تازة بريس

في رحاب أعلام جامعة مغرب الأمس .. السسيولوجي عبد الكبير الخطيبي ..

-

تازة بريس

محمد القاضي

 رحل الكاتب والمفكر والسسيولوجي المغربي عبد الكبير الخطيبي في ربيع سنة 2009 بمدينة الرباط عن عمر ناهز 71 سنة، وقد وصفه الكاتب نور الدين أفاية بأنّه كان وسيبقى مثقفاً يمتلك كلّ شروط الجدارة الفكرية في سياق ثقافي مغربي، كان يخرج بصعوبات كبيرة من الارتهان الفقهي التقليدي الذي قامت عليه الثقافة المغربية. وهو وإن تناول موضوعاته بلغته المميزة وبأسلوبه الخصوصي الحديث دوماً، فإنّه لم يتعب نفسه كثيراً في المرافعات التي سجنت مناقشات ومساجلات المثقفين المغاربة منذ الستينات.

ويُعدّ عبد الكبير الخطيبي من العلامات المتميزة والبارزة في المشهد الثقافي المغربي والعربي، نظراً لعطاءاته المعرفية المتنوعة بين الإبداع والفلسفة والسوسيولوجيا. قدّم أكثر من عشرين كتاباً شكّلت أفقاً جديداً للبحث العلمي السوسيولوجي والسيميائي المنفتح على اللامفكر فيه. اتسمت أعماله بالخصب والثراء وهي لا تخلو من مشاق إعمال الذهن والتفكير والغوص فيما وراء المعنى. الأمر الذي دفع الباحث والناقد الفرنسي الشهير (رولان بارت) إلى أن يقول في حقه ما يلي: “إنّني والخطيبي نهتمّ بأشياء واحدة؛ بالصور والأدلة والآثار والحروف والعلامات. وفي الوقت نفسه يعلمني الخطيبي جديداً، يخلخل معرفتي، لأنّه يغير مكان هذه الأشكال، كما أراها، يأخذني بعيداً عن ذاتي، إلى أرضه هو، في حين أحسّ كأني في الطرف الأقصى من نفسي، كما أنّه في علمه دائماً يبحث عن الجديد ولا يقف أبدا عند عتبة الأبواب، إنّه يلجها بكثير من المغامرة وكثير من الحذر العلمي الباهر، إنّه يفكّكها ويعيد تركيبها من جديد، إنّه يمتلك القدرة على الغوص في أعماق الأشياء. ولد عبد الكبير الخطيبي سنة 1938م بمدينة الجديدة، نشأ في حضن والده الملم بالفقه، فكان له الفضل في تعميق ثقافته العربية الإسلامية ورصانتها.

تلقى الخطيبي تعليمه بمسقط رأسه وفي مراكش التي أنهى بها دراسته الثانوية. ليلتحق بعد ذلك بجامعة السربون الفرنسية ليحصل سنة 1965 على شهادة الدكتوراه بأطروحته عن (الرواية المغاربية)، وقد أصدرها لاحقاً سنة 1968م، وقام بترجمتها إلى اللغة العربية الناقد والروائي محمد برادة سنة 1971م. ويستمدّ قيمته من اختيار متن روائي من المغرب والجزائر وتونس، ويكشف الكتاب في فصوله السبعة إلى جانب المدخل والخاتمة عن المفاهيم التي يحرّكها ويستقدمها الكاتب من التحليل السوسيولوجي والبنيوي الذي لم يكن بعد قد أدرك في العالم العربي والمغرب ضمنياً، ومن هذه المفاهيم: (الوضع: Le Statut) و(المثاقفة: L’acculturation) كما أنّه لم يميز بين النصوص المكتوبة بالعربية والنصوص المكتوبة بالفرنسية.

وأقّر الخطيبي بأنّ سفره من مدينة الجديدة إلى مراكش سنة 1949 رغبة في التحصيل الأولي، وعمره آنذاك أقلّ من اثنتي عشرة سنة. كانت بالنسبة إليه تجربة في الحياة كما كانت تجربة في الكتابة، لأنّ هناك اكتشف سحر المطالعة. فتجربة الكتابة لديه تفجّرت من سفر بين مدينتين: الجديدة- مراكش. والسفر هو لدى الخطيبي مسألة أخرى عرفت كيف تحفر لها أخاديد في إبداعه. بحيث يقول: ذهبتُ إلى باريس في فترة معينة مهمّة في فرنسا، كان فيها تحرك سياسي كبير: الصراع بين فرنسا والحركات السياسية في العالم الثالث (إفريقيا بالخصوص)، وهو صراع يطرح أمام كلّ مفكر مناسبة للتفكير في هذه القضايا السياسية. كما كان فيها ازدهار ثقافي مهم سواء على صعيد الكتابة (الرواية الجديدة، المسرح، السينما) أو على صعيد الفكر (انتشار الوجودية الماركسية وبعد فترة قليلة انتشار البنيوية)، وقد حاولتُ أن أشارك في تلك الأنشطة والمجالات. رجعتُ إلى المغرب، وبدأتُ ممارسة جديدة في ميدان الجامعة وخاصة في معهد العلوم الاجتماعية وداخل كليّة الآداب”. اختار الخطيبي اللغة الفرنسية لغة تعبير: “وكانت بالنسبة إليّ، وأنا طفل، لغة صامتة منحصرة في القراءة وأداء بعض الفروض المدرسية. أقول لغة صامتة لا ميتة كما هو حال اللغتين اللاتينية والإغريقية بالنسبة إلى عدد كبير من فرنسيي جيلي، كانت واجباً ومادة تعليمية وزاهداً يحاصرنا داخل دير للخشوع والشك والتيه. لم نكن نتحدث بها إلى أيّ أحد. هذا اللا أحد كان يرتدي قناعاً، وكنت أجاوره هناك في المدرسة وفي الشارع. الفرنسية كلام صمت فرض علينا. وكان عليّ أن أتأقلم معه…، كانت هذه اللغة الصامتة تمديدها لي خارج كلّ قصور أو احتباس في القراءة”.

بهذه اللغة بدأ الخطيبي حياته الثقافية بالكتابة الإبداعية وكان له عشق خاص للكتابة وللكتاب، وكانت باريس منطلقاً لإبداعه وإنتاجه الفكري فرحّبت به الأوساط الفرنسية فكرياً وفلسفياً وأدبياً، فتعددت مواصفات الكتابة عنده، فهو تارة في السوسيولوجيا، وتارة في الأدب، وتارة في الفلسفة والإيديولوجيا وتارة في السيمياء، ومن ثمّ فهو بحسبان غزارة إبداعه يستعصي على التصنيف في خانة من الخانات، وإجمالاً نقول إنّه مبدع مغربي وعالمي لا يمكن التعامل معه من مستوى تبسيطي، يؤمن بأنّ “حضارة الكتابة حضارة عظيمة بالفعل، فالإبداع شيء أساسي بالنسبة إليّ، لأنّني حتى قبل أن أكون كاتباً، كنت أعيش علاقة مع الكُتّاب الأحياء والأموات من خلال إبداعهم، الذين عملوا من خلاله على تدوين الذاكرة الإنسانية، فأنا لي عقد خاص بجماعة الكتّاب والمبدعين”. المهم عنده هو أنّ الكتابة ليست شيئاً مستمراً إنّها شيء متمزق وليست مشروعاً دائماً، وإنّما ممارسة جذرية. وسؤال الكتابة هو محور كلّ ما يكتبه الخطيبي وهاجس الإبداع هو انشغاله الأساس، صريح في مواقفه، منخرط في إشكاليات وطنه وأمّته، مثير للجدل، لأنّه دائماً يخترق القواعد والبدهيات ويضع السؤال أفقاً للكتابة، (السؤال باعتباره الحركة التي يغير فيها الوجود مجراه) كما عبّر عن ذلك موريس بلانشو. “ونصّ الخطيبي مسكون بلغات وثقافات متعددة، وهذا التعدد يجعل منه نصاً يقاوم كلّ انغلاق أو انسداد ولو كانت ذاته نفسها، إذ أنّ عمق ذات الخطيبيـ ككتابة- يعمل من أجل كشف وتصفية الحساب مع لغة وكلام يحتجزه ويراقبه المجتمع. من هنا تأتي ضرورة الحديث عمّا يبدو صامتاً في المجتمع وما يتحالف الجميع على تركه منسياً، أو على الأقل تهميشه بعدم الحديث عنه”. إنّ إشاعة الثقافة الفرنسية عبر اللغة نفسها وعبر ثقافة هذه اللغة، هي نفي بحدّ ذاته للنص العربي في سياق التغريب التفكيكي الفرنسي كما عبّر عنه الخطيبي، حيث يبدو واضحاً في موقفه القطيعي التغايري الذي يستند إلى دريدا ـ ستراوش ـ ماركس.

برع الخطيبي في حلّ قواعد اللغة الفرنسية، وعرف كيف يتعامل معها من موقع المعالج والمفصّل لرموزها وأسرارها، فكانت لسان التأليف الأول عنده وأصبح واحداً من المفكرين الطليعيين الذين شغلوا الساحة الفرنسية والمغربية في حقبة السبعينات من القرن العشرين، التي شهدت ذروة الاحتدام الإيديولوجي والصراع الفكري المتعدد عقائدياً وسياسياً، وبين حال الاغتراب في فرنسا وواقع العودة إلى المغرب، راح يمارس ما سمّاه (النقد المزدوج) “نقد يطال التراث ويطال الغرب باعتبارهما معاً سلطتين مرجعيتين عائقتين أو معوقتين. فالغرب ينطوي على مطلقية غير مشروعة، صريعة ادعائها العقلاني الكوني، فيما هي تنطوي، في هذه الكونية الزائفة، على أكثر من نزعة مركزية أوروبية إلحاقية تتعالى على الثقافات(الطرفية) وتطيح بشخصيتها الخاصة النابعة من طبيعة المجتمعات التي تنتجها، رافضة الاعتراف بها في مظهر من مظاهر انفجار نزعتها الاستعمارية الدفينة.

أمّا التراث فهو المطلق الآخر الذي يستقيل عنده التفكير ويتوقف الاجتهاد، ولا سبيل في نظر الخطيبي إلى إنتاج حداثة جديدة إلا بالتحرر من سلطة التراث والغرب، وذلك بتفكيك الكليّات المغلقة التي ينطويان عليها، وفضح النزعة المطلقية المتحكمة في نسيج الرؤية لديهما. نستشفّ من هذه الدعوة الجادّة إصرار الخطيبي على بلورة كتابة مغايرة تندرج في عملية تنظير نقدي للمفاهيم التي أنتجتها المنظومة الفكرية للغرب أولاً، والأدوات التي يشتغل بها السوسيولوجيون العرب ثانياً. النقد المزدوج مهمّة إبستمولوجية تقوم بتفكيك كلّ المفاهيم وإخضاعها للمساءلة. ومن هنا يجب: أن نعيد التفكير من جديد في التاريخ والمعرفة لا بالنسبة إلى مركز أو أصل (الغرب) كما كنا نفعل من قبل، ولكن كما يسميه عالم اجتماع مصري: (عقلانية ذات متغيرات متعددة)، وغير خافٍ أنّ أقوى سيطرة (على مستوى المعرفة) هي التي تجعل المسيطر عليه يصل إلى الاعتقاد أو التفكير بأنّ نقطة ومركز وأصل كلامه هو نفس نقطة ومركز وأصل المسيطر.

لقد أفرز الخطيبي كتابة مغايرة داخل حقل السوسيولوجيا، هذه الكتابة لن تجد لذتها إلا بعد ممارسة النقد على الكتابة القديمة، وبلورة كتابة جديدة تقول بنقد مزدوج، وقد صاغ هذا في كتابه السالف الذكر، إنّه نقد ينصبّ علينا (العرب) كما ينصبّ على الآخر (الغرب). إنّه “مجابهة بين الميتافيزيقا الغربية والميتافيزيقا الإسلامية”. تنبذ وتمقت (الاختلاف الوحشي) الذي يقذف بالآخر في خارج مطلق، هذا الاختلاف الوحشي الذي ينسى ويتجاهل أنّ الآخر سكننا، قائم في ذواتنا، وأنّ الإنسان الشرقي هو غربي صعب المعالجة. إنّ الأمر يتعلق باختلاف عام يمسّ الجوانب الاقتصادية والسياسية والثقافية…، وبإعادة صياغة أسئلة جديدة على المجتمع والسياسة والثقافة.

أجمع العديد من النقاد على أنّ كتابه (الذاكرة الموشومة) الصادر ضمن سلسلة الآداب الحديثة، دونوبل بباريس 1971، ترجمه إلى العربية بطرس الحلاق 1984، يشكّل سيرته الذاتية وهو بمثابة البرنامج الأساسي للكتابة عنده، فإنتاجاته التي سترى النور في حقبة تاريخية تالية لن تنحاز عن أهمّ القضايا والمؤشرات التي جاءت في ذلك الكتاب، ويحكي عن سفر أحد المغاربة في الجديدة والصويرة ومراكش، والرباط وباريس ولندن، كما يحكي عن صنف التمرين على الغيرية الذي سيطبع كاتب المستقبل، أو هو حسب ما كتب الخطيبي نفسه فيما بعد: “لغز اشتقاق جماعي وضروري ضدّ التعصب، والإهانة، والخراب الطائش للبشرية والفوق البشرية.”. ويرى الباحث عبد الرحيم العلام أنّ نصّ (الذاكرة الموشومة) انطلاقاً من الأشكال التعبيرية التي يستخدمها في طرائق الحكي، وانطلاقاً من نوعية الميثاق الذي يعقده المؤلف مع القارئ، يأتي لغاية التأكيد على التطابق (IDENTITE) بين المؤلف والسارد – الشخصية الرئيسة، وهو ما يسمّيه (لوجون) الميثاق الأثوبيوغرافي المشار إليه بشكل ضمني (IMPLICITE)، كما في النصّ الفرنسي عن طريق (استعمال عناوين لا تترك أيّ مجال للشك في أنّ ضمير المتكلم في النصّ يحيل على اسم المؤلف (قصة حياتي- سيرة ذاتية…إلخ). جرّب الخطيبي الحكي العاري لكن بعمق المتمكن وحكمة الفيلسوف، فبدأ من حيث ينتهي الآخرون، فلا غرابة في أن تكون السيرة هي المبتدأ، لقد نجح أكثر من سواه في التوثيق بين غربة اللغة وصورة الذات، آزرته في ذلك ثقافته العميقة ومراسه الأكاديمي: (أشرف على إدارة معهد السوسيولوجيا من 1966 إلى 1970 ثم أستاذاً بجامعة محمد الخامس بالرباط فمديراً لمركز البحث العلمي، المغرب)، ونزعته الإبداعية التي حملته على خوض غمار الشعر والرواية والتأمل الفلسفي، “ولكنّ المقياس الرئيسي بالنسبة إليّ في كلّ هذه التجارب هو توحيد هذه المناهج ضمن كتابة موحدة ذات طابع أدبي أساساً، وإن كانت لي دراسات غير أدبية، ولذلك فالتعدد هو من جهة يرتبط بتعدد اهتماماتي، ومن جهة أخرى فالحياة هي تعدد أيضاً…، أي أنّ هناك تعدداً في الحياة اليومية في الاقتصاد وفي المجتمع”.

إنّ الاجتهاد الشخصي في ميدان الكتابة يعتبره الخطيبي حواراً مع المعاصرة، والمعاصرة تدخل ضمنها في رؤيته مسألة الهويّة والتراث والماضي، هويّة مستقلة كمجموعة آثار من الماضي أو الحاضر وغير مقروءة. إنّها كتابة تشغل اللغة وتعيد ترتيب النوع في اتجاه إحاطته بالنسبية والتجريبية والعرضية، إنّه يريد أن يؤسس داخل الفكر العربي المعاصر نمطاً جديداً للسؤال. “إنّ منهجية التساؤل هي مشروع في حدّ ذاته، فتحت باباً في علم الاجتماع مع آخرين، وساهمت في تأسيس بداية لمدرسة اجتماعية في المغرب، ثم انتقلت إلى الاهتمام بالثقافة الشعبية باعتبارها جزءاً من المجتمع، لأنّي أهتمّ بالفئات الصامتة والمكبوتة. ولأنّي أدركت أنّه لا يمكن أن نتكلم عن المجتمع إذا لم تكن له كلمته ضمن التحليل نفسه، كان هذا بعد أن أدركت نوعية العلاقة الرابطة بين كبت المجتمع وكلام المثقف. عدت إذن إلى أسس الثقافة الشعبية في الأدب الشفوي والفنون الشعبية والعادات والحياة اليومية، أي أنّي انتقلت إلى البحث في الحياة اليومية من الناحية الاجتماعية والسيميائية، وبهذا فتحت باباً آخر فتح بدوره المجال للعديد من الكتابات حول الثقافة الشعبية في هذه الجهة أو تلك وحول الوشم وحول الموسيقى وحول أشياء أخرى عديدة”.

كان يطلب دائماً من الذين يهتمّون بفكره أو بكتاباته أن ينظروا بعمق إلى ما يقول، وهل فعلاً قال شيئاً أم لا، “إنّني أحترم القارئ احتراماً شبه مقدّس، وهذا الاحترام يدفعني إلى أن أعطيه المستوى الجيد والعالي. قارئي ولو كان فقيراً مغربياً أعطيه ما هو في المستوى، لا يمكنني أن أحتقره وأعطيه فكراً متخلفاً. إنّني أحترم جميع القرّاء، لهذا فسواء في الصحيفة أو في المحاضرة فأنا أحترم دائماً القارئ والمستمع. وهذه الصعوبة تدفعني إلى أن أطلب من القارئ أن يتقدّم ويجتهد”. وقد لعب كتابه (الاسم العربي الجريح) دوراً مهمّاً في توجيه منهجية تحليل الثقافة الشعبية، كما اقترح مذهباً يمكن استثماره في مجالات أخرى. بالإضافة إلى هذه الأمور فقد فتح باباً آخر ربط فيه بين علم الاجتماع والتحليل النفسي، حيث قام بدراسات حول الجنس في القرآن الكريم. وحول مفهوم الجسد وحول مسألة الجنون وقضايا أخرى. يقول الأستاذ محمد بنيس مترجم الكتاب إلى اللغة العربية: “عندما قمت بترجمة الكتاب شعرت بأنّ ما يريد قوله الخطيبي عن الثقافة العربية هو شيء جديد، ومن الممكن أن يكون له أثره في الفترة الثقافية للثمانينيات، وسبب ذلك هو أنّه كتاب يأتي بمنظور جديد للجسد (العربي) وللثقافة الشعبية، ومصدر هذا المنظور الجديد هو المرجعية المعرفية التي اعتمدها الخطيبي. إنّها مرجعية تعتمد اللسانيات والسيميائيات والتحليل النفسي والبنيوية النقدية التي كانت مؤثرة في الحقل الفلسفي، وجميع هذه المعارف كانت تجد ذاتها غريبة عن الحقل الثقافي العربي، ولكنّ هذه المعرفة تصبح الدهشة أمامها مضاعفة عندما تتجه إلى الثقافة الشعبية، إذاً كنت أمام كتاب تبين لي أنّه سيفيد الثقافة العربية إلى حدٍّ بعيد. ويمكنني القول الآن إنّ صدور الكتاب شكّل حدثاً ثقافياً في عموم العالم العربي.” فمشروعه إذن ليس مشروعا تجريدياً محضاً، كما يقول بعض العلماء، وإنّما يقوم باكتشاف المجالات خطوة خطوة. “أنا أكتب دائماً انطلاقاً من علاقتي مع الواقع، ولا أكتب انطلاقاً من المتخيل فقط”.

وتتميز كتابات الخطيبي بكونها نصوصاً تفضي إلى بعضها بعضاً وتتخذ من أرضيتها مرجعها، ولها بروتوكولها في النصّ الأدبي عند لقائه بالنصّ النقدي. وما النصّ عنده إلا لعبة جدية تنهض على دأب ليس ببعيد عن دأب عالم آثار. “أعتبر الباحث خريطة للآثار الوجدانية التي يعيشها فردياً وجماعياً، فهو ليس خارج التاريخ بل داخله، ونتيجة لعنصر صغير في سيرورة التاريخ، وبذلك فأنا كمغربي، ولدت في ظروف متميزة وخاصة، فإنّ كلّ ما هو مغربي أو عربي أو إسلامي، وكلّ ما هو وطني سواء ما ارتبط بمرحلة ما بعد أو ما قبل الاستعمار، كلّ هذه المكونات هي موجودة في هذا الشخص، وهذا الشخص استطاع ترجمة بعض الأشياء، دون أخرى ظلت مكبوتة بداخله”.

لقد وشم الخطيبي الذاكرة العالمية بأعمال متعددة، شملت معظم فروع الأدب وفنونه، وقد تُوّج بأعرق جائزة فرنسية وهي (جائزة الربيع الكبرى سنة 2008م، التي تمنحها جمعية (أهل الأدب)، وهي من ضمن الجوائز الأدبية الرفيعة، إذ يعود تأسيسها إلى سنة 1838م. قال عنه الأكاديمي الدكتور عبد السلام بنعبد العالي: “برحيل الفقيد العزيز عبد الكبير الخطيبي يفقد الفكر العربي المعاصر مفكراً يمكن أن يُعدّ بحق من الذين طبعوا جيلاً بكامله، وحاولوا أن يفتحوا الفكر العربي والكتابة العربية والنقد العربي والإبداع العربي على آفاق مغايرة، “لم يتقدّم لها مثيل”، كما كان يحلو لعبد الكبير أن يقول باللغة الفرنسية. لطالما نادى باعتناق فكر مغاير ونقد مزدوج. لا يسلك مسلك العقل ولا مسلك اللاعقل كما فكر فيهما الغرب. وإنّما يحدث خلخلة مزدوجة تقيم فكراً متعدداً لا يضمّ الآخرين إلى دائرة اكتفائه الذاتي. ذلك ما كان يأخذه على المعرفة العربية الراهنة، هو كونها ظلت على (هامش) المنظومة المعرفية الغربية. فلا هي داخل تلك المعرفة بما أنّها معرفة تابعة ولا هي خارجها، ”لأنّها لا تعمل فكرها في الخارج الذي يؤسسها”. لقد تخطّى أثره اللغة الفرنسية وقرّاءها، وتجلى أيضاً في الثقافة العربية، لا سيما بعد ترجمة معظم أعماله إلى اللغة العربية،وعرفت رواجاً في الأوساط الأدبية، وحظيت بدراسات نقدية وأكاديمية وتعاقبت على نشرها مدن عربية عدة. 

إلغاء الاشتراك من التحديثات