تازة بريس
عبد الاله بسكًمار
تدور علينا الأيام ولا نقدر أن ندور عليها، فهي الأذكى ونحن السذج والضعفاء وهي الأقوى، ندور ونلهث ونتهافت ونحبط ونستقوى، نتعالى ونتفاخر وما ندور إلا حولنا، دائرة الأيام تدور ولا ندرك للمتاهات بداية ولا نهاية” بهذه العبارات الشاعرية والفياضة النابعة من قلب فنان يتحسس مكامن الألم والأمل وأيضا منابع الجمال في الحياة والذي سرعان ما تبدده سخافاتها وتفاهاتها أحيانا كثيرة، وجدان مرهف يتأرجح مع تعرجاتها المختلفة صعودا ونزولا، يحلي الفنان والمخرج المسرحي والسينمائي المخضرم نور الدين بنكيران غلاف كتابه الجديد ” بالأبيض والاسود”الصادرفي طبعة أولى عن دار لنشر بالدار البيضاء (2022)، ونفس الاستهلال المرير يقدم به ذات الكتاب وهو المؤلف الثالث في جعبة صاحب السيرة، بعد كتابين آخرين هما ” خيط من دخان الذاكرة أو الطفل الذي..” الصادر سنة 2014 ثم مؤلف”بين بحر ومولد حلم” الذي صدر سنة 2017 .
كما هو واضح من ميثاق عنوانه فمؤلف ” بالأبيض والأسود ” عبارة عن سيرة ذاتية، يحكي عبرها الفنان وبتلقائية فريدة من نوعها تقترب من فن الارتجال فصولا هامة من حياته سواء تلك التي عاشها بين أحضان مسقط رأسه مدينة تازة، أو التي قدر له أن يتنسم هواء بعض محطاتها بمدن وفضاءات أخرى كالرباط والدار البيضاء، صعوبة السيرة الذاتية تتأتى من طبيعة البوح ومدى صدقيته وتمفصلاته النفسية والموضوعية .
عنوان الكتاب توصيفة جميلة للسيرة إياها فالأبيض يشير- كما أتصور- إلى لحظات الصفاء والهناء والتوازن الداخلي، مقابل الأسود الذي يحيل على فترات قاتمة في حياة السارد كما لا يخفى، خلفت جراحا عميقة لم يلتئم بعضها لحد الآن، كما جاء في المؤلَّف الذي يقع في مائتين وستين صفحة ( 260) من القطع المتوسط، وتعبر لوحة الغلاف بريشة الفنان التشكيلي صلاح الطيبي عن نفس المنحى ولكن عبر الشكل المعتم المخترق بنتوءات وشبه خطوط ملتبسة هنا وهناك وتتوسط اللوحةَ أقواس متداخلة وسط العتمة إياها، في حين تعلو المجال مساحة بياض تتخللها نافذة تبدو قديمة وشبه مفتوحة، وفي هذا ما فيه من إحالة على عتمة دروب وأزقة تازة وما تخفيه من أسئلة ومتاهات، وهذا ما يتساوق تماما مع ثنائية الكتاب ” الأبيض والأسود ” وقد توفق الأستاذ نور الدين في اختيار لوحة الغلاف تلك، لأنها تضيف دلالات وأبعادا جمالية ولمسات فنية بديعة، تؤثث العنوان والغلاف جميعا، باعتبارهما عتبتين أساسيتين لأي قراءة ممكنة في الكتاب، كيفما كانت مرجعياتها أو أدوات اشتغالها، وهكذا، فاستنطاق لوحة الغلاف لا يقل إثارة ومتعة فنية عن قراءة محتوياته وتحليل أحداثه أو شخصياته ومضامينه ومواقفه .
شبه الجملة المثيرة التي تتصدر العنوان”بالأبيض” تشير بداهة إلى جزء كبير من محتويات الكتاب : مشاهد دالة– أحداث عامة وخاصة– مواقف مؤلمة ومسلية وبين الفصول الأربعة والتسعين ( 94 ) التي يتألف منها الكتاب هناك فصلان يحضر فيهما العنوان ذاته: الفصل السادس / صور بالأبيض والأسود، ثم الفصل الرابع والتسعون أي الأخير/ حياتي بالأبيض والأسود، حيث إن الفصل السادس مثلا يقدم لوحة من طفولة الكاتب لما تاه عن أمه بعد أن أنزل من الحافلة إثر خوفه الشديد من ضوضائها وازدحام بشرها، تبعا لركوبه أول مرة فيها صحبة أمه، التي كادت أن تفقد صوابها حين اختفى إبنها الصغير، وفي نفس الفصل يقدم لوحة مختلفة عن جمالية بعض الأماكن بتازة وحالة الأسرة والأم التي كانت تشتغل في الأعراس ك”نكافة ” في حين اشتغل الأب في جوطية تازة فالوضع الاجتماعي للسارد كان في غاية التردي لا يخفى.
كون الكتاب يشتمل على كل تلك الفصول عبر عدد الصفحات المذكور آنفا، معناه أن كاتبه الذي يسرد بضمير المتكلم وهو نفسه نور الدين بنكيران الفنان واللاعب على الركح والمخرج والإنسان أيضا، معناه أن كاتبه لديه الكثير مما يمكن أن يبوح به في هذه السيرة الذاتية، والتي من شروطها الأساس كما سبقت الإشارة الصدق مع النفس ومع الآخرين، وهو الشيء الذي تحقق فعلا من خلال أكثر وقائع ومواقف وشخوص تلك السيرة (وهم شخوص واقعيون أيضا نعرفهم جيدا أو الأقل نعرف بعضهم )الشيء الذي يتطلب جرأة غير سهلة المنال وليست في متناول الجميع، ولعمري لقد توفق الأخ نور الدين مرة أخرى في تملك ذات الجرأة وفي الإدلاء بشهادات صادمة أحيانا وعبر أحيان أخرى قد يلجأ الفنان السارد وبتلقائيته الفذة إلى التعميم دون التخصيص والتشخيص، ويحضر ذلك في التعاليق والانطباعات المختلفة، ربما تجنبا لمنطق التجريح خاصة وأنه عايش معظم شخصياته ولقي من بعضها الثناء والتشجيع، في حين لم يلق من آخرين سوى الجحود الذي يصل إلى مستوى الحقد الأعمى دون سبب محدد، اللهم إلا ما كان من حساسيات وتجاذبات نفسية تافهة، وكان رد فعله الترفع عن تلك الدنايا والتفاهات التي عرف بها كثير من البشر .
ذات صبح مشرق تزامن مع يوم أكثر إشراقا هو 16 نونبر 1955 وبالمستشفى العسكري الفرنسي بتازة كانت الصرخة الأولى لكائن وهبه الله فيما بعد موهبة الارتجال والأداء والتمثيل على الركح ثم الإخراج والكتابة لفترة تزيد عن نصف قرن، ذلكم هو الفنان نور الدين بنكيران، وكان يوم مولده طالع يمن وخير فعلا وواقعا، ذلك أنه نفس يوم عودة المغفور له السلطان الوطني المجاهد محمد بن يوسف/ محمد الخامس رحمه الله إلى عرشه من المنفى السحيق ومن ثمة، إعلان انتهاء عصر الحجر والحماية وبزوغ عهد الاستقلال والحرية، أو كما عبر عن ذلك المغفور له محمد الخامس”عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ” وهو يقصد بالطبع تحديات بناء الاستقلال والقضاء على التخلف ورواسب الاستعمار البغيض.
لم يقتصر طالع اليمن والسعد على البعد الوطني عند مجيء الفنان نور الدين إلى هذه الدنيا، كما جاء في الكتاب بل شمل البعد العائلي لصاحبه، فقد تم إطلاق سراح والده المعتقل ظلما وعدوانا ” كنت السبب في خروج أبي من السجن بسبب السيبة التي كانوا يعيشونها في زمانهم، اعتقل أبي وبعض من رجال دربنا لا لسبب أو لجرم اقترفوه ” ص 7 ولا بأس أن يسرد الكاتب قصة أخرى جانبية في الحقيقة، لكنها متزامنة مع كل هذه البشارات وتتمثل في قدوم أسرة لتعيش في نفس دربهم، أي دار جده قرب زاوية مولاي الطيب، زوج وامرأته وبنت رضيعة من ضواحي المدينة وبعد مرور سبعة أعوام، تتطور الأمور وتلتحق الطفلة بالمدرسة كحال أبناء الدرب الذين يعيشون كأسرة واحدة، وتأتي فجأة شابة من الضواحي تطالب بتلك البنت ليحدث هرج ومرج بينها وبين أسرة التبني ويصل الأمر إلى الباشا السملالي(مولاي ابراهيم ) فتطلَّب الإشكال الالتجاء إلى الشهود الذين أثبتوا فعلا أنها إبنة الشابة المعنية وقد تسلمتها الجارة يوم ولادتها مقابل مبلغ من المال، لأن الطفلة جاءت إلى هذا العالم نتيجة حمل غير شرعي، فكان كل من الخوف إزاء بطش الأسرة والقبيلة وكذا العوز وعدم القدرة على التكفل بها وراء عملية ” البيع ” هذه، ورغم أن سياق القصة لا تربطه علاقة مباشرة بسيرة الكاتب إلا أن خصب ذاكرته الطفولية والتنويع الجميل على الأحداث والمواقف أضفيا على السرد غنى في تلك الأحداث وعمقا في القيم والأبعاد النفسية والاجتماعية التي تحيل عليها.
وتتدرج طفولة السارد فكان الالتحاق ب”المسيد”أي الكُتاب كما هو الشأن بالنسبة لأبناء الجيل بكامله، كان الفقيه هو الشريف اليعقوبي والفضاء هو المسيد الذي ظل قائما بزنقة القزدارين/مدخل زقاق الحاج ميمون إلى عهد قريب، وهنا تطالعنا أسماء وفضاءات تؤثث الحكي وتمنحه تميزا محليا خالصا، فمن هذه المسالك نتجه جنوبا نحو ما كان يسمى بالفوقيين أو الحي الجنوبي الذي يشمل العديد من الأزقة والدروب الموصلة وغير الموصلة كزقاق الحاج ميمون والزاوية اليجبشية وزنقة سيدي مصبح ودار المخزن والأندلس فضلا عن المشور وزقاق الوالي وباب الشريعة ويفيدنا الكاتب نور الدين بأسماء ورموز تازية عاشت بين أسوار ودروب هذا الفضاء، وطواها الزمن فيمن طوى ولله الأمر من قبل ومن بعد، إنها أسماء حرفيين وتجار ظلوا يكدحون طيلة حياتهم من أجل العيش البسيط الكريم : لمعلم عزوز لقصيور-المعلم محمد اللحام / الكواي – محل بائع الإسفنج والحلويات للشريف اليعقوبي ، بائع السمن والعسل الحاج الصفار – النقش على الخشب للمعلم محمد ولمعلم العيساوي السكراتي الحلاق الماهر إلى جانب صاكة الحاج التهامي بوصفيحة وهناك مقهى شعبي عند نهاية الفضاء امتلأ به خيال الطفل نور الدين وهو يتوجه ذاهبا وآيبا من وإلى الكتاب .
ثمة تساؤلات مرعبة للطفل الصغير وهو يلتحق بالمسيد ويفارقه أبوه أول مرة، ليتركه في يد الفقيه مع العبارة الأثيرة ” أنت تذبح وأنا نسلخ “، ولماذا الذبح والسلخ أصلا والمستهدف جسد غض طري ما زال يتفتح أمام الحياة بكل عنفها وصخبها وأيضا لحظات صفائها؟ . من درب للا العالية اليجبشية (الولية الصالحة كريمة الصوفي المجاهد امحمد بن عبد الرحيم بن يجبش التازي) إلى القزدارين مسافة إبداع وركح متجدد ين ومتلازمين، ومع ذلك وصف الأخ نور الدين الفقيه بالطيب الحنون رغم الحمولة القدحية التي حملناها عموما لفقهاء المسيد، لم تتعد قسوة المعني بالأمر حرصه على الأطفال أن يحفظوا الآيات البينات، يكتبونها على الألواح وما يتبع ذلك من صمغ ومحو بعد الاستظهار، ولا ينسى أن يذكر القراء ب” التحريرة ” وهي عطلة يوم الجمعة التي يتمتع بها الطفل بنكيران مع باقي الاطفال، بعد أن يمده بعشرة ريالات تسلم للفقيه إثرتقبيل يده، أما إذا أخذته سنة أو نوم خفيف أثناء استظهاره للأطفال فيستغل هؤلاء هذه المناسبة الجميلة ليقلبونها لهوا ولعبا، حتى إذا استيقظ الفقيه فجأة، فإنه يجهز غالبا على أحدهم بتحميلة ساخنة باذخة، ذلك كان ديدننا كجيل كامل، وهذا جزء أو مفصل أساسي من طفولتنا وذاكرتنا الموشومة، لم نك نفقه شيئا مما نحفظ، والمجتمع المغربي ككل وقتذاك إلا فيما ندرتحكمت فيه عادة إرسال الأطفال إلى المسيد، بدل الرياض أو النوادي أو مؤسسات التربية ما قبل المدرسية، وقد درج عليها منذ أجيال، أما الطرق والوسائل والمحتويات فهذا مسار ثان مدلهم بتموجاته وضرباته الموجعة والتباساته.
يتابع نور الدين بنكيران الحكي بكل واقعية وتلقائية وكأنه يحكي لقارئ يعرفه منذ زمان أو إخاله يسرد وقائع طفولته وصباه لأهل تازة ببساطة لأنه يعرفهم على وجه العموم ويعرفونه، وخاصة تازة العتيقة، أليست هي مسقط رأسه ومنبت غرسه وفضاء تعلمه ولعبه ونموه الجسماني والثقافي وصولا إلى اكتشاف أبي الفنون وسحر الركح وآداء الأدوار؟، ويعود الفنان الصغير إلى بيت جده قرب زاوية مولاي الطيب غير بعيد عن درب للا العالية اليجبشية، ويربح مرحلة أخرى من البؤس والفقر اللذين عاينهما وعاشهما بكل تفاصيلهما، بما في ذلك الحرص على البون وهو عبارة عن مساعدة عينية كانت تقدمها الحكومة الأمريكية لبعض الدول الفقيرة أو المتخلفة وعبر الحكومات المحلية إلى حدود أواسط سبعينيات القرن الماضي .
ويلتحق السارد بمدرسة باب الزيتونة مع معاناته من صعوبة في التأقلم النفسي نتيجة حالة الانطواء التي غلبت عليه ويمرض الوالد ويتوفى عبر استمرار نفس الظروف المزرية للأسرة وقد تخللها أيضا مرض أخيه حمزة المتمثل في الصرع وعطالة الإخوان والتي زادت المعاناة أضعافا مضاعفة على الجميع، وتقتحم كل ذلك بعض الأحداث الكبرى الفاصلة كوفاة الملك محمد الخامس وحالة الحزن التي شملت ساكنة تازة وليالي الشتاء التازي الباردة ولا ننس إدمان السارد على قراءة القصص التي كان يكتريها بعشرين سنتيما ( أربعة ريالات لا تزيد ولا تنقص) وتكراره للسنة الثانية ابتدائي، وكان اختياره للعب دورالفنان عبد الرؤوف ( عبد الرحيم التونسي ) في مشهد مسرحي قدمه التلاميذ لمناسبة عيد العرش أول محطة من نوعها في التعرف على الركح من طرف صاحبنا، كان الأداء جيدا نال استحسان الحاضرين من أساتذة وعموم الجمهور وحصل بعده على أول أجرأو مقابل مستحق ويتمثل في درهم من طرف أستاذته وخمسين فرنكا من طرف أستاذه، إذ اعتبر ذلك تشجيعا جميلا منهما وعبرهما من الجمهور الذي تفاعل بشكل جميل مع العرض
دور عبد الرؤوف ذاك شكل في الحقيقة بداية البدايات لمحطات الركح المسرحي لدى الفنان نور الدين، بل لنقل في أقل مفرز أنها بداية اكتشاف الركح وسحر الخشبة وجاذبية الفن المسرحي الذي ينعت عن صدق بأنه أبو الفنون، ولكن قبل ذلك لابد من الإشارة إلى استمرار تردي الوضع الاقتصادي والمادي للعائلة، حتى فكر القوم في بيع البيت الكبير بمولاي الطيب، فعاشت الأسرة ما يشبه التشرد بين عدة دور وأماكن إقامة، وحدث أن اقترح أحد أبناء عمومة الأخ نور الدين على والدته أن يأخذوه إلى الرباط العاصمة ليواصل دراسته الابتدائية كتلميذ نصف داخلي فوافقت أمه على الفور، لكن بعض المشاكل الصغيرة عكرت مزاج الصبي إلى حد ما ومنها تبوله اللاإرادي في الفراش، فأصبح أمره محرجا إلى درجة أنه اتهم أبناء عمته بذلك وفي محاولة لستر الأمر، كان يخرج باكرا ويحاول محو أثر البول ولكن هيهات، وبعد هذه المحطات التي تخللتها بعض المواقف الساخرة، عاد الصبي إلى مسقط رأسه تازة ليكتشف في نفسه سحر الحكي الذي أضيف إلى الانبهار بجاذبية الركح .
من مشاهد تازة وشغب أطفالها وأقله مطاردة من أتعسه الحظ فيها وانزاح عن النسق المنطقي كما هو متعارف عليه نظير ادريس باكورة والشريفة وإيرجو والطاس والجح وغيرهم، ومن دار الشباب القطانين كان المنطلق الفعلي والميداني في عشق المشاهد والخشبة وتأثيث الركح المسرحي مع تأسيس فرقة الشعاع التي ضمت بعض أصدقاء الفنان من أبناء زقاق الوالي، وزاد في تخصيب التجربة الفتية إدمانه على الروايات الإذاعية وخاصة الاستكيتشات الهزلية لعبد الرؤوف وغيره كل يوم سبت أي خلال السهرات الأسبوعية المنظمة من طرف الإذاعة الوطنية .
ومن فضاء دار الشباب القطانين تنثال على ذاكرة السارد أسماء ورموز رائدة في المجال المعني: جمال الزكموط- علي بن حدوش -محمد بروال- محمد العوفير- قويدر الزرهوني- الأزرق مصطفى سلام- محمد بلهيسي – الزياني، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وعبر هؤلاء وغيرهم تشرب الفنان نور الدين قواعد وأصول وعناصر الأداء المسرحي بشكل عام” علمت حينها أن جل هؤلاء ينتمون لفرقة اللواء المسرحي بتازة (تأسست سنة 1964) فكانوا قادتنا وبهم نقتدي” ص 51 هذا علاوة على مطالعاته في النصوص الإبداعية واحتكاكه بتجارب عدة على رأسها تجربة المسرح الاحتفالي الذي نظر له وأسسه ثلة من المسرحيين المغاربة كالطيب الصديقي وعبد الرحمان بن زيدان وأساسا الكتابة المسرحية المتميزة لدى عبد الكريم برشيد إضافة إلى نصوص عبد الحق الزروالي، وتستمر المسيرة المتألقة حتى أصبح إسم الفنان نورالدين مقترنا إلى جانب آخرين بالمسرح في تازة .
لابد من التذكير أيضا بالمدرسة الفريدة التي تاسست بتازة وأبطالها مجموعة من النقايمية ورجالات المدينة كالطيب الستيني وأخ السارد نفسه عبد القادر بنكيران ونوادر عبد اللطيف بناني المعروف بدودو غوال وامحمد النوالي والوالد الحاج ادريس بسكمار ومحمد بنكيران ومحمد بناني وغيرهم رحم الله الجميع، وقد أخذ السارد منهم الشيء الكثير والأمر يكاد يكون مدرسة تازية متميزة كما ذكرنا آنفا، وتتكاثف الأحداث من جديد ويتواصل العشق المسرحي بثانوية ابن الياسمين لكن الوجه الآخر للعملة لم يك مضيئا بالمرة فقد رسب السارد مرتين في السنة الرابعة ( التاسعة إعدادي حاليا ) مما أدى إلى طرده من الدراسة فكان الحدث مفصليا في حياة صاحبنا، وتأتي المشاركة في المسيرة الخضراء لاسترجاع الصحراء المغربية كنوع من الترياق أو العزاء الضمني على هذه الإخفاقات وفي كل مرة ” كنت أرجع بقوة لأعانق وأرتمي في أحضان معشوقي المسرح بفضل خالقي” ص 222 .
كانت محطات أبي الفنون عديدة إلى درجة أنها ارتبطت بحياة السارد ارتباط الخلايا العضوية : الستار الذهبي – اللواء المسرحي – مسرح التأسيس – مسرح الفوانيس والمسرح البلدي، وامتد الإشعاع الفني نحو خارج الوطن من خلال مهرجانات ومحطات أخرى أغنت تجربة الفنان ومنحتها أنفاسا جديدة متجددة في كل مرة وعبر إحدى تلك المحطات، آذن رحيل الأم ففقد السارد دعامة نفسية وروحية لا تعوض، ولكن أب الفنون منحه عزاء غريبا فواصل الرحلة المتألقة حتى بعد تخرجه من معهد تكوين الممرضين/ ت بفاس واشتغاله بالعديد من المستشفيات والمستوصفات بتازة وبعض المدن الأخرى كمكناس .
المحطات المسرحية إياها امتدت من تونس إلى ليبيا ومصر فالعراق ثم فرنسا وألمانيا وفي كل محطة تختمر تجربة متجددة على مستوى الفن الراقي إلى لقاءات وتفاعلات بناءة مع العديد من الوجوه المسرحية تاليفا وأداء وإخراجا، ومن العناوين البارزة التي نالت إعجاب الجمهور : القطار والمدينة – عرس الأطلس – الماء والقربان – عروة يحضر زمانه ويأتي – وغيرها من الإنجازات الفذة ولا ننس المشاركات في أعمال فنية لكل من فريدة بورقية شفيق السحيمي وسعيد الناصري وكانت الحصيلة العديد من الجوائز القيمة ومحطات التكريم سواء بين ركح تازة أو خارجها، ليفتح الفنان أفقا آخر من بوابة المسرح ألا وهو الإخراج السينمائي المصحوب بالأداء ورغم أن الأمر لا يخلو من صعوبة فقد اقتحمه صاحب”بالأبيض والأسود” مما طبع التجربة ككل بميزة المغايرة والغنى والتنوع، دون أن نغفل عن فسحة التأليف والكتابة التي فتحها الفنان نور الدين ومن ذلك الكتاب الحالي”بالأبيض والأسود” والذي حضي بتوقيع وقراءات ربيع السنة الجارية بمناسبة افتتاح أنشطة نادي المسرح والسينما بتازة العتيقة .
* رئيس مركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماي التراث .