تازة بريس

رقصة التبوريدة الغياتية بتازة ذاكرة رمزية وتراث شعبي ضارب في القدم ..

-

تازة بريس

عبد السلام انويكًة

هو نتاج عادات وتقاليد واعتقادات ارتبطت بماضي مجتمعات، كان ولا يزال ممتدا شاهدا على أنماط وصور حياتها، وهو أيضا ما يتم عبره تلاقح الأجيال ضمن ثقافة اجتماعية وتنشئة، وكذا ما يتم حفظه إن عبر الذاكرة الشعبية أو الممارسة وليس عبر عمل تدوين وكتابة. ذلكم هو التراث الفني الشعبي وما يعرف أيضا بالفلكلور الذي طبع نمط حياة الجماعات في الماضي، باعتباره تراثا محليا وارشيفا وحفريات تعود لمئات وربما لآلاف السنين. ولعل الفلكلور/ التراث الشعبي جزء من الأثنولوجيا الثقافية، لِما يجمعه من سياقات وتعابير اثثتها أساطير وحكايات وعادات ورقصات وغيرها. وفضلا عن كونه وعاء أدب متحرك عبر الرواية الشفوية، هو أيضا ما تراكم من تجارب إنسانية انسان وما تم تعلمه وممارسته عبر الزمن وما ارتبط عموما بأوساط قروية. وغير خاف ما هناك من تباين رأي وفهم ومقاربة لمفهوم الفلكلور بين الباحثين المتخصصين، وأنه عموما ذلك الأدب الوجداني للمجتمعات أو ما يعرف بالفنون الشعبية أو التراث اللامادي، الذي يحضر اتفاقية منظمة اليونيسكو الدولية التي رعتها بباريس قبل حوالي العقدين من الزمن، بحث الفلكلور بالنسبة اليها هو مجموع تقاليد واشكال تعبير شفاهي وفنون أداء عروض واحتفالات. ويسجل في هذا الاطار ما أحيط به التراث الشعبي والفلكلور من عناية بجميع جهات العالم خلال العقود الأخيرة، من أجل ما ينبغي من حماية وحفظ لخصوصيته، فضلا عن ابراز ما هناك من قدرات ومن بعد تراثي انساني، أمام ما هناك من تحولات اجتماعية وثقافية وعلمية وتكنولوجية وتواصلية وتعبيرية معقدة، مست جميع أركان حياة الانسان لدرجة تهديد قدرات هذا الأخير في التعبير عن ذاته داخل جماعة ما. ولعل للفلكلور وللتراث الفني الشعبي مكانة خاصة في المغرب ولدى المغاربة، ذلك أنه لا يزال بأدوار ووظائف صوب طبيعة علاقات اجتماعية، لِما يحتويه من انساق حياة وتجارب وأنماط تفكير تجعله جزءا لا يتجزأ من تاريخ المجتمع وذاكرته.

إشارات بمختصر مفيد دون وقوف على مفاهيم مؤسِّسة وتمفصلات، ارتأينا أنها ذات أهمية من أجل ورقة تخص ما يزخر به المغرب من غنى لوحات تراث فني فلكلوري شعبي، ذلك الذي يتوزع على مناطقه بين أعالي وأسافل وجبال وسهول وصحراء وغيرها، وبين ما هناك من أنماط عيش ووسط اجتماعي وثقافي ووعاء قبلي. فلكلور وتعبير شفاهي لا يزال حاضرا مؤثثا شاهدا على ما طبع السلف وميزه من فرجة وتواصل واحتفاء. ولعل من مناطق البلاد الغنية بتراثها الشعبي الفني القروي الأصيل نجد إقليم تازة، لتعدد انماطه التعبيرية الفلكلورية السائدة التي منها ما يرتبط بتلال مقدمة جبال الريف، حيث ما يعرف ب”الهيت البرنوصي/ قبيلة البرانص” أو “الفرايجية” أو “التشكلل”، النمط الفني الشعبي الذي يشمل أيضا الجوار على مستوى قبيلة اتسول وصنهاجة وحتى الحياينة غربا. وحيث أيضا ما يعرف ب “أحيدوس” الورايني على مستوى جبال الأطلس المتوسط جنوب الإقليم، فضلا عن رقصات شعبية ضاربة في القدم من قبيل “التبوريدة” بقبيلة غياتة، على مستوى شرق وغرب المدينة تازة وكذا الجبال المطلة عليها من جهة الجنوب.

ويسجل حول رقصة البارود أو “التبوريدة الغياتية”، كونها تعبير فني فلكلوري وإرث شعبي قديم قد يكون شهد بعض التغيرات في بعض جوانبه مع الزمن، لكن جوهره وجوهر الرقصة ومكوناتها لا تزال حاضرة وهو ما يتم حضنه وتلاقحه من جيل الى جيل. وكونها أيضا جزءا من جملة تعبيرات فنية شعبية قروية ارتبطت بمجال أعالي وادي ايناون، حيث تازة وممرها الفاصل بين شرق البلاد وغربها والذي كان دوما بمكانة خاصة لدى جميع قبائل المنطقة، وبخاصة منها قبيلة غياتة التي كان يوجد ضمن مجالها الحيوي الترابي، وبالتالي ما كانت عليه من استعداد دائم لحمايته وحفظ تحكمها فيه. من هنا لا شك جاءت وتطورت سبل الدفاع عنه على امتداد قرون، وما أحيط به البارود والبندقية “المكحلة” من حضن لحماية مجال القبيلة. ومن هنا لا شك أنه جاءت تسمية “التبوريدة” التي من جملة ما تعنيه الاحتفاء والشعور بالنصر، من خلال اطلاق البارود بشكل فردي أو جماعي اعلانا بالنصر هنا وهناك من المكان، والذي غالبا ما كان جبلا حيث المناعة والأن والأمان. وفضلا عما هناك من ذاكرة وعلاقة بين لعبة البارود وممر تازة وحرص القبيلة على التحكم فيه لصالحها، يسجل ما هناك من عناصر ذات صلة لا شك أنها كانت بأثر في تأثيث هذه الرقصة الغياتية الجبلية، منها ما اشتهرت به المنطقة من حرف تقليدية وبخاصة صناعة البنادق، مستفيدة من وجود معدن الرصاص الذي شكل المادة الأولية للبارود لدى قبيلة غياتة. والى جانب هذا وذاك من العوامل، جدير الإشارة الى أن مجال القبيلة عموما كان ولا يزال في سواده الأعظم مجالا غابويا جبليا بسكن متباعد على شكل دواوير صغيرة، ومن ثمة ما كان من حاجة لسبل دفاع عن النفس ومن بارود وبنادق لقرون من الزمن. علما أن إطلاق البارود لدى القبيلة في الماضي كان أسلوب تواصل بين مكوناتها ودواويرها ضمن مجال جبلي بمسالك وعرة، وأن اطلاق البارود كان يعني إشارة ما وأمرا طارئا ما وطلبا من اجل مساعدة ما بحسب الذاكرة الشعبية.

هكذا سكن هذا التراث الشعبي وسكنت “التبوريدة” ولا تزال جبال قبيلة غياتة، وهي رقصة جماعية ذكورية جامعة بين حركة جسد وأصوات ورمزية بنادق وبارود وأمكنة وأزمنة، وبين تتابع حلقات وفرجة مشهد واحتكام لضوابط وتوجيهات وقيادة “المقدم”، قبل أن تنتهي الى اطلاق البارود بشكل جماعي اعلانا بنصر وفخر وقوة ووجود. ولعل الرقصة في كيان قبيلة غياتة عموما إن الشرقية منها أو الغربية، جزء لا يتجزءا من كيانها وهويتها واحساسها وانتمائها وذاكرتها الممتدة في الجبل والزمن معا، ذلك أن “الغياتي” عموما عندما يسمح صدى الرقصة، بقدر ما يغمره من إحساس خاص وحاجة خاصة، بقدر ما تجده يهتز ويرتجف تفاعلا مع هذا الصدى، معتبرا إياه دعوة لحضور الحفل ورمزية اطلاق البارود في ختام رقصته. ومن هنا ما يستنتج حول كون “التبوريدة الغياتية” هي جزء من تنشئة الانسان الغياتي الجبلي، الذي يكبر على إيقاع هذه الرقصة ضمن اسرته ومحيطه منذ الصغر، ومن ثمة ما يتشبع به من ذاكرة جماعية وما يحصل من تلاقح بين سلف وخلف. وهو ما جعل الرقصة بما لا تزال عليه من مكانة واعتبار واستمرارية وتوارث بين الأجيال، وما جعل البارود ومعه البندقية “الفردي” بما لا يزال عليه من وقع ووجدان محلي فضلا عن جوهر رقصة. هي بحمولة حربية دفاعية فضلا عما تتأسس عليه من ضوابط وأسلوب لعب وحركة وتموج فقرات، وبالتالي ما تحتاجه من فهم لزخمها التعبيري ولغتها وايقاعها. علما أنها تقوم على وقع آلات موسيقية تقليدية هما أولا: الطبل وثانيا: الغيطة، وأن لكل منهما أثر وقوة وإغناء وتدرج وتوجيه للرقصة. وهما معا بدور متحكم في إيقاع الرقصة من بدايتها الى نهايتها، في علاقة وثيقة بالراقصين الحاملين لبنادق ضمن مجموعة بأدوار متكاملة.

وإذا كان لرقصة التبوردة امتداد واسع في ربوع المغرب الشرقي عموما، ضمن تجليات وتباينات في شكلها وحمولتها وعروضها وايقاعها. فإن لرقصة التبوريدة الغياتتة خصوصية ذات علاقة بمجال القبيلة وبما كانت عليه من أدوار وتدافعات وأحداث تاريخية، ذلك ان للرقصة إخراج ونمط تعبير واثاث شكلي ولباس وحسابات تقتضي إتقانا من قبل الجميع، سواء تعلق الأمر ب”الطبالين” (عادة 2 عازفين على آلة الطبل) أو “الغياطين” ( عادة 2 عازفين على آلة الغيطة) أو الراقصين (عادة 10 ضمن مجموعة)، والكفاءة والاتقان هنا تحتاج لحسن فهم ما هناك من لغة ومفاهيم وكلمات متوارثة واشارات تخص الرقصة من قبيل ( الجاوية، العامرة، سبايسية، عرايشية..)، تلك التي يتم العمل بها وتطبيقها بحركة وأرجل وبندقية من راقصين أمام حفل من متفرجين كثيرا ما يكونوا عارفين بقوانين وشأن الرقصة. وعليه، ما هو مطلوب من احتكام لقواعدها وضوابطها وعيا بأن الخطأ قد يفسد جمال وايقاع وجوهر الرقصة. ويسجل الى جانب ما تحتويه من حركة وايقاع وجسد، ما نجده من أصوات راقصين في خضم اللعبة وحلقاتها من قبيل”هايهاي هاي، هايهاي هاي، هايهاي هاي”، والتي يتم ترديدها ضمن تعبير صوتي جماعي عدة مرات، خاصة عند اقتراب نهاية الرقصة باطلاق البارود إن باتجاة نقطة محددة صوب الأرض (مجال الرقصة ودائرتها) أو باتجاه الأعلى وبشكل جماعي محكم  منظم اعلانا بالانتصار. ختام كثيرا ما يكون بأثر وصدى ووقع خاص في نفوس المتفرجين، ولدى النساء المتفرجات من سطوح منازل ونوافذ وأبواب من خلال ما يطلقن من زغاريد تعبيرا منهن عن فرح وسرور وفخر.

احتفالية رقصة التبوريدة الغياتية الجبلية بتازة لا تزال حاضرة كلما دعا الأمر لذلك من مناسبات (زفاف، عقيقة، ختان، تقاليد محلية بيئية ..)، ولعلها تكون أكثر وقعا وحضورا خلال فترة الصيف مع نهاية موسم الحصاد. رقصة لا تزال بمكانة خاصة وهيبة واقبال وإحياء لدى كل القبيلة، كما نجدها لا تزال حاضرة فيما ينظم من مهرجانات محلية وجهوية ووطنية، وكذا دولية ذات اهتمام بتراث المجتمعات الفني الشعبي الفلكلوري. وهي في جميع الأحوال والفهم والتأمل جزء من سسيولوجيا أعالي تازة وجبالها، وجزء من سسيولوجيا قبيلة غياتة وذاكرتها الرمزية الثقافية التعبيرية، بل نافدة للاطلالة على ما يطبع القبيلة من خصوصية وهوية ثقافية وعقليات وذهنيات وتراث شفاهي عابر للزمن. رقصة استعراضية جماعية ذكورية لها اثاثها الخاص وانسجامها الجامع لجملة مكونات، لعل منها طبيعة اللباس حيث الجلابة الغياتية السوداء اللون وقطعة الثوب المزركشة الملفوفة على رؤوس الراقصين “الرزة”. رقصة بحاجة لعناية وحماية وحفظ لرمزيتها وموقعها ضمن الغنى التراثي المحلي والجهوي والوطني والإنساني، أمام ما هناك من تحولات اجتماعية وثقافية وتدفق تعبيري حديث. وهذه مسؤولية الجميع كل من موقعه حيث وزارة الثقافة القطاع العمومي الوصي، والمجتمع المدني والباحثين والدارسين والفنانين انفسهم وكذا الاعلام في كل مستوياته وخاصة منه الجهوي. وفي هذا السياق خصصت مشكورة إذاعة مكناس الجهوية مؤخرا حلقة خاصة من حوالي خمسين دقيقة، استهدفت من خلالها ابراز وأرشفة معالم رقصة التبوريدة الغياتية وذاكرتها واصولها وحمولاتها وما ارتبط بها من أسماء ودلالات، وكذا ابراز خصوصيتها وتميزها ضمن الزخم التراثي الفني الشعبي الفلكلوي الكائن على مستوى جهة فاس مكناس، فضلا عن تحسيسها بأهمية التراث في حياة المجتمع وناشئته وهويته، وما ينبغي من عناية وحماية وجمع ودراسة وتعريف ونصوص توثيقية لهذه الذخائر من التراث الوطني.  

يبقى بقدر ما هي عليه تازة مدينة واقليما، من غنى تراثي شفاهي وايقاع فلكلور ضارب في القدم. بقدر ما هناك من حاجة مزيد إنصات والتفات لهذا التراث عبر ما ينبغي من دراسات تاريخية وسسيولوجية وفنية رصينة مؤسَّسَة، تثمينا لهذا الإرث التعبيري المحلي ورصدا لتجلياته وايقاعاته ونصوصه الزجلية البدوية، فضلا عن تفكيك وقراءة احالاته وحمولاته وفق ما ينبغي من توثيق وضبط بيوغرافي. وعيا بما له من أثر في التنشئة الاجتماعية والتربية ومن بعد انساني وعلائقي وهوياتي، وكذا ما يمكن أن يسهم به كتراث لا مادي في التنمية المحلية عبر حسن توظيف وتأثيث وتقديم رافع لِما هناك من تطلعات محلية وجهوية منشودة.

 

 

  مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث

إلغاء الاشتراك من التحديثات