تازة بريس
عبد السلام انويكًة
ما كان الى عهد قريب من حرص مهتم ومتتبع مستمع للاذاعة المغربية جهوية كانت أم وطنية أمر غير خاف، وما كان من تناغم بين هذا الأخير مع دفئ أثير الاذاعة كلما حضرته وطبعته حاجة قلب وروح وعقل ونوستالجيا مستمع.. هو ايضا غير خاف، من خلال ما كان يتقاسم زمن الاذاعة من برامج صباحية ومسائية ليلية ونهارية بطبيعة ثقافة وفن وفكر وتربية واحتفاء معا .. حيث مساحات سفر رمزي وقراءات وحنين وذاكرة وتأملات. ولعل سمو أجناس عمل الاذاعة زمان ورقي وقدرة تعبيرها ووقع وايقاع أداءها وانتقاء زمنها وسؤالها، كانت أساس ما أسس لسمعٍ ومستمعين ولعشق وعبق أثير باعث على تفاعل وقيم وحياة. ولا شك أن الاذاعة المغربية لا تزال بموقع في وجدان مجتمع ومن ثمة مستمعين، رغم كل هذا الكائن من الزخم الذي بات بإتصال كاسح وتدفق لكل شيء وعبر كل شيء في زمن رقميات. ولا شك أيضاً أن الأثير لا يزال بمواعيد جاذبة بقدر من الانصاب والالتفات، مع كل جودة تيمة وأداء واختيار وانتقاء وسمو معاني وحس فني وفكري ورسالة، رغم كل ما يحكم المشهد من تخمة وتباين واثارة.
ولعل من فسحات اذاعة المغرب الوطنية التي كانت برمزية وقع وهيبة تفاعل خاصة لدى المستمع المغربي، ما كان يُعرف الى عهد قريب بسهرة السبت المسائية النصف شهرية، وما أدراك ما سهرة سبت الاذاعة الوطنية المغربية، لِما تجمعه من فسيفساء أداء رفيع وهمس وعفوية أمسية وجميل مساء . عندما كان مستمع الاذاعة هذه بموعد يسمح بتأمله ويتقاسم ويحضن ذاكرته بين فن وفكر وثقافة وزمن ومكان وانسان، وفق ما هو بأثر وتأثير وجذب جامع بين روح تقديم وتلقائية احتفاء ناهيك عن تميز مادة وطبيعة ضيف وتعبير وحكي وشوق ونشوة، وبما أن موعد “سهرة السبت” كان مباشراً راقيا في مساحة تجلياته، فقد كانت الاذاعة الوطنية من خلال مائدته ومادته وحلقاته قبل سنوات بجذب متميز خاصة وأنها كانت تروم حنين مستمع لزمن مغرب جميل وتجارب مغاربة وذاكرة هنا وهناك فضلا عن طرب واصوات وغيرها.
من زمن اذاعة المغرب الوطنية الجميل ارتأينا مما لا يزال عالقاً من أرشيف في ذاكرة الكثير، مساحة مليئة بفن وتراث وثقافة وفكر وابداع ومهارة وملكات صحفية، في إلتفاتة لبصمات اذاعية نوعية وإنصاتٍ لتميز علامات وأعلام ومواعيد وغيرها..، ارتأينا اطلالة على ما كان يعرف بسهرة نهاية الأسبوع أو سهرة السبت ”هذي ليلتنا” قبل على الأقل العقدين من الزمن. وهو تقليد اذاعي رفيع المستوى لعل من الأصوات الاذاعية المغربية الراقية التي كانت تشرف على تنشيطه و،قديمه، هناك الحسين العمراني بنبرته وتلقائيته وايقاعه الدافئ الخاص به لا غير فضلا عن طبيعة تلقائية تفاعله ومن تمة ما هناك من مهنية وحرفيته، شأنه في ذلك شأن عدد من المتميزين الذين طبعت أصواتهم رحاب الاذاعة الوطنية المغربية في زمن ذهبي بامتياز. وقد اغنت سهرة السَبت بما كان يطبع أثاثها من ذاكرة ومتعة حكي وقراءات ونسيج حديث وحفل واحتفاء ونوستالجيا..، عبر اطلالات من هنا وهناك حول أزمنة فن وأمكنة من خلال بصمات وتجارب وتلاقح ونبوغ علاما، أغنت بأعمالها على امتداد عقود شأن الاذاعو وخزانتها واغنت العمل الاذاعي وكانت بدور وأثر في تربية الناشئة على سمو الذوق الفني والتعبيري، وهو ما يشكل ذخيرة بقدر عالٍ من القيمة التي لا تزال تحفظها خزانة اذاعة المغرب الوطنية.
يُذكر أن من أواخر حلقات سهرة سبت الاذاعة الوطنية “هذي ليلتنا”، واحدة وكانت قد خصصت لمبدع مغربي أصيل اقترن اسمه بالشعر الغنائي عندما كان الشعر الغنائي شعراً غنائياً حقيقة، إسم كان بمساحة تعبير غنائي مغربي جمع بين بهاء وهيبة ورمزية قول وتعبير وكلمة وصدق صورة وبلاغة توأمل. لعله الأستاذ عبد الرفيع الجواهري ابن مدينة فاس الذي ارتبطت به أشهر القصائد الفصيحة في تاريخ الأغنية المغربية الحديثة، موهبة وملَكة شعر في عمر مبكر جعلته بإبداع طبع ذاكرة المغرب والمغاربة الفنية بحس ونبض قل نضيره. هو ابن دار الاذاعة المغربية في سنواتها الاولى أين تعلم وأخذ ما أخذ وفق ما أورده في موعد احتفاء به وبأعماله وزمنه الفني، رفقة آخرين كل من موقعه ممن صنعوا مجد اغنية مغربية ذهبية عابرة للزمن، تلك التي لا تزال بإجلال وهيبة وتقدير واعتبار وعمق همس وحس منذ ستينات القرن الماضي وعبر سبعيناته وحتى الثمانينات منه. وعبد الرفيع الجواهري كقصيد غنائي أصيل هو من نخبة المغرب المبدعة الرصينة التي وضعت أسس الأغنية المغربية وحداثتها وموقعها واشراقها واشعاعها، بفضل ما أغنى به هذه الأغنية من تحف نصوص شعر راق ببناء نغمي رفيع وبلاغة، وبفضل آخرين أيضاً من نفس مساره ودربه ممن أسهموا في جعل أغنية مغرب القرن الماضي في زمنها الذهبي، عنوان نبوغ مغربي وتميز فني وإرث لامادي انضاف لمعالم وعلامات مجد البلاد وحضارتها.
في حلقة احتفاء بشاعر القصيد الغنائي المغربي”الجواهري” هذا ضمن سهرة من سهرات “هذي ليلتنا“، أورد عنه الأستاذ عبد الله شقرون رحمه الله في هذه الحلقة الأخيرة منه، أنه شاعر مرموق ملهم، وهذه شهادة من مرجع عندما يتعلق الأمر بفن وفكر وابداع وأدب مغربي حديث. وبنفس هذه المناسبة والاستضافة ورد أن بداية علاقة الجواهري وارتباطه بالإذاعة الوطنية، كانت باعتباره ممثلا أولاً ثم إعلامياً ثانيا قبل أن يلتحق بالتلفزيون من خلال انتاجات أخذت من “سمعت وقرأت وكتبت” عنواناً لها. وللاشارة فعبد الرفيع الجواهري الذي التقيته مرة صدفة على هامش مؤتمر النقابة الوطنية للتعليم العالي العاشر في حفل افتتاح أطرب حضوره وأغناه بقراءات شعرية رفيعة المستوى بمسرح محمد الخامس بالرباط قبل حوالي عقد من الزمن بالتمام والكمال، هو من أصول فاسية حيث المدينة الروحية العلمية المغربية ودروب حاضرة عتيقة وأضرحة أعلام وعلماء ورمزية قرويين وقواعد فكر وحياة وتربية وعلم ونصوص وتراث وحرف وحرفيين وتقاليد.. وحيث الطفولة والتعلم والأخذ والسلف وبداية عشق أثاث الكلمة وحس التعبير.
ولعل الأستاذ عبد الرفيع الجواهري المبدع والشاعر كان رفيع حس وتعبير منذ صغره، فقد اكتشف موهبته بنفسه باكراً واكتشفها الآخر فيه من خلال تجارب أقران ورفاق زقاق المدينة. هكذا كانت بداية نبوغ علم شعر غنائي وشاعر، وهكذا كان مطلع مسار صانع رائعة قصيدة “القمر الأحمر” عبر رحلة مدوية في تاريخ الشعر الغنائي المغربي، ومَن مِن جيل ستينات وسبعينات وحتى ثمانينات القرن الماضي، من لا يرحل نغماً وذوقاً وطربا مع “القمر الأحمر” التي نشرها في بداية ستينات القرن الماضي وهو في عمر لم يتجاوز العقدين من الزمن. قصيدة كان قد أعجب بها الملحن عبد السلام عامر رحمه الله بعد سماعها متذوقا كلماتها وصورها، فحفظها وعبر عن رغبته في الاشتغال عليها رغم تأكيد محمد الخمار الكنوني الشاعر على عمقها وصعوبتها، بحيث أصر على ركوب هذا التحدي وحقاً تفوق على نفسه كما أورد الجواهري في احدى لقاءاته. ومن من الجيل السابق من لا يعرف قصيدة وأغنية “ميعاد” و“راحلة” حيث كل شيء من حياة وانسان وبيئة ونشأة وتنشئة وخيال ووجدان، ومن من هذا الجيل أيضاً من لا يعرف أغنية “لمن سأغني” لمحمد الحياني رحمه الله بصوته العميق المعبر.
لقد كان الجواهري بروائع أعماله شاعراً غنائياً حقاً، بل بشعره كان سفيراً من جهة وبفضل من جهة أخرى في عبور الأغنية المغربية الحديثة الى ما وراء الحدود حيث القاهرة حينئذ، موطن اشعاع الفترة وقمة ابداعها ومبدعيها طرباً ولحناً وشعراً، عندما فوجئ كبار موسيقييها وملحنيها بطبيعة أداء فني غنائي مغربي شامخ من حيث تركيبته ومقاماته ونصوصه. رحم الله الملحن عبد السلام عامر وأطال عمر شاعرنا عبد الرفيع الجواهري الذي أغنى ريبرتوار الطرب المغربي الأصيل بمخزون قصيده، فبقدر ما هو شاهد على عصر ذهبي عنوانه عظمة طرب مغربي حديث وأداء ولحن وكلمة ونبوغ، بقدر ما احتفاء الاذاعة المغربية باستضافته ذات يوم في واحد من مواعيد سهرة “هذي ليلتنا” قبل حوالي العقدين من الزمن، هو تكريم لجيل من مبدعين مغاربة صنعوا مجداً فنياً ومن تمة معالم تراث يدعو لفخر واعتزاز وحضن. دون نسيان أن “الجواهري” الذي كان يحسن قراءة المسافة بين الكتابة والابداع والسياسة، هو أيضاً اتحاد كتاب المغرب في فترة ذهبية من خلال تجربة قيادة، زمن كتابة وقلم ورأي وهيبة ثقافة ومثقف وأدب وفكر.
ولعل التفاتة الاذاعة الوطنية لمعالم فكر وفن وثقافة مغربية كما بالنسبة للأستاذ عبد الرفيع الجواهري، هو إعادة قراءة ماض ومجد وأمجاد وأعلام وعلامات فنية ابداعية وطنية، عبر برامج برمزية أثيرية عالية كما “هذي ليلتنا“ من جهة، فضلاً عما هناك من قيم سلوك احتفاء وتكريم واعتراف وتقدير واجلال كذا عِبَرِ تلاقح بين الأجيال من جهة أخرى. ولا شك أن الاذاعة الوطنية كانت بمواعيد على قدر عال من الاشعاع والذاكرة والأرشيف والنبش النبيل، في اسهامات من كانوا بجد واجتهاد وغيرة وترفع وتعفف وحب للوطن، من اختاروا سمو ابداع بعيداً عن أية دونية وتسطيح ولحظة ضيقة. ويبقى أنه من المفيد همس الاذاعة الوطنية المغربية من حين لآخر كذا اذاعات جهات البلاد من خلال برامجها، بأعلام البلاد وتراث طربها وتميزها ونبوغها ونوابغها وقممها الفنية الموسيقية الأحياء منهم والأموات، كما بالنسبة للأستاذ عبد الرفيع الجواهري وعبد الهادي بلخياط وعبد الوهاب الدكالي ونعيمة سميح وأحمد البيضاوي ومحمود الادريسي وعبد الرحيم السقاط وعبد السلام عامر وعبد المنعم الجامعي واسماعيل أحمد والمعطي بلقاسم وعبد النبي الجراري وعبد القادر الراشدي ومحمد العلمي ومحمد فويتح والمزكلدي ونادية ايوب وغيرهم كثير ممن يستحق الذكر والاجلال والاكبار لما كانوا عليه من اسهامات رفيعة واضافات وإغناء وارتقاء بالاغنية المغربية كلمة لحنا وأداء، كل هذا وذاك من اجل تحقيق تلاقح تجارب ابداع وخبرة وحتى لا يطوى النسيان عطاء هؤلاء وتميزهم، فضلاً عن تقريب ناشئة المغرب الجديدة من ذاكرة مغربٍ مبدع وماضٍ فني مغربي مشرق.
مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث