تازة بريس
في عزوبته، كان يفترش حصيرا من الحلفاء وحنابل من الصوف، على فراء أضاحي أعياد وجدها جاهزة على مسطبة في عمق الغرفة، راكمتها السيدة الوالدة هناك،للعودة إليها في مناسبات معينة. كان زهيد الأجر وقتها لم يتعد العشرين فرنكا للساعة، أجر عادل في نقصانه أو زيادته، لا تقفز حركاته في بورصة الزلط عن فرنك يتيم، عشرون سنتيما بلغة الحاضر، حجباها انهيار الدرهم وارتفاع التضخم عن أي تداول، توارت رويدا رويدا عن الأعين و طوى زمانها كزمان غيرها النسيان.. مع ذلك، بقي وطنيا رغم كل ما عاناه و ما كابده من هم، غيورا حرا جسورا قلبا فياضا بحب العرش فيض البحور في مدها الشتوي.. أكرمه الله بفطيطم زوجة، دخلت عليه دخول مصباح الدجى على مشكاة كئيبة بدير مهجور، عكست آية الليل عنده إلى نهار بفضل حنكتها الموروثة عن أمها، بددت بها ظلمات العوز في بحره اللجي المتلاطم، ما كان مطبخه سيدفأ بآنية أو يظفر بطبق يجمع فتات طعامه لولا أناملها.. شانها شان النساء البرنوسيات القديمات العهد كانت تجيد كل شيء ، الخزف، الصوف، الحلف، الدوم ، القصب. جلبابه، برنسه، كانا من غزل ونسج يديها. لحافه، أغطيته، طربوشه الذي وقاه قر الشتاء وحر الصيف، جواربه التي خففت عنه عذاب حداءه المتهالك، كل شيء في البيت كان من انجازها هي ..فضلا عن أنوثتها التي أنسَتْه فظاظة العيش، أٌنْسُها، صبرها ، تفانيها، جعلوا الحصير وثيرا والبركة مضاعفة في كل شيء. الصناعات التقليدية لنساء قريتنا كانت كالنياشين على صدر ضابط.. ترفع شانهن، تجعلهن مطلوبات عند الأعيان كبار القوم ..
كان معدما لا يملك شروى نقير لكنها أحبته، أحبت فيه شموخه، مروءته، رجولته، هل قلت أحبته ؟ وهل كان للأنثى فجر الاستقلال وقبل حلكة الاستعمار الحق في حب؟ أو كانت لها حاجة له ؟ وهل ما أكتب ؟ هو كالشعر ؟.. أحلاه أكذبه؟ أم كان هناك استثناء عند بعض الأسر ,؟ كلا .. كثيرات حرمن من حقوقهن، فيهن من وئدت لا لسبب سوى لحرمانها من الإرث..أو من طلقت لأتفه الهفوات، أو من أعدمت بسبب إبريق شاي نقصه السكر. أي زلة كانت تستوجب هجرها البيت، لتحل محلها أخرى، لهذا .. من الأفضل الكلام عن الأخلاق و حسن التربية أو تقديس رابط الزوجية عند الأنثى القروية دون إيقاظ مسالة الحب كي لا يرق قلبي و تقضأ عيني حسرة من شدة الظلم ..كن على علم بالعواقب الوخيمة التي تنتظرهن إن هن أهن الشوارب الكثاث بإحراجهم أمام ضيوفهم النبلاء.. لفترة طويلة ساد صمت رهيب عن الحقوق كاد يكون سمفونية جور خالدة سكنت الضعف. مع ذلك.. بقيت روابط الأسرة متماسكة، أشياء خفية ضمنت لها الدوام و البقاء، الأزمات؟ الحاجة إلى الآخر؟ ربما الخوف. اجل الخوف من البقاء وحيدا، أو ربما الدين.. حين يستطيع الواحد مع الأنثى إما الظفر بنصفه أو هجره بالمرة. فطيطم كانت من عائلته، ماهرة في كل شيء.. لذلك نجحت علاقتهما، الأصل كان للعائلة، و الاختيار للآباء . أعطينا بنتكوم لولدنا.. وما يضير الشجرة الكبيرة زيادة غصنين او ثلاثة ؟ كان أجره زهيدا لا يغري طفلا صغيرا بالأحرى رب أسرة تزوج ليكون له عيال، لكن الوهاب منحه قوة تحمل قوت كاهله.. أنجز بفضلها أكثر من مهمة، وحارب في أكثر من ميدان، ولما وفر بضعة فرنكات، اشترى “الساعة د الفروج”، ساعة دائرية في حجم رمانة، وضعها بمكان عال ليراها الكل و ا تعبث بها أيادي الأطفال .كسرت سكون ذاك العهد بتكتكاتها العجيبة.. تك تك تك.. تك تك تك.. دشنت بداية عهده بالتكنولوجيا.
رغم عدم اختلاف الساعات كثيرا عن بعضها من ناحية البناديل والأرقام، ساعة الفروج كانت جميلة في عينيه، ما بداخلها جعله يحن إلى قريته، جسد الصانع على صفحتها جسد دجاجة سوداء جرت خلفها بضع كتاكيت تنقر الحب، كان الرأس منها وحده يتحرك دون كلل او ملل، توهم بتحريكها له من يراها بالحياة.. و كان يملي فيها النظر و هي تنقب ليل نهار دون أن تتعب لها قانصة أو يؤلمها منقار، اشتراها لأهميتها في معرفة الوقت، ولحاجته لها كي يضبط بها مواعيد عمله. عن في رأسه اقتناء جهاز راديو ترانزيستور 6، لكن العجز عن توفير ما لزمه كمهر لذلك الجهاز رافقه لشهور، سور حف الحديقة العمومية و المسجد صار مصدره لاقتفاء أثر المقاومة من خلال ما يروج على الألسنة من أخبار. لم يتجاوز علوه الدراعين، كان الشيوخ و العاطلين يشغلون الأوقات الفاصلة بين صلاة العصر و صلاة العشاء عليه إما لاعبين الضامة ، أو سيك، أو الورق.. الروندة. في البيت كان يلوذ بصمته فينساق وراء أفكاره وهي تمتطي بساط الأحلام و التخمينات، يذكر صغره حين رفض خدمة القايد، وكيف أصبح بذلك القرار صغير المقاومين المدلل، نقل رسائلهم من دشر لدشر، بل أخذته الحماسة يوما فطلب السلاح واضحك الرجال.. يومها نال عطفهم، حبهم و تقديرهم. حتما أدرك رجال المقاومة المناصب العليا، هكذا كان يهاجس نفسه يوميا لما كبر، حتما أشركهم السلطان في بناء الدولة، لقد كان متواصلا بأعضاء جيش التحرير، لكنه، بعد الاستقلال.. في المدينة التي وفرت له شغلا قارا، فقد كل اتصال بهم.. تقطعت دونه أعناقهم فعاشوا الشتات، استعصت عليه المعلومات لنذرتها.. بل تعذرت، بنى الفقر حول قلبه سورا من الجهل، ولكي يشفي غليله و يتجاوز هذا الشح في الموارد، أمضى زمانا و هو يقتر على عياله حالما بالمذياع.
بالكاد حصل على صورة محمد الخامس، كان يتوسط فيها جلالته الامراء و الأميرات ابناءه، زين بها غرفة الضيوف، كأنه أحب التعرف عليهم جيدا كي لا يخطئ في حق احد منهم فيكلفه جهله حشر اسمه على لائحة أعداء الدولة. بعدها، أهداه كاتب عام لفرع حزب في مدينته صورة ثانية، تجلى على صفحتها أحد الزعماء واقفا في شموخ يلحظ الناظرين إليه، امتدت شواربه إلى فوديه، ترق وتميل إلى الأعلى كحرف الراء في الخط العثماني كلما طالت ، أو كرأس خنجر يمني، ادخل كف يمينه بين أزرار معطفه، وأبقى يساره على رأس صولجانه، يحسبه من يرمقه أول مرة إمبراطورا. صار له من الكماليات في بيته، ساعة الفروج، وصورتين كبيرتين بالألوان، رأى في أحدها النضال متجسدا في صورة رئيس الحزب .. وفي الأخرى الوطنية متجسدة في الصورة الملكية. حاول عبثا الوصول إلى صورة المقاوم الذي خدمه. الذي نفخ فيه و هو لا يزال عودا طريا شعلة الارتباط بالأرض و حماية الدولة. إلا أن محاولاته المتكررة ذهبت أدراج الرياح، عاش خيبة انعدامها من الأسواق، حتى الزقاق ، لم يصادف أحدا من رفاق خندقه عليه..
كان يكدح .. و يقتر على زوجته ليشتري المذياع.. لعله يأتي أهله به من نار السياسة قبسا .. كان يحلم ..حتما نفخ الكاتب العام في تلافيف خلده ما جعله يتردد على مكتبه الذي لم تفصله عن بيته بضع خطوات.. أصبح فيما بعد محرابه ومتنفسه الوحيد للتعبير عن مكنون فؤاده.. تعرف فيه على أغنياء، لم يكن ليصل إليهم لولا الحزب، دكاترة، أساتذة ،أطباء. صار بينهم محترما، رغم فقره أوهموه أن حاجتهم إليه في الحملات هي سلمه للرقي في درجات النضال، أقنعوه إن نباحه سيصبح في الغد صداحا، بحيث سيرتقي ويكون له شانا. وفي عشية عاد الى بيته مسرعا.. راكضا كحيوان مستنفر .. تكاد تخنقه أنفاسه، دفع الباب بقوة .. خض فطيطم .. تقدم نحو الجدار الذي تأمله لشهور و شهور .. ثم ارتمى على صورة الزعيم ارتماءة حارس مرمى.. نترها بقوة، مزقها إربا.. ثم أشعل في أجزاءها النار، أخفى الآثار .. بقيت زوجته مندهشة، تتابع حركاته، لم تستطع سؤاله، سمعت الجواب عن تساؤلاته منه، لما تجاوز مخاوفه: الزعيم خاين افطيطم .. خاين .. كنا مشينا فيها على بونت.. من يومها كره جمع الصور ..