تازة بريس
طلائع الربيع بالنسبة لمدينة تازة تكون كغلالة حسن، إن أسدلت على كاعب بدت عروسا تفتن الناظر إلى تفاصيل الجسد، جاذبيتها تمنحها التفوق مع تقدم الزمن على جل العرائس، لا يضير تميزها توالي العصور عليها رغم ضغط المتغيرات.. تبقى هي المحافظة يذكي سحرها الأخاذ في قاطنها جذوة الشعر وجنون الكلمات، فيجد نفسه مسلوب الإرادة، مقتفيا خطوات الشعراء الذين مروا بها، وعبقوا عقول الباحثين فيها بأريج قصائدهم، يحاول النظم … تازة .. منظر عجيب .. يخلب اللب، ولوحة رائعة .. تزين صفحات الكتب، وإيحاءات تنبعث منها آهات ديونيزوس حية، من زمن كان السكر فيه والعهر والمجون طقوسا وصلوات، والمحاريب عرائش كروم وأنغام الناي فيها شاردة، استدرجت يطو إلى غور مغارة سحيق، عاشقة، لم يبق فيها العشق كبدا سالما، ولا كلية ولا نخاع، تازة صورة اختلفت في قراءاتها الأعين، الأعيان المجتمعون بمقهى الباشا بالمدينة العتيقة، رأوا فيها ما لم تستطع لمة المساطيل بكهف اليهودي رؤيته، هم في الأعلى رأوا بساطا مزركشا كزربية الفردوس مبثوثة منمنمة ممتدة على اليمين وعلى اليسار، ونتوءات جبال مرصوصة في الأفق البعيد، بادية للمتأمل كصوف كبش الميرينوس منفوشا، والوان زاهية موزعة بين الأشجار والنباتات تشد إليها الأرواح والأجساد معا ..
اما اهل كهف اليهودي، فكادوا يتقاسمون مع زبناء مقهى الباشا نفس الرؤية، لولا سرية الدرك المثبتة على يسارهم، ومنازل متناثرة بين أشجار سامقة، وحقول كَوَّث فيها الزرع على يمينهم، اتخذتها عاهرات بعن أجسادهن برخص التراب مأوى . هنا وجب الإشارة إلى ألفة تكونت بين عناصر من المجموعات الثلاثة، جعلت أمد الاطمئنان السائد في النفوس يطول ويطول، وسحب المخاوف في القلوب ترق وتتلاشى .. ناضحة بنور أمل لافح اشواك اليأس، تصرف كل واحد كأنه في بيت والديه، لا شيء يعكر صفوه .. وتوهجت شعلة النار .. فاستمرت تلتهم الحطب.. في نهم، وكانت تبقى في بعض الليالي. . كموقد خيام الجاهلية الاولى، يراها الغريب المستهام من بعيد .. نقطة حمراء.. في سواد ليل بهيم، يزيدها نور النجوم و ضياء القمر تلألؤا وجمالا ، واللهب يتراقص في التياع، والأيادي تدفع بالأعواد إلى الأثافي، كلما خبت النار، أو دعت الحاجة الى مزيد من الدفء.
كانت تصل خياشيم المار بالمحاذاة نكهة شاي أو قهوة، وعند تغير الشذا.. أو الأريج .. أو العرف، يستشف المتواجد بالقرب حركة لصوصية، كانت تصدر عادة من أحدهم تطال إما الدواجن .. او غلة بستان، وليعوض الله عجوزا فقدت بطتها او ارنبها، أو ثمارا من غلة أشجارها، الغريب في الامر ان البوليس .. وقتها لم يصل الى الكهف، البتة، في حين باغت رجاله في إحدى الأمسيات جمعا من الناس تواجدوا بالمقهى الوحيدة ببيت غلام رفقة مترجم جزائري، لولا ذكاء رواد المقهى الخارق لَزُجَّ بهم الى المخافر وقتها قصد التحقيق والسؤال، لكنهم تصرفوا بخفة.. فاخفوا اوراق اللعب تحت الحصير ورصوا الصف لإقامة الصلاة، جماعة وهمهموا، ومنهم من اطبق جفنيه مدعيا ورعا رغم بقاء القبلة خلف ظهورهم، وباب الدخول في الشرق كانت تشرئب منه اعناق رجال السلطة و تتطاول لتفحص الوجوه، هل فيهم مقاوما؟ .. نال خشوعهم احترام المداهمين خصوصا الفرنسيين، اما يقظة المترجم بقيت وفية لم تخنه، حرك شفتيه بابتسامة ممنوعة كان يكبتها كلما حاولت الإفصاح عن نفسها، ند عنها كشفه السر لكنه ولغاية ما في نفسه لم يتقاسمه مع اسياده .. أبدا.