تازة بريس
من زخم الأسماء الباحثة في حقل التاريخ عن جهة فاس مكناس، تلك التي بقدر ما تنتمي للرعيل المؤسس بحكم فترة تكوينها حيث سبعينات وثمانينات القرن الماضي، وبحكم مكانة ورمزية وهيبة وصدى ونهج من اشرف على تكوينها، بقدر ما كانت هذه الأسماء بأثر طبع حقل الدراسات والأبحاث وكذا الزمن الذهبي للجامعة المغربية، بل سباقة لتناول ورصد ومقاربة عدد من القضايا التاريخية المفتوحة على المغرب المعاصر ضمن النهج المونوغرافي، بقدر أيضا ما اغنت بأعمالها البحثية العلمية وتراكماتها الخزانة التاريخية المغربية موفرة نصوصا ومراجع بقدر عال من القيمة المضافة والأهمية لفائدة الدارسين والباحثين لاحقا. ولعل من ثلة المتميزين من الباحثين الدراسين للتاريخ وللدرس الجامعي التكويني والتأطيري عن الجهة، هناك الباحث المؤرخ العربي كنينح الذي يسجل له ما كان عليه من جهد بحثي ونبش وتنقيب على امتداد عقود من الزمن ولايزال، ومن تراكم كتابة ونشر ومن ثمة من أبحاث توجهت بعنايتها لعدد من القضايا والاشكالات التاريخية ذات الطبيعة الثقافية والهوياتية الوطنية، وكذا ذات المحلية الجهوية في علاقتها بفترة ما قبل الحماية الأجنبية على المغرب وخلالها، حيث الدسائس الاستعمارية ومناوراتها والدراسات والعمل الاستخباراتي التعرفي الاستكشافي، فضلا عن عمل وآليات التفكيك التي استهدفت بنية القبائل المغربية. الأستاذ الباحث العربي كنينح ابن تاونات لا يزال على درجة الدينامية من خلال ما يميزه من تفاعل وتقاسم ورأي صوب عدد من القضايا التاريخية المغربية، ومن خلال أيضا حضوره في عدد من المواعيد على صعيد مدينة فاس التي يعد أحد أعلامها المتمكنين من زمها وأحداثها ووقائها ومعالمها وتراثها المادي واللامادي، وعلى صعيد ما هو تاريخ جهوي يهم منطقة سايس وقبائلها بحكم ابحاثه إن التي كانت موضوع دراساته العليا أو اطروحته. تنويرا للمهتمين بحقل التاريخ ومناهجه وتعميما للفائدة، اجرى الأستاذ كنينح حوارا صحفيا كان فيه ضيفا على منبر جهوي تمحور حول التاريخ ومناهجه، وهو ما ارتأت تازة جريدة بريس تقاسمه مع القراء والمهتمين وقد جاء كما يلي.
1 – ما هي أهم الإشكاليات التي يعاني منها الباحث في تاريخ المغرب بمضمونه الجغرافي الواسع؟: تعترض الباحث في تاريخ المغرب صعوبات متعددة، منها ما يتعلق بالمادة الأولية، ونعني بها المصادر والمراجع، ومنها ما يتعلق بفهم وتحليل مضامين الروايات، والنصوص التاريخية التي وصلتنا عن مختلف العصور، والوقوف بالتالي، على الخلفيات السياسية والإيديولوجية لأصحابها، ومنها ما يرتبط بتناثر الوثائق وتوزيعها على مستودعات بلدان متباعدة جغرافيا، يصعب الوصول إليها، والإقامة فيها بسهولة، لمدة كافية ، لإعتبارات مادية صرفة. فالبحث التاريخي في المغرب، كما يعلم المتخصصون، لازال في بدايته، وهنا تكمن صعوبة الرعيل الأول من الباحثين، عندما يجدون أنفسهم وسط غابة يصعب اختراق مسالكها، والسيرفي دروبها المعتمة، للكشف عن الحقائق التي يودون الوصول إليها. وفي هذا الصدد، يمكن حصر المادة الأولية التي يرجع إليها المؤرخ عندنا، في الوثائق الوطنية والأجنبية، والحوليات التاريخية، وكتب التراجم، والمناقب، والأنساب، والرحلات، والنوازل الفقهية، والأوصاف الجغرافية، والأعراف القبلية، والمسكوكات النقدية، والمنقوشات الأثرية، والحفريات، والروايات الشفوية، بالإضافة إلى أدبيات الأسطوغرافية الإستعمارية والإسشراقية، وغيرها من شواهد التاريخ، مع اللجوء أيضا إلى التحريات الميدانية للتحقق مما ورد في النصوص المكتوبة. إن الوثائق الوطنية والأجنبية المؤرخة باليوم، والشهر، والسنة، لم يكشف عن جلها بعد، ويصعب، في كثير من الأحيان، الوصول إليها، لإعتبارات سياسية، وأمنية. والولوج إلى المعلومة عندنا، لم يصبح ميسرا بعد، لأسباب متعددة. وهذه المصادر تكتسي أهمية بالغة، وذات قيمة علمية مهمة، ولايمكن لأي باحث الإستغناء عنها. ومصادرنا التقليدية، المشار إليها أعلاه، لاتفيد كثيرا في التعرف على التطورات الإقتصادية، والإجتماعية، والسياسية التي شهدها المغرب عبر مختلف العصور. وفي هذا الصدد أيضا، وفي إطار الحديث عن الصعوبات التي تواجه المؤرخ، نشير هنا، إلى أنه عندما يهم المرء بالبحث في تاريخ المغرب يجد نفسه أمام ثلاث روايات: 1- الرواية التقليدية : وهي رواية المصادر المشار إليها أعلاه، وهذه الأخيرة غالبا ما تحجب عنا الحقائق، وتسدل أمامنا ظلالا قاتمة من الشكوك والأوهام، كلما تطلعنا إلى معرفة العوامل التي تحكمت في صيرورة وتطور بنياته الإقتصادية والإجتماعية والسياسية، لأن أصحابها وضعوا مؤلفاتهم إما تحت نفوذ ورقابة السلطان السياسي القائم في عصورهم وبتوجيه منه، وإما للدفاع عن منظومة فكرية أو مذهبية أوسياسية، تخدم مصالحهم، وتبرر مركزهم الإجتماعي والسياسي، وسط مجتمع كان منقسما إلى عامة وخاصة، وكانت الوراثة تلعب دورا أساسيا في تصنيف فئاته وتوزيع الخيرات المادية فيما بينها.2- الرواية الإستعمارية وهي مجمل أدبيات ونصوص الأسطوغرافية الكلونيالية والإستشراقية بصفة عامة، وهذه الرواية وضعت أيضا في ظروف سياسية ودولية خاصة، وظف أصحابها التاريخ وعلوم الإنسان بصفة عامة، للدفاع عن إيديولوجية السلطة الحاكمة الرامية إلى طمس هوية الشعوب المستعمرة، وتوجيه تاريخها في المسار الذي كانت تريده لتعبيد الطريق أمام الغزاة والمعمرين، لتحقيق مشروعهم الإستيطاني في البلدان المسماة اليوم بالعالم الثالث.3- الرواية العلمية أو الموضوعية وهي الرواية التي يسعى الباحثون الأكاديميون في مختلف جامعات العالم، إلى تأسيسها اليوم على أنقاض الروايتين الأولى والثانية. وهي تخضع لمناهج ومقاييس علمية دقيقة وصارمة كلما أمكن ذلك. ومن هذا المنطلق نلاحظ أن تاريخ المغرب بصفة عامة، لازالت تعشش فيه الأطروحات الإستعمارية وأحكام الرواية التقليدية الموسومة،في كثير من الأحيان، بسمات الأسطورة والملحمة التاريخية. وبالإضافة إلى هذه الصعوبات المنهجية يحتاج المؤرخ أيضا إلى ميزانية كبيرة تمكنه من التنقل بين مختلف المدن المغربية والبلدان الأروبية وغيرها، للبحث عن المصادر والوثائق التي تهم المغرب. كما يلزمه كذلك الإلمام بعدد من اللغات الأجنبية الأساسية وعلى رأسها الفرنسية والإنجليزية والإسبانية. وهذا سر تعثر البحث التاريخي الرصين في المغرب واقتصار جل الباحثين على المتوفر من المصادر في بلدهم أو جهتهم، بسبب ضعف إمكانياتهم المادية واعتمادهم على نفقاتهم الخاصة لإنجاز أعمالهم، ويكفي الإطلاع على الأطروحات التي تناقش حاليا للوقوف على مستوى البحث العلمي في مغرب اليوم.
2 – هل يجد المؤرخ غضاضة في مواجهة الدراسات الغربية المنصبة على تاريخ هذه المنطقة؟: إن اهتمامات الأروبيين بتاريخ منطقتنا قديمة وتعود إلى قرون خلت، ويمكن القول أن هذا الإهتمام المعرفي بدأ بصورة واضحة مع ظهور حركة الإستشراق في المغرب والمشرق على السواء. وكان انشغال الرحالين والمستكشفين الأجانب، ينصب في البداية على جمع المعلومات والأخبار، والعمل على ترجمة الكتب والمخطوطات المحفوظة في الأرشيفات الوطنية والمكتبات العامة والخاصة، قصد توظيفها في تحليل البنيات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية لشعوب المنطقة، للوقوف على خلفياتها الإيديولوجية والدينية. وقد ازداد نشاط هؤلاء الباحثين بشكل ملموس مع مطلع القرن التاسع عشر، لتمهيد الطريق أمام المستعمرين بمدهم بالمعلومات الظرورية التي ساعدتهم على إحكام السيطرة على هذه البلاد. وفي هذا الصدد ينبغي الإشارة هنا إلى أن استعما ر هذه المنطقة و تقسيم مناطق النفوذ بين المعمرين فيها، قد تم في آخر مرحلة من مراحل التخطيط الإستعماري. فقد توافد في البداية على المغرب عدد من المبشرين الذين استقروا في المدن الرئيسية، ثم تبعتهم بعد ذلك زمرة من العلماء الذين ادعوا أنهم جاؤوا للقيام بأبحاث علمية صرفة، لفائدة جمعيات كانت تهتم مثلا بدراسة علم الجغرافية والمناخ واستكشاف أنواع الأمراض الموجودة عندنا، ومع مرور الأيام تحولوا إلى جواسيس ومخبرين لفائدة الدول التى ينحدرون منها. ثم جاء بعدهم عدد كبير من التجار الذين أقاموا في البداية في الموانيء والمدن الساحلية، ثم انتشروا منها بعد ذلك في القرى المجاورة والمناطق الداخلية، ومنها دخلوا في علاقات تجارية مربحة مع جميع القبائل والمدن. وفي النهاية جاءت الجيوش المستعمرة مصحوبة بعدد من السياسيين المحنكين الذين تمكنوا من السيطرة على البلاد، وإرساء قواعد الإستعمار الإستيطاني فيه. وقد ترك لنا هؤلاء مجموعة من الأبحاث والتقارير عن أحوال المغرب وسكانه. وفي عهد الحماية تعمقت الأبحاث حول المجتمع المغربي وانصب اهتمام عدد كبير من الباحثين، في شتى علوم الإنسان، على إنجاز عدد من المنوغرافيات، كما اهتم بعضهم بالتأريخ للمغرب في ارتباطه مع بلدان المغرب العربي والأندلس منذ فجر التاريخ إلى نهاية عهد الحماية، فوصلتنا عن كتاب الإستعمار حصيلة ضخمة من الدراسات والتقارير. إلا أن هذه الأعمال لا ترقى إلى مستوى الأبحاث العلمية الرصينة، لأن أصحابها لم يكن يهمهم البحث عن الحقيقة لذاتها، بل كانوا يستهدفون فقط توظيف التاريخ لتحقيق مخططهم الإستعماري الرامي إلى طمس هوية الشعوب المستعمرة، وتوجيه تاريخها في المسار الذي يخدم استراتيجيتهم السياسية في المنطقة. وفي هذا الصدد، وجوابا على سؤالكم هل يجد المؤرخ غضاضة في مواجهة الدراسات الغربية المنصبة على تاريخ هذه المنطقة، نشير هنا، إلى أن الأبحاث العلمية الحالية ترمي، في منطلقها أساسا إلى تخليص تاريخنا من رؤى الإستعمار المغرضة، والوقوف أيضا على السموم التي بثوها بين دفات كتبهم ومنشوراتهم. وحتى نعطي مثالا ملموسا عما نقول، نشير هنا إلى أن القارىء العادي، الغير المتحصن بالمناهج العلمية، عندما يهم بالبحث في تاريخ بلاده، ويكتفي بالرواية الإستعمارية، يمكنه أن يأخذ أفكارا مغلوطة عن أصوله وهويته. فعندما تفتح كتابا من كتب هؤلاء، وتتبع صيرورة تطور المغرب عبر مختلف العصور، تجد أن كتاب الإستعمار، لا يملون من ترديد مقولتهم الشهيرة التي تتلخص في كون المغرب يتكون من شعبين مختلفي الأصول والثقافة، وأن البربر هم السكان الأصليون، بينما العرب عبارة عن أقلية من الغزاة يجب طردهم والتخلص منهم. وعندما يلتقط بعض الغلاة عندنا هذه الإشارة يعتقدون أن ما قاله هؤلاء المعمرون هو الصواب، ولايعرفون أن فرنسا كانت تبحث عن ثغرة لتمزيق وحدة الشعب الواحد، وهي السياسة التي اتبعتها في كل مستعمراتها الإفريقية والأسيوية. وللمزيد من التوضيح نشير أيضا إلى أن معظم كتاب الإستعمار إن لم نقل كلهم، عندما شرعوا في كتابة تاريخ شمال إفريقيا، خصصوا لكل بلد منها على حدة، كتبا تحمل عنوان تاريخ المغرب، أو تاريخ الجزائر، أو تاريخ تونس. وهذا تاريخ تجزيئي قطري، متناسين أن المغرب العربي في عهد المرابطين والموحدين والمرينيين، كان يشكل أمبراطورية واحدة كانت لها نفس العاصمة، وهذا هو التاريخ الوظيفي الذي أشرنا إليه آنفا. ومن هذا المنطلق يتبين أن مهمة المؤرخ الذي يود إعادة كتابة المغرب على أسس علمية، يجب أن ينظف الميدان أولا من الإرث الإستعماري قبل أن يتصدى للصعوبات الآنفة الذكر.
3- هل يجد المؤرخ المغربي غضاضة في مواجهة المدارس التاريخية المعاصرة؟ : عوض المدارس يحسن الحديث عن المناهج التاريخية، فالمنهج بصفة عامة وبكثير من التبسيط، هو الطريق المستقيم والمضمون الذي يؤدي إلى اكتشاف الحقيقة. ويصل الإنسان إلى الحقيقة بواسطة مناهج البحث العلمي، بينما يبلغها للأخرين باللجوء إلى الطرق التعليمية. غير أن الباحثين، عبر مختلف حقب التاريخ قد خضعوا، عند كتابتهم لمؤلفاتهم التاريخية لقناعتهم الإديولوجية والسياسية، ومنطلقات معتقداتهم الدينية والمذهبية. فحتى نهاية الحرب العالمية الثانية كان يهيمن على الكتابة التاريخية، منظوران: منظور مثالي غير عقلاني، يرى أن صيرورة التاريخ كانت تتحكم فيها عوامل غيبية غير مرئية، ولا دخل للمادة فيه، ومنظور مادي، كان يرى أن العوامل الإقتصادية هي التي تحرك التاريخ وتتحكم في تطوره. وهذه الثنائية المنهجية هي التى يعبر عنها عادة ، بالمثالية والمادية التاريخية. إلا أنه بعد ظهور مدرسة الحوليات، في أعقاب الحرب الكونية الثانية، أصبح المؤرخ يوظف كافة علوم الإنسان لتفسير الظواهر التاريخية، والوقوف على العلل التاريخية التي أشار إليها ابن خلدون، عندما عرف التاريخ بأنه “نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو بذلك أصيل في الحكمة ، عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق”. والمقصود بالحكمة هنا هو الفلسفة. فللوصول إلى الحقائق التاريخية، ينبغي الإعتماد على كثير من العلوم الإجتماعية المساعدة على فهم الوقائع، ونواميس التطور، مثل الفلسفة وعلم الإجتماع والإقتصاد والأنطروبولوجية واللسانيات والجغرافية والعلوم السياسية وغيرها من العلوم الإنسانية. فالتاريخ حسب فرنان بروديل وعموم رواد مدرسة الحوليات، هو ملتقى العلوم الإنسانية “بيت العلوم الإجتماعية”، فيه تلتقي وتتفاعل فيما بينها لبلورة الحدث التاريخي. وفي هذا السياق المنهجي يؤكد ديكارت أيضا في كتابه خطاب المنهج، أن “عظمة الفيلسوف، والمؤرخ، فيلسوف أيضا، ليس في أن يرتاب من الحقيقة، وإنما في أن يبحث عن منهج يؤدي إلى الحقيقة، تلك هي الفلسفة الحقة، تدريب العقل على التفكير المستقيم الذي يفضي بنا إلى الحقيقة. الخطأ لا يأتي من العقل، وإنما من المنهج الذي نسلكه. إن مواجهة المدارس التاريخية هنا، حسب سؤالكم، لايستقيم، بل ينبغي الإستفادة من كل العلوم والمستجدات المنهجية التي تؤدي إلى كتابة الرواية العلمية التي يطمح، كل باحث جدير بهذا الإسم، إلى الوصول إليها.
4- ماذا يهدد الهوية المغربية إزاء الصراع حول قضايا الشرق العربي والمغرب العربي، في نطاق المواجهات الإستعمارية ؟: تنبني الهوية الحضارية لشعب من الشعوب ، أو جماعة من الجماعات السلالية، على مقومات متداخلة تربط بين مختلف مكوناتها، وتشد الناس بعضهم إلى البعض. وهذه المقومات هي: الوطن، والجنس، واللغة، والدين، والتقاليد، والماضي المشترك. فبالنسبة للوطن، يجب على المغاربة جميعا، لكي يتشبثوا بوحدة بلادهم، أن يتعرفوا أولا، وبصورة معمقة، على جغرافيتها الطبيعية، والإقتصادية، ويلموا بالروافد الأساسية التي تشكل تركيبتها الإثنية، ويطلعوا ، بصورة مفصلة، على تاريخها ، ويقفوا على المحطات المشرقة والمظلمة ، والعوامل المختلفة التي تحكمت في صيرورتها التاريخية، في ارتباط وثيق مع العالمين العربي والإسلامي، ومحيطهم الجهوي والكوني، بصفة عامة. فكلما ازدادت معرفة الناس بمميزات وطنهم، ووقفوا على انتصارات وإخفاقات أسلافهم، إلا وتمسكوا بمسقط رأسهم، وتجندوا لخدمته، والدفاع عنه. وفي هذا الصدد، يلاحظ، مع الأسف، أن الأغلبية الساحقة جدا من المغاربة، تجهل جهلا تاما تاريخ بلادها. والفئة القليلة منهم، لا تعرف إلا النزر القليل منه. وهذه إحدى المطبات التي تهدد الهوية، لأن فهمهم لماضيهم غالبا ما يكون ضبابيا وناقصا. وإلى جانب الإطلاع على جغرافية الوطن وتاريخه، تساهم اللغة، في ترسيخ الهوية الحضارية للناس. إلا أنه، يتبين، من عدد من المؤشرات، أن اللغة العربية بدأت، منذ مدة، تفقد حيويتها، ودخلت في مرحلة الإحتظار، ولم يعد ينطبق عليها ما قاله الشاعر حافظ إبراهيم في حقها:” أنا البحر في أحشائه الذر كامن، فهل سألوا الغواص عن صدفاتي “. فاللغة كائن حي، يتطور مع تطور الناطقين بها. وبما أن العرب لم يعودوا، منذ قرون، ينتجون فكرا، أو علوما، أو تكنولوجية خاصة بهم، فمن الطبيعيي أن تتخلف لغتهم عن مواكبة مستجدات العصر ومخترعاته. ويكفي الولوج إلى الحاسوب الذي نشتغل عليه الآن، للاستدلال على ما نقول. فالشخص الذي لا يعرف الفرنسية، أو الإنجليزية مثلا، لا يستطيع التواصل عبر البريد الإلكتروني، أو مواقع التواصل الإجتماعي، مثل الفيسبوك، والتويتر، واليوتوب. ومواقع الوزارات على الأنترنيت، كلها بالحروف اللآتينية، مثل ، youtube. com. Almaghribia » أو، « www. org.ma » فالشخص الذي لايلم باللغات، أو بلغة أجنبية واحدة،على الأقل، يجد نفسه خارج التاريخ. فالعالم من حولنا، روسيا، الصين، الإتحاد الأروبي، الولايات المتحدة وغيرها، تقدم في الميدان الصناعي والتكنلوجي، تقدما مذهلا، في حين بقينا نحن على هامش التاريخ، نتصارع فيما بيننا. نحن في زمن العولمة، ومن المعروف تاريخيا، أن الحضارة القوية تقضي على الحضارة الضعيفة، فمن المنتظر في المدى المتوسط والبعيد، أن تندثر كثير من لغات العالم، بما فيها اللغة الفرنسية. وفي هذا الصدد، هناك من يتنبأ بزوال أغلب لغات العالم، وبقاء فقط عدد قليل منها، وعلى رأسها الإنجليزية، والصينية، والروسية، والإسبانية، ويمكن للعربية أن تصمد لبعض الوقت، إذا نهض أصحابها وخرجوا من تخلفهم. ويكفي إلقاء نظرة على اللوحات الإشهارية، المنصوبة في الشارع العمومي، أو اللقطات المبثوثة على شاشات التلفزيون، للتأكد من حلول لغة الأجنبي محل اللغة الوطنية. فالإنفتاح على الأسواق العالمية، واستقرار عدد من الشركات المتعددة الجنسيات في المغرب، قد يعصف بالهوية الوطنية من أساسها. فالفرد المغريي الذي يبحر في الأنترنيت يوميا، ويشتغل مع شركة دولية كندية، مثلا، يفقد، مع مرورالزمن هويته الوطنية، ويصير مواطنا كونيا) citoyen du monde) . ثم نتساءل هنا في الأخير وبصدد اللغة العربية دائما، من يتقن الكتابة والحديث بها اليوم؟ فعندما نستمع إلى نشرات الأخبار في الفضائيات، أو إلى الخطب التي تلقى في المؤتمرات الرسمية، ونحصي الأخطاء النحوية والإملائية نصاب بالدوار، ونتأكد مما سبق أن أشرنا إليه آنفا. وعلاوة على هذا وذاك، كيف يمكن للمتعلم عندنا أن يلم باللغة العربية، والأمازيغية، والفرنيسية، أو الإسبانية، في نفس الوقت، وأن لايكون ذلك على حساب لغة الضاد، كما تسمى أيضا. أما بالنسبة للجنس، فقد سبق لنا، في كتابنا “في المسألة الأمازيغية، أصول المغاربة”، أن تحدثنا عن الروفد الأساسية التي تشكل منها الشعب المغربي عبر مختلف العصور. لكن لازال بعض الناس يجادلون في وحدة هذا الشعب، ويغردون خارج السرب. وهذه الفئة، مع حسن الحظ، قليلة. ولا شك أن لها امتدادات خارجية، وتتحرك وفق أجندة معينة. وهذا يهدد أيضا وحدة الهوية الوطنية، ويسعى إلى فتح ثغرة في بنيان صرح تم، بالتتابع، على مدى قرون، ومنذ فجر التاريخ. إن التآمر على وحدة المغرب والمشرق العربيين، قد بدأ منذ أن خرجت أروبا إلى البحار والمحيطات، وشرعت دولها في استعمار المنطقة وتقسيم مناطق النفوذ فيها. ويكفي التذكير هنا باتفاقية سايكس- بيكو، والمخطط الإستعماري الذي كان يرمي إلى تجزئة البلد الواحد إلى كيانات صغيرة ، وزرع النعرات العرقية والمذهبية فيما بينها. وما يجري في الشرق الأوسط الآن، شبيه بما حصل إبان الحرب العالمية الأولى. فهناك مخطط أيضا، لم يعد خافيا، يرمي إلى تقسيم العراق، وسوريا، والعربية السعودية، ولبنان، واليمن، ومصر، والسودان ،وليبيا ، والجزائر، إلى عدد من الكيانات المجهرية ،على أسس عرقية ومذهبية. وما يجري الآن من أحداث في المنطقة شاهد على ذلك. أما في المغرب العربي فتكفي الإشارة إلى ما يجري في مالي، وجنوب الجزائر، والمناوارت التي تحاك حول وحدتنا الترابية خير دليل على ما نقول. إن استمرار النزاع حول الصحراء المغربية، لمدة أربعين سنة تقريبا، تغذيه مراكز الهيمنة الإستعمارية وتجار السلاح. فالجزائر تخصص ميزانة ضخمة للتسلح لمواجهة المغرب، والمغرب أيضا يجد نفسه مضطرا إلى فعل نفس الشىء. والمستفيد من هذا الصراع المفتعل ولمدة طويلة، هي القوى الكبرى المتحكمة في مركز القرار في الأمم المتحدة ومجلس الأمن. ويجب أن نشير هنا إلى أن الأزمات المالية والإقتصادية، لا تحل إلا بالحروب. فأزمة 1929 الشهيرة، لم تحل إلا بقيام الحرب العالمية الثانية، والأزمة المالية الطاحنة التي يشهدها العالم الراسمالي اليوم، ومنذ 2008، لن تحل أيضا إلا بحرب إقليمية يكون المشرق والمغرب العربيين مسرحا لها.
5- ما هي المراحل التاريخية التي تثير اهتمامك؟: يقسم الأروبيون تاريخهم عادة إلى اربع مراحل كبرى. 1 – التاريخ القديم: يبدأ من مرحلة ما قبل التاريخ، وينتهي بسقوط الأمبراطورية الرومانية، في القرن الخامس الميلادي، 476م. 2- التاريخ الوسيط: يبدأ من تاريخ سقوط الأمبراطورية الرومانية، وينتهي مع بداية الإكتشافات الجغرافية ، في نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر. 3- التاريخ الحديث: يبدأ مع مرحلة الإكتشافات الجغرافية وينتهي بقيام الثورة الفرنسية، سنة 1789 . 4 – التاريخ المعاصر: يبدأ من تاريخ قيام الثورة الفرنسية، وهو مستمر إلى يومنا هذا. وإلى جانب هذا التقسيم هناك تحقيب آخر يستند في هذه المرة، على التشكيلات الإجتماعية التي عرفتها القارة الأروبية أيضا عبر تاريخها. مرحلة المشاعية البدائية، مرحلة الرق، مرحلة الإقطاع، مرحلة الرأسمالية، ومرحلة الإشتراكية التي لم تتحقق وتعمر طويلا. وهنا يجب أن نتساءل مثلا، متى بدأ التاريخ القديم في البلدان الأخرى، ومتى انتهى؟ ومتى بدأ التاريخ الوسيط، ومتى إنتهى؟ ومتى بدأ التاريخ الحديث، ومتى انتهى؟ ومتى بدأ التاريخ المعاصر؟ ثم متى عرف المغرب مثلا المشاعية البدائية، ومجتمع الرق، والإقطاع، والرأسمالية، والإشتراكية؟ ونفس الأسئلة يجب أن تطرح على البلدان الأخرى. فعند استقراء تاريخ المغرب مثلا، منذ الفتح الإسلامي إلى سنة 1912 ، تاريخ إجراء الحماية، نجد أن القبيلة هي القبيلة، ونمط الإنتاج هو نمط الإنتاج، والإمامة هي الإمامة، والمذهب الديني هو المذهب الديني “المذهب المالكي” باستثناء فترة الموحدين . إن التحقيب التاريخي الذي أشرنا إليه سابقا، ينطبق على التاريخ الأروبي ولا يمكن إسقاطه على التاريخ العالمي، فلكل بلد خصوصياته، ولكل جهة وقارة ظروفها التاريخية الخاصة بها. بعد هذه التوطئة، وجوابا على سؤالكم عن المراحل التي تثير اهتمامي كمؤرخ، أشير إلى أن الباحث، قبل أن يتخصص في حقبة معينة، لابد أن يكون ملما ولو بصفة إجمالية بالتطورات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية التي شهدها العالم عبر مختلف العصور. فالناس يقسمون الزمن عادة إلى ماض وحاضر، ومستقبل. لكن الواقع يشهد أن هذا التقسيم لا معنى له بالنسبة للمؤرخ الذي يرى أن هناك فقط ماض مستمر. فما حدث مثلا، في الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي وأنا أقصد هنا ظهور الإسلام، لازال قائما ومؤثرا في حاضرنا وحياتنا إلى اليوم وسيبقى كذلك فيما يستقبل من الزمن. وما صدر من قوانين وتشريعات في عهد الحماية، في المغرب، لازال الكثير منه معمولا به إلى حد الآن . والإعلان عن مبادىء حقوق الإنسان الذي تم في أعقاب الثورة الفرنسية سنة 1789 ، لازال المجتمع الدولي يعمل بها إلى اليوم. وتبعا لذلك ، فإن ما سيجري أيضا، في المسقبل مثلا، في الشرق الأوسط،، تتحدد معالمه حاليا، في مراكز القرار في الدول العظمى. ليست هناك مرحلة تاريخية مثيرة أكثر من الأخرى، فالباحث عادة، يختار الفترة التى تتوفر فيها الوثائق والمصادر الكافية لإنجاز بحثه. وأنا شخصيا، أنجزت أبحاثا عن المغرب في القرن التاسع عشر، لأن هذه الفترة تفيدنا في التعرف، بصورة واضحة، على حاضرنا. فما حدث في هذا القرن لا زال جاثما على راهننا ومؤثرا فيه. ويكفي الرجوع إلى هياكل البنيات العقارية مثلا، للوقوف على مدى ارتباط ماضينا بحاضرنا. وبالرجوع أيضا إلى التركيبة الإجتماعية التي كانت موجودة في هذا القرن، يفهم المرء بسهولة بنية وسلوك نخبنا. وفي هذا الصدد، يعتقد الكثير من الناس، أنه بمستطاعهم فهم تعقيدات الحاضر، بدون الرجوع إلى الماضي. وهذا خطأ وتصور مغلوط. وقد بينت في عدد من أبحاثي هذه الإشكالية، وأكدت على أنه لفهم حاضرنا، لابد من الرجوع إلى ماضينا، وكذلك يجب أيضا الإنطلاق من حاضرنا لفهم ما حدث في ماضينا.
6- في أي مجال تختلف مع بعض المؤرخين: 1- المغاربة، 2- الفرنسيين، 3- الأروبيين عموما؟: إن اختلاف المؤرخيين فيما بينهم، هو اختلاف في الرؤيا والمنطلقات الإديولوجية والسياسية الخاصة بكل واحد منهم. فمؤرخو الثورة الفرنسية مثلا تجد فيهم من اعتمد على المنهج المادي لسرد الأحداث والوقائع، إذا كان ينتمي سياسيا إلى اليسار الإشتراكي، ومنهم من تلمس في تحليله للأمور الميولات المثالية المنحازة للكنيسة، ومنهم من يتحلى بالموضوعية والحياد المطلوبين في كتابة التاريخ. فالروايات التاريخية لنفس الحدث تتلون حسب خلفيات كتابها، وتعدد مشاربهم السياسية والمذهبية. وإلى جانب هذا عندما نرجع إلى حولياتنا التريخية، مثل” الإستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، نجد اهتمامها ينصب، بصفة خاصة، على التأريخ للأسر التي تعاقبت على الحكم والتتبع لسير الملوك، ورصد أخبار غزواتهم، وحركاتهم، وتدوين مخلفاتهم ومآثرهم، وقلما تحدثت عن أحوال الناس الإقتصادية، والإجتماعية، والسياسية. وهذه هي الرواية التقليدية التي أشرنا إليها سابقا، وهي تهتم بالحدث السياسي وأخبار الكوارث والوقائع الحربية. إن التاريخ الجديد كما سماه رواد مدرسة الحوليات، ينصب على تحليل البنيات الإقتصادية والإجتماعية والسياسة للناس، وتأتي الأحداث السياسة كنتيجة للتفاعلات التي تشهدها المجتمعات في صيرورتها. إن اختلافي مع االمؤرخين الجديرين بهذا الإسم، يكاد ينعدم بالمرة ما دمنا نبحث عن الحقيقة لذاتها ولا نروم توظيف التاريخ لخدمة مصالح معينة، أو للترويج لتوجهات إيديولوجية أو مذهبية مؤدى عنها مسبقا. أما فيما يتعلق بالمؤرخين الفرنسيين والأروبيين بصفة عامة، فهم ينقسمون إلى قسمين. القسم الأول وقد سبق أن أشرنا إليه عند حديثنا عن الرواية الإستعمارية، وهؤلاء الناس انتهى دورهم مع نهاية الفترة الإستعمارية. والقسم الثاني، منهم من يكتب تاريخا موضوعيا إذا تعلق الأمر بتاريخ بلدانهم، ومنهم من لا تزال تهيمن عليه النزعة الإستشراقية والإستعمارية عند التأريخ لبلدان العالم الإسلامي .
7- هل نحن إزاء مشكل إسمه المغرب العربي، إفريقيا الشمالية، أو المستعمرات السابقة لفرنسا بإفريقيا؟: لنبدأ أولا بتعريف بلاد المغرب. فكلمة المغرب كانت تعني في البداية بالنسبة لإخواننا المشارقة، البلاد التي تغرب منها الشمس. وأطلق إسم المغرب الإسلامي في مرحلة لاحقة على البلدان التي تقع غرب القاهرة في مقابلة المشرق الإسلامي الذي يقع شرقها أيام الأمبراطورية العباسية. وعندما استقل القسم الغربي من الأمبراطورية الإسلامية عن الخلافة في بغداد، بعد سقوط الحكم الأموي أصبحت هذه الجهة من العالم تسمى الغرب الإسلامي. وكانت تضم ليبيا الحالية وتونس والجزائر والمغرب وموريطانيا وبلاد الأندلس. إلا أنه عندما جاء الإستعمار إلى المنطقة وفي إطار الترويج للأطروحة الإستعمارية، أطلقوا على هذه الجهة من العالم العربي تارة إسم بلاد البربر وتارة إسم شمال إفريقيا. وأحيوا بذلك التسمية القديمة التي كان الرومان قد أطلقوها على سكان شمال إفرقيا،” بلاد البربر”. وكانت كلمة بربر إذاك تعني الأجانب عن الأمبراطورية، وهي تسمية قدحية كانت تعني أيضا الناس المتوحشون الغير المتحضرين. وبعد استقلال دول هذه المنطقة عن الإستعمارين الفرنسي والإيطالي وانضمامها إلى الجامعة العربية بعد تأسيسها سنة 1945 ، أصبحت تسمى دول المغرب العربي في مقابلة دول المشرق العربي. لكن بعض الناشطين في الحركة الأمازيغية اليوم يرفضون هذه التسمية، ويريدون إطلاق إسم تمزغا عليها أي بلاد الأمازيغ. وهذا الطرح يتجاهل حقائق التاريخ والتركيبة الإثنية لشعوب المنطقة. فقد سبق لنا،في أحد أبحاثنا أن بينا أن هذه البلاد قد انصهرت فيها روافد ذات أصول متعددة، عربية، أمازيغية، زنجية إفريقية، فارسية، تركية، أروبية أندلسية، بل حتى أمريكية، بحيث يصعب اليوم التمييز بينها، وفصلها عن بعضها البعض.
8- هل تقرب المقررات التاريخية المعمول بها في مدارسنا حاليا بين شعوب المنطقة وهل تعاني من إشكالية يلاحظها التلميذ وتتجاوز الأستاذ؟: حظي تاريخ المغرب العربي، كما هو معلوم، باهتمام كبير من قبل الباحثين الفرنسيين. لكن المتصفح النابه لببليوغرافية الإرث الإستعماري المتعلقة بتاريخ شمال إفريقيا، يقف بسهولة على الطابع التجزيئي القطري لتلك الدراسات. فأغلب الأبحاث الإجمالية التي كرست لهذه المنطقة، في عهد الإستعمار، تركز على التاريخ الإقليمي، ويندرج كثير منها تحت عنوان، تاريخ المغرب، أوتاريخ الجزائر، أوتاريخ تونس. وقد تفطن الأستاذ العروي لهذه الملاحظة، عندما أصدر كتابه باللغة الفرنسية” تاريخ المغرب، محاولة تركيب”. L’histoire du Maghreb. Essai de synthèse). والمقصود بالمغرب هنا، هو المغرب الكبير وليس المغرب الأقصى، علما منه أن هذه المنطقة قد شكلت، في كثير من حقب تاريخها، وحدة سياسية متجانسة، دينيا وبشريا، ومذهبيا. وقد استهدف أولئك الكتاب من وراء تلك الأبحاث، تكريس التجزئة القطرية، وإقامة الحدود التاريخية، لفصل بلدان المنطقة عن بعضها البعض. وقد اتبع الجغرافيون، نفس الخط، عندما وصفوا طبيعة البلاد، وجعلو مثلا، الوحدات الطبيعية للبلد الفولاني، تنتهي عند الحدود السياسية لجاره المباشر. كما حصروا مجال تنقل القبائل داخل الحدود السياسية لكل بلد. وفي هذا الصدد، عندما يرجع المرء إلى المقررات الدراسية عندنا، ويقرأ مضامينها، يلاحظ أن الخطاب الإستعماري لازال يعشش في الكثير من مكوناتها. ولا يدرك البعض من المدرسين والمشرفين على التربية والتكوين عندنا، خلفياته السياسية ومراميه الإيديلوجية، من قبيل مقولة، سكان المغرب الأولون هم البربر التي لقنت لنا، ونحن أطفال صغار، لزرع التفرقة بين أبناء الشعب الواحد.
9 – أنتم ، كسيرة ذاتية، كيف نقترب من ملامحها، باعتبار المؤلفات التي أصدرتموها، بدون مساعدة ،أو دعم من أحد؟: أنا من الجيل الذي ولج المدرسة بعد حصول المغرب على استقلاله السياسي مباشرة، وهو جيل تشبع بقيم الحركة الوطنية التي كانت سائدة أنذاك. وأعني بها قيم الجدية وحب الوطن ونكران الذات، والتطلع إلى غد أفضل. وفي هذا الصدد، لازلت أتذكر أنه في ذلك الزمن، كانت مجموعتنا المدرسية لا تتوفر، كغيرها من مدن ومناطق كثيرة من المغرب على الأقسام الكافية لإستيعاب العدد المتزايد من الأطفال في سن التمدرس، وكيف حث المغفور له محمد الخامس المغاربة على التغلب على هذا الخصاص، عندما خاطب شعبه قائلا:” ثقفوا أبناءكم ولو تحت ظل شجرة”. في هذا الجو من الحماس الوطني، وإقبال المغاربة على تعليم أبنائهم، تلقيت تعليمي الإبتدائي والإعدادي على يد عدد من خيرة المعلمين والأساتذة المغاربة والفرنسيين، والجزائريين. وكانت مضامين المقررات الدراسية وقتئذ، شبيهة بما كان يدرس في فرنسا. وقد استفدنا من طرق التدريس الحديثة المتبعة آنذاك، والتي كانت ترمي أساسا إلى تنمية القدرات العقلية، والفكرية، والنقدية للمتعلمين، على خلاف ما نشهده الآن. كان المغرب في بداية الستينيات من القرن الماضي، في حاجة ماسة إلى المدرسين. وكانت وزارة التعليم في ذلك التاريخ، قد أصدرت قرارا فريدا من نوعه، يمنع كل تلميذ بلغ سنه 17 سنة من متابعة دراسته الثانوية. الأمر الذي أدى إلى انتفاضة 1965، كما هو معلوم. في أعقاب هذه الأحداث، التحقت بسلك التعليم، وقمت بتدريس اللغة الفرنسية في المدرسة الإبتدائية في البادية أولا، قبل أن أنتقل إلى العمل بمدينة فاس. لكن الحنين إلى مواصلة دراستي العليا لم يفارقني أبدا، ولم أتقبل وضعيتي كمدرس في الإبتدائي إلا على مضض، في سنة 1973 تقدمت إلى امتحان شهادة الباكلوريا كمرشح حر، ونجحت في الدورة الأولى نظرا للمستوى الجيد الذي كنا نتوفر عليه في ذلك الوقت، والناجم عن العصامية والإستمرار في التثقيف الذاتي اللازم للقيام بمهام التدريس وفي 1975 حصلت على دبلوم السلك الأول من شهادة الإجازة، الذي مكنني من التدريس كأستاذ للسلك الأول في الإعدادي، ثم نلت بعد ذلك شهادة الإجازة سنة 1977، وولجت بها مرحلة التدريس في السلك الثانوي، ثم شهادة استكمال الدروس سنة 1979. وفي سنة 1984 حصلت على دبلوم الدراسات العليا من كلية الآداب بالرباط، عينت على إثرها أستاذا باحثا ومكونا لأساتذة التعليم الثانوي في المدرسة العليا للأساتذة بالرباط ثم فاس. وفي سنة 1998 حصلت أيضا على دكتوراة الدولة من جامعة بروكسيل الحرة ببلجيكا، لأختم بذلك مسار تعليمي العالي. كل هذه المراحل الجامعية تمت على نفقتي الخاصة وفي ظروف صعبة، ولم أستفد من دعم لا مادي ولا معنوي، ولا من فرصة للتفرغ لإنجاز تلك الأبحاث، ناهيك عن العراقيل الإدارية والإجرائية، علاوة على هذا وذاك فأغلب تلك الأعمال قد تمت بموازة مع مهام التدريس، والإشراف على أبحاث الطلبة ومتابعة تداريبهم وتكوينهم. وهذا يتطلب طاقة كبيرة للتحمل وإرادة قوية للاستمرار في العمل، وبدون ملل أو كلل. لكن هذا المسار الطويل والشاق أثمر في النهاية عددا من الأبحاث التاريخية والتربوية، التي أصبحت مرجعا لكل الباحثين والمدرسين على السواء وهذا هو عزاؤنا في نهاية المطاف