القبر، والحاكم سيكرمه.. ويرفع شأنه بين الناس، عودة السيد تخدم مصالحه، وان كان دكتاتوريا وطاغية، من طغيانه يستقي احترام الآخرين له ، بخضوعهم له يحقق مآرب أخرى،
بعد شهر اختلفت الساكنة في حكيها، وانتشرت أخبار الفرن في كل الدواوير الزائفة والسليمة سواء، لما أزاحوا عنه تراب القبر وجدوه ميتا لكنه كان يصرخ : طلقي مني اويلي طلقي مني، لا : كان كيقول ياربي رجعني للدنيا نتوب و نبدل التوب، لا : جبروه عاض على لسانو كينتاقم منو ، هو اللي غرقو، لا : ……، لا : …… لا : ……، أما حماد فأكثر النواح وامتنع عن حضور الأفراح. فلتسعد بين يدي الواحد الأحد الخالق الصمد تلك التي ذات اللون الأسود، ولتنعم بجنات الخلد ، و ليخلد الوغد في النار اليوم لا يعذب عذابه احد … و لا يوثق وثاقه احد.
كاتب/ جمعوي