تازة بريس
سعيد عبد النابي
لا يزال طيف أبي يغازل خيالي في الليل والنهار، لن تفارق تفكيري ما حييت صورته كان الفراق صعبا بعض الشيء، فقبعت بعد رحيله وسط طقوس اختلطت فيها الأزمنة، وتصاعدت الصور كخيوط دخان من بخور يستحيل أن يكون عوده من أغراس هذا الكوكب الأزرق، لمم اعترت الذاكرة، ولسعات آدت الشغاف، إلى أن ترقرقت في بعض الأحيان الدموع في مآقي. الغطس في أعماق الماضي ألهمني الكتابة، لاسيما وأبناء باب المروج نبعا لا ينضب معينه، إطلاقا، وذابت في محراب التأمل همومي فتحقق لي في الانزواء العزاء، تجلت الحكايات مغرية فاتنة، يأخذ سحرها اللب، ويقتلع الروح أعادتني إلى صغري، كأنني عدت لاقتفي أثر خطواتي الأولى على أديم الأرض، غائصا في أعماق ذاكرتي، الشيء الوحيد الذي لم ينل منه الزمن بصري، أظن أني سأظل أراقب الحركات في صمت، رأيت أبي في معارك شتى خارقا للعادة، وفي الحقول كان يعلمني فنون الزراعة، وعلى الطريق كنت اسعد كثيرا بصحبته، وأثناء العمل استمتع ببوحه، كم حدثني عن أبيه علي، أو عن جده عبد النبي، صرت مدينا له بمعرفة أصلي، أدركت بفضله أني غصنا ريانا من شجرة كبيرة فنواء، بالثمار مثقلة.
كنت أديم التساؤل، هل كان الأجداد حقا وحوشا؟ أم أن عشقهم للدولة افقدهم عند غيابها السيطرة على سواعدهم، عهد (السيبة) كم كان القتل معتمدا في دواويرنا، كل واحد يريد أن يكون الأقوى .. فقط ليبقى، قال لي احدهم أن جدي أزهق فوق العشرين روحا، وانه في مناسبة حاول منع عزرائيل من نزع روح حبيبته، كم ضحكت لما سمعت الحكاية، ودارى الحاكي خجله بتكرار الحكي لمزيد من التوكيد، أضاف انه لوح بهراوته غاضبا، وهم باقتحام غرفة المحتضرة، ومحمادي يردعه، وجدي يدفعه، ومحمادي يصرخ: الرجوع لله اعبد النبي … الرجوع لله، وأنا اضحك .. وانصحه أن لا ينشر الخبر بين الناس، وهو يردد علي أسماء، كأنه يستدعي أصحابها للشهادة…. آه .. آه يا جدي.. آه يا جدي..عزرائيل ؟ عزرائيل؟ عزرائيل الذي أزهق أرواح سيدنا آدم و نسله، وبعدهم الملائكة ، يهدده جدي بهراوة من شجر الدردار ؟؟ قصص كثيرة غيرها، شنف بها آذاني جيرانه.. في الحقيقة..إلى سمعي تناهت حكايات كثيرة، تداولتها ألسنة الساكنة، لو وثقت في روايات، لكانت لسينما الرعب زادا، هل لا يزال الباس (بتخفيف الباء) حيا يرزق؟ كانت تستكين أمامه الثعالب، تعلم مسبقا أن الإفلات من قبضته مستحيلا، علال .. سمعت به ربما عاش أواخر القرن التاسع عشر، لا اذكر اسمه بالضبط اخترت له علال اسما لأجل القصة لا غير. رمقت بوبهايم ينتظر الطاكسي قرب ليراك لم أرغب في إحراجه، رايته من خلال صوره المختزلة في ذاكرتي كان إذا نطح بغلا لم يمتثل لأوامره، يفقده وعيه.
السيد محمد عويش احتسيت القهوة معه قبل وفاته، أهم ما شدني إلى ذاك الجبل طول قامته، ثم كفه، زاده الله بسطة في الحجم دون اكف الناس، عرفني به رئيس أول جمعية ساهمت في تأسيسها حبا في تنمية المنطقة قبل نهاية العقد الأول من هذا القرن، رغم كبر سنه وقد عتا، لم يفارق الانبساط أسارير وجهه، حدثنا عن أبناءه الثلاثة والعشرين الموزعين بين أوروبا وأمريكا والمغرب، من أربع زيجات.. جمع فيها الفرنسية بالمغربيات، ثم عرج على ذكر مغامراته مع الجيش الفرنسي في القارات الخمس، استوقفني في سيرته اسم بلفور، هناك أصيب وبترت ساقه، ومن هناك داع الوعد المشؤوم (وعد بلفور)، تقطعت به أوصال الأمة العربية برمتها، كان عويش محظوظا، استفاد من إعاقته، تحولت نسبة عجزه من خمسة وثمانين بالمائة إلى مئة بالمائة، فتجاوز تقاعده سقف المليوني سنتيما، كان يربت عليها كأنها لعشيقته، ويكرر نطق كلمة: الحبيبة . بلغ العلى بفقده ساقا، كأنه الشهيد، يقتل مرة و يتمنى العودة إلى الدنيا ألف مرة، لتتكرر عملية تسليم الروح إلى واهبها… وهو فقد قدما، لو أسعفته الأقدار، كان قدم أشياء أخرى، لينصب له تمثالا على رأس برج إيفل بباريز، أبدى شجاعة فائقة بإنقاذه الضابط الفرنسي المصاب معه، أوصله على كتفيه بر الأمان، نال لقب البطل، كل ساكنة مدينة لافال كانت تناديه بالبطل، وكل رؤساء فرنسا في عهده كانوا يشدون على يده بحرارة، ويتأملون وجهه مليا، كأنهم يبحثون عن الحقيقة في عينيه…وكان يصرح دون مركب نقص، انه كان راعي غنم ولما حان أجل التجنيد جنده صاحبه .. لم يكن أبوه موسرا ليصرف على تمدرسه .. ولم ينل شهادات من الغرب .. لكنه كان البطل…رحم الله جميع اموات المسلمين .. الحقيقة .. لكل دوار قصصه ..
جمعوي وكاتب ..