تازة بريس
المسيرة الخضراء حدث تاريخي راسخ في ذاكرة كل المغاربة نستحضرها كل سنة لقيمتها ورمزيتها التاريخية في سبيل استكمال الوحدة الترابية ، تابعت بشغف كبيـر وأنـا شاب المراحل الأولى للمسيرة الخضراء وشاركت في العديد من المظاهرات التي نظمت بالربـاط والتي جاءت مباشـرة بعد الإعلان عـن تنظيم المسيـرة، وكان للإذاعة الوطنية التي التحقت بها في أواسط الثمانينات الفضل الكبير في أن أغوص أكثر في جل تفاصيـل هذا الحدث من خلال أرشيفهـا والحوارات واللقاءات التي أنجـزت مع لشخصيات سياسية وتاريخية واساتذة باحثين وشخصيـات اذاعية شاركت في المسيـرة، كما تحتفظ الإذاعة الوطنية في خزانتها بأرشيف مهم مرتبط بهذا الحدث الوطني. منها برامج متعددة أنجزت مع سائقي الشاحنات والحافلات الذين شاركوا في المسيرة والمتطوعات والمتطوعين والفنانين الذين أذكوا حماس المغاربة بأغانيهم الخاصة بالمسيرة الخضراء .
وكانت لي فرصة أن أسمع من خلال أرشيف الإذاعـة إلى صوت مجموعـة من الجنود ورجال الأمـن والوقاية المدنيـة الذيـن ساهمـوا في التأطيـر والتنظيم ، كما تابعت عبر أرشيف الإذاعة الوطنية كل الحلقات التي أنجزها المرحوم الإذاعي بنعيسى الفاسي “ذكريات المسيرة ” في ثلاثين حلقة يحكي فيها بالتفصيل جميع مراحل المسيرة . سبع وأربعون سنة مرت الآن على تنظيم المسيرة الخضراء ، يعني أن اللي عندو 47 سنة لا يذكر هذا الحدث الوطني، ولكـن الإعلام المغربي مـن إذاعة وتلفـزة وصحف ووكـالة المغرب العربـي للأنبـاء والمركز السينمائي المغربي وثقت وسجلت كل مراحل المسيرة صوتا وصورة من الإعلان عن تنظيمها إلى انطلاقتها وعودة المتطوعين، حيث لعبت دورا كبيرا في تغطية ومواكبة ونقل كل تفاصيل المسيرة. أجيال متعددة جاءت بعد المسيرة ورغم ذلك ترسخـت لديها هـذه الملحمة الوطنية بكـل مراحلهـا بفضـل المدرسة ومن خلال الإذاعة والتلفزة التي لازالت تحتفظ بالأرشيف الكامل لمراحل المسيرة والذي نسمع ونشاهد منه سنويا الشئ القليل مع ذكرى المسيرة الخضراء. من أولى دروسي التي أخدتها من الإذاعة هو ولوجي إلى خزانـة الإذاعة الوطنيـة التي تضم كنـزا مهما يوثـق ويـؤرخ لفتـرات مهمـة مـن تاريـخ المغرب تاريخـا وسياسة وثقـافة وفنـا ورياضة ،تعلمت منهـا واستفدت من برامج كثيرة أعدتها شخصيات كبيرة ثقافية وفكرية وعلمية وتاريخية.
إن المسيرة الخضراء حدث بصم تاريخ المغرب المعاصر، حدث تاريخي شد إليه أنظار العالم ساهم الإعلام المغربي في إشعاعه وإبرازه ، والإذاعة والتلفزة المغربيـــة كانتـا فـي قلب الحدث حاضرتيـن بقـوة من خـلال بث خطب جلالـة المغفور له الحسن الثاني ومواكبة كل مراحل المسيرة حيث لعبتا دورا كبيرا في إشراك المغاربة وإذكاء حماسهم وجعلهم قريبين جدا مما يروج في كل مناطق المغرب. ففي 16 أكتوبر من سنة 1975 ومن خلال الإذاعة والتلفزة المغربية تم الاعلان عن تنظيم هذا الحدث الوطني، وكان حضور الإذاعة الوطنية كما جاء في كتاب الأستاذ محمد بنددوش ” رحلة حياتي مع الميكرفـون قويا وحاضرا في فترة الإعداد والمواكبة والمتابعة والتحليل وحسن الإلقاء، وكان الواصفـون للحدث في منتهى التمثيل والنقل والإلقاء الجيد وكان التناوب بين أبناء الإذاعة المغربية في هذا المشهد في منتهى روعة التنسيق والتبادل حتى الكلمات كانت موزونة وحماسية تخرج من القلب وكانت الفرق الإذاعية والتلفزية تشتغل طوال 24 ساعة للإحاطة بكل الجوانب المتعلقة بالمسيرة الخضراء .
كانت أول مواكبـة للإذاعـة هو انتشـارها في كـل مناطـق المغرب بمشاركـة الإذاعات الجهوية. فكـان عملها في منتهى الدقة والمسؤولية بنقل صور صوتية حية حول عملية التسجيل التي عرفت إقبال الآلاف مـن المواطنين على مكاتبهـا معبريـن للإذاعة الوطنية عـن رغبتهم وسعادتهـم الكبيـرة في المشاركـة في المسيرة الخضراء. كل هذا موثق ومحفوظ في خزانة الإذاعة الوطنية . وبعدها قامت الإذاعـة بتغطيـة خروج المشاركين من كل إقليم على حدة، حيث انطلقت أول مجموعات المتطوّعين في تاريخ 21 أكتوبر 1975 من مدينة الرشيدية. وعلى امتداد إثنى عشر يوماً الأخيرة عملت عشر قطارات فضلا عن الحافلات والشاحنات يومياً ودون انقطاع على نقل المتطوّعين من كل المناطق إلى مراكش، ثمّ إلى أكادير ثم إلى ضواحي طرفاية. ولقد واكب الصحافيون والتقنيون الإذاعيون بالصوت تلك الاحتفالات الكبيرة التي رافقت المتطوعين ونقلوها عبر الأثير بشكل مباشر. مراسلات الصحافيين آنذاك هي وثيقة تاريخية لا زالت محفوظة في أرشيف الإذاعة ومما جاء فيها أن كل جهة بالمملكة كانت تستقبل متطوعيها داخل مراكز خاصة نصبت بها خيام قبل أن يتـم نقلهم إلـى المركز نقطة انطلاقة مسيرة الراجلين، بالقرب من مدينتي طانطان وطرفاية. ولقد تم الاعتماد على القطارات حيث تم حجز عشر قطارات يوميا لنقل المتطوعين إلى مراكش. وبعدها تم استعمال الشاحنات والحافلات إلى آكادير ومنها إلى المخيمات بضواحي طرفاية وطانطان، وبلغ عدد الشاحنات والحافلات حسب الأرقام التي جاءت من خلال مراسلات الصحافيين إلى 7813. كما قدر معدل المسافات التي قطعها المتطوعون ما بين 450 كلم و1639 كلم بحسب نقطة الانطلاقة من أماكن سكنهم وحتى نقطة انطلاق المسيرة مخيمات(طانطان وطرفاية).
وبعد إعلان المغفور له الحسن الثاني عن انطلاق المسيرة الخضراء في 5 نونبر من عام 1975 واكبت الإذاعة الوطنية التنظيم المحكم والمتقن لكل مراحل المسيرة من خلال مراسلاتها اليومية واصفة حرص القوات المسلحة الملكيـة والقوات المساعدة وأطـر وزارة الداخلية والوقاية المدنيـة على عملية التأطير والتنظيم، كما استفادت المسيرة الخضراء من 70 ألف من الأطر المدنية والعسكرية التي تكلفت بالإشراف على كــل حاجيات المسيـرة، بدءا من الإعداد القبلي مـرورا بالتسجيل في لوائـح المشاركين، وانطلاق المسيرة ومراحـل التنقل على متن القطـارات والشاحنات والحافلات، والإيواء بمخيمات طرفاية وطانطان وباقي المخيمات المتأخرة.. ونهاية بعبور الحدود الوهمية، واسترجاع الأراضي المحتلة. وقام طاقم الإذاعة بالنقل المباشر لعملية خروج المشاركين من طرفاية نحو المناطق التي كانت تابعة آنذاك للاستعمار الإسباني. حاملين للقرآن الكريم ولافتات تدعو إلى عودة الصحراء المغربية، وصور للملك الراحل الحسن الثاني، جانب مهم ظهر بشكل قوي في هذه المرحلة حيث ارتبط حدث المسيرة الخضراء بالأغنية الوطنية التي لعبت دورا كبيرا، ليس فقط في التغني بهذا الحدث الهام وإذكاء روح المواطنة في نفوس المغاربة، وإنما أيضا في توثيقـه وحفظه في الذاكـرة المغربية، فقد عـرف استوديو 1 بالإذاعـة الوطنية والخـاص بتسجيـل الأغاني حركة ونشاطا غير عادي. فاشتغل الملحنون والشعراء والمطربون والعازفون بشكل جماعـي وتضامني 24 ساعة على 24 بدون توقف لإنجاز 16 أغنية رددها كل المغاربة آنذاك ولازالت حاضرة إلى اليوم، فظلت راسخة في ذاكرة ووجدان جيل المسيرة الخضراء والأجيال اللاحقة، نذكر منها نشيد القسم (بعون الله )، مسيرة فتح، أسمى نداء، أمجاد الحسن، المسيرة الحسنية، نداء الحسن طلع البدر علينا، مسيرة الأبطال، مسيرة النور، أيام المسيرة، 350 ألف، العيون عيني .
تشكل هذه الأغاني والتي جعلت حدث المسيرة الخضراء محورا لها، مخزونا هاما كما تعد تراثا ثقافيا يجب توثيقه صورة وصوتا والحفاظ عليه ويجب تداوله لإيصاله إلى الأجيال الاحقة. ومما ذكره الأستاذ محمد بنددوش في كتابه رحلة حياتي مع المكرفون: كان جهاز الراديو رفيقا للملك الحسن الثاني رحمه الله منذ اللحظة التي أعطى فيها الأمر بانطلاق المسيرة الخضراء . وقد تابع الملك عن طريق الإذاعة الوطنية مراحل انطلاق المسيرة الخضراء ودخول المتطوعين إلى الصحراء المغربية، وكانت الإذاعة تنقل هذه الوقائع مباشرة من عين المكان .”
تمكنت الإذاعة الوطنية من نقل وقائع الحدث التاريخي مباشرة بفضل مجهودات التقنيين، الذين استطاعوا تسخيـر الإمكانيات التقنية القليلـة والضعيفة المتوفـرة لديهم في عيـن المكان (سيارة الروبرتاج)، مرورا بمركز إذاعة طرفاية، وصولا إلى إذاعة أكادير، ثم الإذاعة المركزية بالرباط. والجديـر بالذكر كمـا جاء في كتاب محمد بنددوش أن الإذاعـة المغربيـة كانت في تلـك الأيام المصدر الإخباري الوحيد لكل إذاعات ووكالات الأنباء في العالم، وذلك بفضل مراسليها في عين المكان، الذين كانوا يبثون تقاريرهم الإخبارية مباشرة. ساعدهم في ذلك إنشاء إذاعة في طرفاية قبل المسيرة فكانت أغلبية إنتاجاتها تهيأ في عين المكان بفضل الزمرة المناضلة من العاملين فيها (محررين ومذيعين وتقنيين).
والشعب المغربي يحتفل بعيد المسيرة الخضراء الخالدة في محطتها السابعة والأربعين ونحن نتحدث عن حضور الإذاعة الوطنية في تغطية حدث المسيرة الخضراء، لابد وأن نستحضر رجالا تركوا بصماتهم في تغطية هذا الحدث التاريخي، ومنهم الأستاذ محمد بنددوش، المرحوم الصحافي محمد الغربي من إذاعة طنجة، المرحوم بنعيسى الفاسي، المرحوم محمد جاد، المرحوم مجد عبد الرحمان ومحمد ضاكة، بالإضافة الى العديد من الصحافيين والتقنيين بالإذاعات الجهوية والإذاعة المركزية . كان هؤلاء الإذاعيون ضمن الصحافيين المغاربة الذين غطوا حدث المسيرة الخضراء انطلاقا مــن طنجة و وصولا إلى الصحراء المغربية لفائدة الإذاعة الوطنية. لقد كان للمسيرة الخضراء الفضل في نهضة جديدة بالنسبة للأغنية العصرية التي عرفت تراجعا في بداية السبعينات، والمسيرة الخضراء أيقظت مبدعيها فتألقوا في إنجاز أروع الأغاني . وكانت المسيرة أيضا نقطة تحول واضحة لبداية حديثة لإعلام مغربي مكتوب ومسموع ومرئي أخرجته من أسلوبه التقليدي إلى أسلوب جديد يعتمد المباشر والقرب والسرعة في نقل الخبر.
كانت المسيرة تجربة جديدة استفاد منها كل طاقـم الإذاعة وكان لها تأثيـر واضح في تغييـر وتطويـر أسلوب العمل فكان الانتقال والخروج من مرحلة كلاسيكية الى أسلوب جديد يتماشى والتطور الحاصل في إذاعات الدول الغربية. وكما قال المرحوم محمد باهي أحد الصحافيين المغاربة الذين واكبوا المسيرة الخضراء وغطوا جميـع مراحلها، ” ساهمت المسيرة الخضراء وبشكل مباشر في فك العزلة عن رجال الصحافة الوطنية، إذ برزت كفاءات جديدة، وتمكن كبار الصحافيين المغاربة من فرض وجودهم في مختلف المنتديات واللقاءات، والمنظمات والعواصم العالمية، دفاعا عن حق المغرب في تغطية أهم المؤتمرات والندوات العالمية.
لقد شكل هذا الحدث العالمي منعطفا للإعلام الوطني، إذ أوْلته الدولة عناية فائقة، فتمكنت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة من النقل المباشر لمختلف رسائلها ومراسلاتها من مدينة طرفاية التي جُهزت بمختلف الوسائل التقنية، واستطاع أزيد من 500 صحافي من أنحاء العالم أجمع التنقل ما بين مراكش وأكادير وطرفاية بكل سهولة لأداء واجبهم.” انطلقت المسيرة الخضراء ووصلت بسلام ، وهذه المسيرة مستمرة حاليا، تحت القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، بالعديد من الإصلاحات في مختلف المجالات، مع مواصلة مسيرة تثبيت وصيانة الوحدة الترابية للمملكة وإذكاء إشعاعها الحضاري كبلد للسلام والتضامن والتسامح والاعتدال والقيم الإنسانية المثلى . وأختم بالترحم على أرواح كل الصحافيين والتقنيين والفنيين والمصورين الذين واكبوا هذا الحدث الكبير والصحة والعافية للباقين على قيد الحياة وأتمنى أن يفكروا في تدوين وتسجيل تجربتهم الإعلامية المرتبطة بالمسيرة الخضراء، كما أوجه النداء إلى المسؤولين بحفظ وتوثيق أرشيف الإذاعة والتلفزة الوطنية وجعله في متناول الباحثين.