في رحاب روح عاشق تازة الأستاذ عبد اللطيف الدقشي التازي رحمه الله ..
تازة بريس
عبد السلام انويكًة
واحد من أبناء تازة وذاكرتها التربوية، بتدفق عطاء وتميز ومكانة وهيبة وكاريزما خاصة كان ضمن نسق مدرسة ومدرِّسي المدينة منذ سبعينات القرن الماضي. بل قدوة وطاقة شامخة ببصمة ومقام ووهج كان ايضا وقد أسهم بما أسهم في حياته ضمن زخم جيل تربيةومدينة ووطن، عبر ما طبع شخصه من جهد وجدية واجتهاد بشهادة مساحة واسعة من تلامذته ورفاق دربه على امتداد زمن ذهبي حيث سبعينات وثمانينات وتسعينات القرن الماضي. ناهيك عما كان عليه من تفرد جوانب ذاتية وموضوعية وما نسجه من علاقات وإثارة وجدل وجذب في وسط تلاميذي واسع كان بما كان من تنشئة اجتماعية رفيعة وقيم وقدرة وتطلعات.
ذلكم هو الأستاذ عبد اللطيف الدقشي التازي رحمه الله الذي وافته المنية في مثل هذا اليوم والشهر من السنة الماضية، وقد ارتبط اسمه بالمدينة كأستاذ متميز رفيع لمادة الاجتماعيات لعقود من الزمن منذ سبعينات القرن الماضي، أولا بثانوية سيدي عزوز بتازة العليا لفترة معبرة في بداية مساره المهني، ثم بثانوية علي بن بري بتازة السفلى ثانيا حتى احالته على التقاعد. وبقدر ما كان عليه الفقيد من قمة تواضع شخص وأستاذ، بقدر ما طبعه من أخلاق وصفات حميدة فضلا عما تميز به من ضمير مهني بحس عال وحرص تربوي مؤسسي، وما طبعه ايضا من نبوغ وذكاء وموسوعية وتكوين علمي رفيع. ناهيك عما تفرد به من عمق مقاربة ونظرة وقراءة للأمور حول هذا وذاك، ومن غنى تحليل ونقاش وروح مواكبة وتكوين وتتبع لكل مستجد، ما جعلته بتقدير خاص وصدى وأضواء وتميز وشهرة ممتدة في الوسط التربوي عموما ومنه التلاميذي.
وغير خاف ما كان عليه جيل مدرسة الأمس وسلكها الثانوي خاصة من نضج وحرص على الطلب والأخذ، فضلا عما طبعه ايضا من حماس وروح تنافس شريف وقيم إنصات ودرجة وعي عال. ولعل ما كان عليه الفقيد رحمه الله في سنواته الأولى حيث بداية مساره المهني، من تدفق ونهج وأسلوب ومهارة تفكيك وتركيب ومعرفة وموسوعية، جعله بحضور وإسم مثير جاذب برمزية خاصة لدى تلامذته وهو ما لا يزال عالقا في ذاكرة كثير منهم. يكفي أن مساحة واسعة من غير تلامذته كانت تحرص بشكل مثير على حضور دروسه في مادتي التاريخ والجغرافيا، وما أدراك ما جدل وموقع وطبيعة هذه المواد خلال هذه الفترة من زمن المغرب والعالم، حيث ما هو شرق وغرب وفكر وقناعات وقراءات وانتماءات وتدافعات وتطلعات وغيرها. رغبة من هؤلاء التلاميذ في إغناء معارفهم ومكتسباتهم ودعم استعدادهم للامتحانات، من خلال استفادتهم من منهجيته في تقديم دروسه التي كانت بما كانت عليه من شهرة وعناية وتثمين وحديث هنا وهناك، سواء داخل المؤسسة أو خارجها بل حتى على صعيد المدينة ككل. علما أن هذا الحضور التلاميذي كان مسموحا به في حدود الممكن، وبحسب تقدير وطبيعة الأستاذ ودرجة قبوله وتفاعله مع رغبة هؤلاء. ولعل هذا النوع من الحضور كان من التقاليد التي طبعت حياة ودينامية وايقاع ثانوية الأمس، باعتباره دعما تربويا في عدد من المواد خلال هذه الفترة، خاصة منها مادة الاجتماعيات والفلسفة والفكر الاسلامي والأدب العربي، رغم ما كان يحدثه هذا الحضور والتتبع التلاميذي بهذه الدرجة من تزاحم. بل من التلاميذ في سلك الثانوي خلال هذه الفترة من كان ينتقل لهذا الغرض من مؤسسة لأخرى بعد تنسيق مع زملاءهم هنا وهناك، على أساس ما كان منتشرا من صدى وسمعة علمية تربوية وأسلوب اشتغال ومنهجية لدى أساتذة بالمدينة عموما بين هذه الثانوية وتلك، من قبيل ما كان يطبع ويميز فقيد تازة عبد اللطيف الدقشي.
وكم كان رحمه الله بروح تجاوب وتسامح وتفهم لرغبة هؤلاء التلاميذ وبنكران ذات، بل مما ميزه ايضا من سلوك تربوي متفرد ما كان يضعه رهن اشارة تلامذته من مؤلفات وكتب ومجلات باللغة الفرنسية والعربية، تلك التي لم يكن سهلا الحصول عليها لندرتها من جهة ولأثمنتها المرتفعة آنذاك من جهة ثانية. ما يعني أنه كان رحمه الله استاذا متتبعا مواكبا للأبحاث والدراسات والاصدارات العلمية، ولِما كان ينشر من مقالات عبر مجلات وطنية ودولية في مجال تخصصه”الجغرافيا”خاصة، إنما أيضا ما كان يخص قضايا تاريخ واقتصاد وسياسة وثقافة وفنون وغيرها. ولعل خاصية مواكبة الفقيد رحمه الله وعنايته بمستجدات مجال اهتمامه المعرفي والعلمي، ما كان يحضره معه دوما للقسم من وثائق وصور ومؤلفات وكتب ومجلات حديثة باللغة الفرنسية خاصة. مع اهمية الاشارة الى أنه كان يعتمدها ويستثمرها ويدمجها في تقديم دروسه لإغناءها، قبل وضعها رهن اشارة تلامذته للاطلاع عليها وتفحصها عن قرب. كله أثاث وصورة طبعت ورافقت عمل الفقيد ودروسه، ما هو غير خاف عن ذاكرة كثير من تلامذته سنوات نهاية سبعينات ومطلع ثمانينات القرن الماضي قبل نظام الأكاديميات.
من هنا ما أسهم به من موقعه كأستاذ، وما كان له من أثر معبر في التنشئة على القراءة والثقافة والانفتاح على الكتاب في صفوف تلامذته، وما كان عليه من اطلاع وتمكن رفيع من مادة تدريسه (الاجتماعيات)، التي كان فيها بميز خاص جعله يسرق الأضواء والحديث والاهتمام على مستوى ثانوية سيدي عزوز بداية، حيث حضي بما حضي من هيبة وتقدير وشعبية وصدى كبير على صعيد تازة لسنوات وسنوات. ويسجل للفقيد رحمه الله أنه كان بعمق نظرة وقراءة وتبصر في حديثه ومستوى نقاشه وتناوله وتحليله، سواء تعلق الأمر بتخصصه أو ما تعلق بقضايا ذات علاقة بما في ذاك ما هو منهجي بحثي. ويشهد له كثير من رفاق دربه واقرانه منذ فترة دراسته بسلك الاعدادي والثانوي وعلى امتداد فتره طلبه الجامعي، بما كان عليه من ذاكرة حفظ قوية وقدرة ذكاء عالية ونبوغ جعله بتفوق طيلة مساره الدراسي.
لقد كان ابن تازة وذاكرتها التربوية هذا، بشخصية قوية متعففة وطبيعة حديث مؤثر وذوق رفيع وحب خاص للحياة ولكل ما هو جميل من موسيقى ورياضة وسفريات وقراءات وهندام ونوع لباس وجدل رفيع مؤسس، ناهيك عما كان عليه من ثقافة فنية واسعة خاصة ما هو سينمائي بحيث كان بذاكرة خاصة حول جميع ما هو دولي ووطني في هذا المجال، بحكم ما كان عليه من تتبع ومكتبة سينمائية وعشق لفرجة هذا التعبير الفني، ومن ثمة ما كان عليه من إلمام بعالم السينما وأعلامها وانتاجاتها ومدارسها وتجاربها خاصة منها العالمية. مع أهمية الاشارة الى أنه كان يتوفر رحمه على مكتبة خاصة رفيعة نوعية بما كانت تحتويه من كتب ومؤلفات ودراسات، مساحة معبرة منها كانت عبارة عن أطروحات جامعية ومؤلفات منها من كانت بنسخ نادرة بل بثمن عال لم يكن في المتناول آنذاك. ويسجل في هذا الاطار أنه كان يتوفر مثلا على كتاب”الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية” لعبد الله العروي باللغة الفرنسية بمجرد ظهور طبعته الأولى رغم خيالية ثمنه آنذاك، ناهيك عن باقي مؤلفات هذا المؤرخ من قبيل كتاب”تاريخ المغرب محاولة في التركيب” وغيره كثير. ولنا أن نتخيل ماذا يعني الاطلاع على مؤلفات بهذا القدر من المقام الفكري الرفيع المستوى، وماذا تعني هذه العناوين وغيرها في خزانة أستاذ سنوات الثمانينات والتسعينات. وثائق ومؤلفات كثيرا ما طبعت شخصية الفقيد التربوية، ومن خلالها طبيعة دروسه وغنى معارفه فضلا عما كان عليه من هيبة لدى تلامذته، عندما كان يظهر من بعيد دوما مرفوقا بحزمة منها ونتحدث هنا عن فترة ذهبية طبعت مدرسة ومدرسين ومتمدرسين نهاية سبعينات وفترة ثمانينات القرن الماضي.
جدير بالاشارة الى أن فقيد تازة هذا رحمه الله، كان من القراء المهتمين المتتبعين لكل جديد من الاصدارات. وعليه، ما كان عليه من تردد على المكتبات هنا وهناك على مستوى تازة وخارجها. بل من العاشقين المثمنين الرافعين لشأن البحث العلمي عموما والأبحاث والباحثين، فكم كان يفخر بأسماء وخطوط تحرير ومقاربات وتجارب بحثية مغربية عن رواد مجد الجامعة المغربية، ليس فقط ما يخص تخصصه واهتمامه من تاريخ وجغرافيا بل ايضا عالم تخصصات أخرى كانت ذات سلطة خاصة من قبيل الفلسفة وغيرها. دون نسيان ما كان له من شغف جمع نصوص حول تاريخ ومجال تازة وتراثها وأعلامها وكذا ذاكرة قبائلها سواء بالعربية أو الفرنسية، بل كثيرا ما كان يسعد رحمه الله بصدور أعمال بحثية حول مدينته وعيا منه بما كانت عليه من حاجة ونقص. وخاصة عندما تكون هذه الاصدارات نتاج جهد ومبادرة من أبناء تازة عموما وممن يكونون قريبين منه وعلى اتصال وقرب منهم، بحيث بقدر ما كان يغمره من شعور بفرح مضاعف بقدر ما يعبر عن تحفيزه وتثمينه من أجل مزيد من العطاء والتنوير والشجاعة الأدبية والإقدام والتنقيب والبحث، من خلال تعبيرات رافعة مشجعة تميز بها وكثيرا ما كان يرددها، بقوله باللغة الفرنسية ما يعني”دائما الى الأعلى” دائما الى القوة” “دائما الى الأبعد”.
وعلى اثر ما كان عليه من علاقة وثيقة ببعض زملاءه الباحثين من أبناء تازة، وجد نفسه منخرطا متأثرا دون شعور وسط نبل عمل بحث ودراسة وكتابة وتأليف وترجمة، بانفتاحه رحمه الله على تيمة نصوص عدة تاريخية ، خاصة منها ما ارتبط بزمن الحماية الفرنسية على المغرب. من خلال ما كان بصدده خلال السنوات الأخيرة من مساره المهني، من اشتغال على ترجمات قطع فيها اشواطا هامة، وقد احتضنها بكل عزيمة وقوة وإرادة وحماس خاص مستفيدا مما كان عليه من تملك عال للغة الفرنسية ومن قدرة تعبير راق بها. الا أن ما اعتكف عليه وخصص له ما خصص من وقت وجهد وتطلع، وما كان يرومه ويحلم به من إصدار لكتاب حامل لإسمه مؤثث لخزانة تازة التاريخية والثقافية والتراثية الرمزية، لم يكتمل مع الأسف الشديد عندما اضطرته ظروفه للتوقف تحت ضغط انشغالات وسفريات، وخاصة عندما طوقه وحاصره المرض وبدأت أحواله الصحية تجعله بهواجس وعياء نفسي.
هذه هي روح الأستاذ عبد اللطيف الدقشي الذي وافته المنية رحمه الله في مثل هذا اليوم والشهر من السنة الماضية، أحد علامات تازة المشرقة وواحداً من ألمع أطرها التربوية وقد جمع في حياته بين ثقافة موسوعية واتقان للغتين العربية والفرنسية، فضلا عن تكوين علمي تخصصي رصين كخريج عن سنوات مجد الجامعة المغربية أواخر سبعينات القرن الماضي. بحيث كان أول طالب جامعي رسمي بل الوحيد الذي التحق بسلك الدراسات العليا آنذاك تخصص جغرافيا بكلية الآداب والعلوم الانسانية بفاس بعد حصوله على شهادة الاجازة بها. وقد شاءت ظروفه الخاصة أن توقف متابعته لمساره البحثي بالسلك الثالث، ليلتحق بالتعليم كأستاذ بالثانوي سنوات السبعينات حيث أفنى زهرة عمره مدرسا بثانوية سيدي عزوز أولا ثم ثانوية علي بن بري كآخر محطة الى أن أحيل على التقاعد، لينفتح في تردده من حين لآخر على مدينة وجدة قبل ان يرتبط ويستقر بها لظروف خاصة ويقضي بها آخر أيامه وسنوات عمره. دون انقطاع اتصاله بعدد من زملاءه بتازة ممن كان يشعر معهم بروح صدق ومحبة ووجدان وتقاسم فكر وزمن واهتمام وصفات حميدة واخلاق، بحيث ظلت علاقته معهم قائمة منتظمة حتى فترة أخيرة من حياته عندما تعقد وضعه الصحي وغاب خبره رحمه الله تعالى.
بتواضع قل مثيله ونكران ذات ولطف وجميل صفات كان شخص الفقيد رحمه الله، مترفعا قنوعا عفيفا خلوقا بحس ووجدان وروح كرم وقلب رحيم. يشاء القدر أن يلبي دعوة ربه بعيدا عن مدينته التي عشقها حتى النخاع منذ طفولته، وكان بارتباط خاص بها في حياته ولم يكن ينوي يوما فراقها والعيش في تراب غير ترابها ضمن مشهد غير مشهدها وذاكرتها وهويتها. يشاء القدر أن يرحل هناك بوجدة إلى دار البقاء بعد معاناة مع مرض لم ينفع معه علاج، ويشاء القدر ايضا أن يرحل محفوفاً برعايته تعالي، مشمولاً بحب وتقدير من عرفوه وعايشوه وجايلوه كأستاذ ومثقف وتربوي وباحث وانسان..، سلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيا، اللهم ارحمه برحمتك الواسعة واسكنه فسيح جناتك يا ارحم الراحمين يا رب العالمين.