تازة بريس

في رحاب”الوالي سيدي عَزوزْ مُول تازَا ودْراعْ اللُّوز”للفنان الحاج ن.العماري

-

تازة بريس

عبد السلام انويكًة

يعرف عند عاشقين مولوعين ب”النظم العامي” حيث السرد القصصي  فضلا عن بلاغة تعبير وصدق صورة، يعد من أغنى فنون تراث المغرب الأصيل حيث عذوبة لفظ وسمو معاني، وهو إرث فني رمزي مغربي كان بطبع ومكانة في الماضي ولا يزال حتى الآن بأسماء عدة وتجارب في مشترك البلاد الجمعي. ذلك هو فن الملحون الذي يرتب ضمن أجمل ما استحدثه مغاربة أمس قبل قرون، وما يعرف ايضا ب “السجية” و”الكًريحة ” وغيرها من نعوت أهل الشأن، ولعل كلمة ملحون كما غير خاف عن مهتمين موسيقيين مشتقة من تلحين بل الأصل في شعره كان يروم التغني الذي يهم عامة الناس والمجتمع، إنما بتعبير ولغة راقية تصويرا لمشاهد حياة وتجليات. حول بدايات الملحون المغربي يذكر صاحب وصف افريقيا ما كان بفاس مثلا من إقبال على الشعر العامي، خاصة خلال مناسبة المولد النبوي لِما كان ينظم من قصائد في مدح الرسول(ص) عبر تقليد جمْعٍ واسع صباح يوم العيد بإحدى ساحات المدينة، بحيث يحصل أن يتفوق البعض في هذا النظم والانشاد لتتم مبايعته أميرا لشعراء السنة. مشيرا الى أن السلطان المريني كان يدعو علماء فاس وأدباءها الى قصره بالمناسبة، من أجل الانصات لقصائد شعراء المولدية قبل الإعلان عن فائز منهم يمنحه هدايا ثمينة مادية ورمزية. ولعل الملحون المغربي نظم شعري وزجلي يروم الانشاد الغنائي بنفس ما هو عليه طرب الآلة. على ايقاع طقوس وعادات تجمع بين طبيعة جلسات وألبسة وتفاعل جماعي وفردي وقول موزون ينساب الى وجدان متلقي. فضلا عما ضمن هذا الاحتفاء من موسيقى مغربية أصيلة وآلات متناغمة مع الحفل مثل “السويسن” الذي لا يزال بمكانة خاصة في المشهد، كذا الربابة” ومعها آلات إيقاع مؤثثة مثل “التعريجة” وغيرها.

اشارات ارتأيناها لتسليط بعض الضوء حول تجارب فنية ملحونية ارتبطت بمدن مغربية عتيقة ذات تقاليد تراثية احتفالية مثل تازة، علما أن الملحون المغربي الذي ارتبط بنقاط اصول شهيرة في البلاد هو مدرسة أدبية وفنية بوقع خاص في ذاكرة المغرب والمغاربة عموما، ولعل بقدر ما هو تعبير بلذة تعبيرية خاصة لدى متلقي مستمع رغم تباين ايقاع ولمسة من جهة لأخرى، بقدر ما هو بأعلام واسهامات وبصمات هنا وهناك. بل يعد الملحون مساحة ابداع مليئة بصور انسانية جامعة بين خبر ووصف وطبيعة نطق وألفاظ وغيرها، ناهيك عما يحضر في تيماته من بناء وتفكيك لكائن ثقافي تاريخي ومجالي وانساني جمعي ومحلي، عبر ما يدرج في متونه وأشعاره من أحداث وتطورات وملاحم وبطولات وأعلام وقضايا زمن وانسانية وغيرها. وعليه، فالملحون المغربي إرث رمزي وطني انساني وذخيرة فنية، لِما يحضر فيه من ماض وحاضر وانسان وانسانية مجتمع ومدينة وبادية وأسرار حياة وجمال طبيعة وغيرها. ارتأينا ورقة تحضرها علاقة فاس بتازة من خلال فن ملحون يعد مدرسة بطبع وطبيعة ايقاع وانتماء خاص، للحديث عن تجارب ملحونية تخص جوار فاس حيث تازة تحديداً وما ارتبط بها من ثقافة تصوف وتجليات مدح لأولياء صالحين، باعتبارها جانبا من جوانب بنيات وهوية البلاد الثقافية. وغير خاف أن مدح اقطاب الصوفية كان من قضايا واهتمامات شعراء الملحون عموما منذ زمان، لِما كان لهؤلاء من منزلة تقدير في وجدان مغاربة أمس الجمعي والمحلي. علما أنه ليس هناك ما هو شاف من المعلومة التاريخية حول ماضي فنون تازة التراثية الأصيلة، وهي المعلومة التي تعد في حكم النادر جدا في غياب دراسات وروايات مؤسسة تنويرية، اللهم ما انتعش خلال فترة ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي من بادرة تهم فن للملحون، وقد بلغت أوجها مع تجارب وأسماء من جملة ما كان حافزا لها ما كانت عليه المدينة من ارتباط وثيق بفاس على أكثر مستوى، خاصة من خلال القرويين طلبا للعلم فضلا عن تجارة وعلاقات عائلية وزيارات واستقرار لأسر فاسية وغيرها. ومن ثمة ما كان من أثر في تأثيث معالم فنون طرب آلة وفن ملحون معا، ومن إقبال تازي على إرث  فاس الرمزي التراثي الأصيل في هذا المجال.

والى حين ما ينبغي لفن الملحون بحاضرة تازة من انفراج في جميع الأحوال ومن موقع مزدهر بعد سنوات عجاف وتجارب محدودة جدا منذ أزيد من ربع قرن، لأسباب عدة ومتداخلة تجمع بين توقف اهتمام وأنشطة فضلا عن تحولات نمط تعبير فني وحداثة، وبين غياب أسماء وقدرة من شأنها جعل هذا الجنس الفني التراثي المغربي بمكانة في حفل واحتفاء تازة. والى حين هذا وذاك يسجل لأحد أعلام تازة الملحونيين الفنيين موهبة وعشقا وممارسة وانتاجا وبصمة، ويسجل لأحد الحفاظ المولوعين المتمرسين لقصائد طرب الملحون، بل من جنود فن الملحون التازيين التراثيين الذين عملوا في السر والظل والعلن خدمة لهذا التراث الرمزي، نجد الفنان الحاج نور الدين العماري التازي حفظه الله الذي يشهد له ولا يزال بما كان عليه من فعل وتفاعل وعطاء وتميز وصوت ملحوني قل نظيره الى عهد قريب، علما أنه ليس سهلا ابداً الحديث عن أعلام وشعراء ملحونيين وعلامات ملحونية بتازة، ونفس الشيء ما يخص ويهم باقي الاجناس الفنية التراثية بالمدينة اللهم ما هناك من استثناءات خجولة، بل ليس سهلا وضع تراجم متكاملة علمية لهؤلاء في علاقة بنهجهم الفني ومسارهم ومشيختهم ومدرستهم وسبل تميزهم وطبع هيبتهم وبصمتهم. ولعل الفنان الحاج نور الدين العماري التازي، كان عنوانا ملحونيا بفضل في رسم موقع لفن الملحون بتازة، مؤثثا احتفاءات المدينة لسنوات. بل هو من رواد طرب تراثي يستحق كل ذكر واعتبار ضمن باقي عناوين الفن التراثي الذي طبع ماضي المدينة. بل من الانصاف القول أن الفنان نور الدين العماري من الرعيل الفني التراثي التازي الأصيل المبدع، لِما كان عليه من تملك لمقامات ولمادة فنية تراثية مغربية لحنا وأداء وتعبيرا، فضلا عما هو عليه من موهبة وإلمام بمكامن فن الملحون، فكان بما كان عليه من إغناء مشهد تراثي تعبيري جمالي فني اصيل، ومن اشباع لعشق محبين متعطشين لهذا التراث. مجتهدا في نشره وتقريبه بجعله ضمن عوائد المدينة الاحتفالية. هكذا شكل الحاج نور الدين العماري احالة فنية تراثية مغربية لِما كان عليه ولا يزال من ولع بفن الملحون، وعندما نقول ولع الرجل فمعنى ذلك ما هناك من صلة بسماع وذكر ومدح وترديد مواجيد صوفية وغيرها. هكذا كان صوت هذا الفنان الأصيل يملأ سماء المدينة العتيقة وبيوتاتها ومناسباتها واعيادها لسنوات وسنوات، بل كثيرا ما كان المتلقي لصوته الشجي الروحي من أهالي المدينة يهتز وجدانه حسا وطربا.

جدير بالذكر أن الفنان نور الدين العماري، كان بطبع فني تراثي خاص ونكران ذات وارتباط بأصول نشأة، بل بمكانة ووقع خاص في المدينة منذ نهاية ستينات القرن الماضي عبر مسار فني غني باسهامات وتفاعلات، اجتهد بعصامية خاصة وثابر وجالس شيوخ فن لسنوات وانفرد في جوانب عدة بتعامله مع قصائد كبار أعلام الملحون المغربي، فضلا عما تميز به وتملكه من فصيح أداء وانتاج قصائد منها تلك التي خص بها الولي الصالح “سيدي عزوز”، الشهيرة في الوسط التازي على امتداد عقود من الزمن ب “الولي سيدي عزوز مول تازة ودراع اللوز”. مع أهمية الاشارة لِما كان لهذا الفنان الأصيل التازي من اشعاع وإحياء متميز لمواعيد احتفائية هنا وهناك داخل المدينة وخارجها، على ايقاع ما كان يميزه ويتفرد به من ملكات صوت وحفظ وتمكن من نفائس قصائد الملحون، فضلا عن غوص في سراديبه وأبعاد معانيه وعبقه الأصيل.

ويسجل أنه رغم رصيده ومساره الفني المتميز، ورغم حضوره المحلي كرمز من رموز الموسيقى المغربية التراثية خاصة منها طرب الملحون، ورغم ما كان عليه من بحث وتنقيب وقول مستفيدا مما كان له من علاقات فنية مع شيوخ واعلام المجال هنا وهناك بفاس خاصة، ورغم طاقة صوتية متفردة شجية كان بامكانه أن يظهر بها ضمن ألوان طربية اخرى، فقد ارتأى منذ بداية مشواره ما هو تراث أصيل، ذلك الذي انجب أسماء وعلامات رفيعة المستوى كانت قدوة له. رغم كل هذا من موارد تميز، لم يكتب للحاج نور الدين العماري حفظه الله وهو ابن تازة آبا عن جد أن يظهر بما ينبغي من شهرة وطنية ومن حضن والتفات وعناية وتحفيز. وغير خاف ما هناك من علاقة بين نصوص فن الملحون وبين عالم التصوف، ومن ثمة ما هناك من صقل للذوق الفني لِما لهذه التيمة الروحية الزجلية الشعرية من حضور في الوجدان الجمعي، ولِما لا يزال لهذه النصوص من أثر في مجال الغناء والانشاد والطرب عبر هذا الأسلوب أو ذلك. مع أهمية الاشارة لِما كان ولا يزال لفن الملحون من منزلة في الأوساط الشعبية، خاصة فئة الحرفيين الذين ابدعوا فيه مستحضرين اهتماماتهم ووعيهم الاجتماعي وحسهم الذاتي الروحي. ولعل قصائد فن الملحون هي برمزيات بلاغة صورة ومكونات جمعت بين تشبيه واستعارة وكناية وغيرها، بل مما طبع نصوص شعراء هذا الفن قدرتهم على انتقاء عبارات ومفردات برمزية اجتماعية وانسانية، سياق نجد فيه تيمات شعر الملحون تجمع بين حب إلاهي وحضرة صوفية روحية وطبيعة ومعنى مشاهد، فضلا عن توسل ومدح نبوي وآخر يخص أولياء  وصلحاء. وهنا تدخل قصيدة الفنان نور الدين العماري التازي الشهيرة الموسومة ب” الولي سيدي عزوز مول تازا ودراع اللوز”، التي استهدف بها وبإنشادها استحضار مكانة هذا الولي الصالح في روح وهوية المدينة ووجدان أهاليها، وهذا ليس بغريب عن أهل ملحون منذ قرون والذين كانوا دوما بقصائد في هذا الاطار تعْرف عندهم ب”قصائد جمهور الأولياء”. ولعل لقصيدة تازة المتفردة حول ضريح وولي تازة الصالح قصة خاصة قبل حوالي الأربعة عقود، ذلك أن صاحبها كان خارج تازة في سفرية غرب البلاد قبل أن يتم الاتصال به كفنان عاشق لفن الملحون، في شأن حفل وسهرة وطنية كبرى بتازة، من جملة ما تقوم عليه ابراز معالم المحلي التراثي الرمزي، هكذا طلب منه عملا فنيا تراثيا يستحضر البيئة التراثية المحلية، وهكذا جاءت هذه الاطلالة حول الولي سيدي عزوز ومن خلاله على جانب من جوانب عبق المدينة.

وقد نجح الفنان الحاج نور الدين العماري لِما كان له من ذخيرة تعبير ووصف وإلمام بمشهد مدينة عتيقة، في وصف ما وصف جعل هذه القصيدة الملحونية التازية من أجمل وأعظم ما تم تقديمه وعرضه للمشاهد المغربي بعد نقلها عبر التلفزة المغربية في سهرة غير مسبوقة أواسط ثمانينات القرن الماضي، ومن ثمة ما كانت عليه القصيدة وهذا العمل الفني من صدى في كل ربوع البلاد، هكذا تحدثت هذه الرائعة الشعرية عن ولي تازة الصالح الشهير ب”سيدي عزوز”، فأبدع صاحبها وتميز وجعل من قصيدته لحد الآن جوهرة ثمينة في فن الابداع والملحون التازي. بل من جملة ما جعل هذه القصيدة بما هي عليه من شهرة في الذاكرة المحلية، براعة صاحبها في اظهار محاسن تازة المادية واللامادية، من خلال جولة فنية عبر دروبها وأزقتها وأعلامها وعلماءها وبساتينها وآثارها الشامخة وأمكنتها الروحية. فأبدع في وصف ما تزخر به تازة ومحيطها من صور تم وصفها بلغة صوفية عصامية وحب لمكان وزمان وانسان، وقد نالت هذه التحفة الفنية التراثية ما نالت في وقتها من اعجاب لجان فنية مشرفة عن دار الاذاعة والتلفزة المغربية، ضمن سهرة كبرى بنجوم فنية مغربية كبيرة عام ألف وتسعمائة وخمسة وثمانين، سهرة كانت ولا زالت من اعظم وأجمل ما استضافته تازة وما نظم بها، بل كانت قصيدة وملحمة الوالي سيدي عزوز الروحية من اعظم ما انجز حول الرمزي التراثي المحلي. ولعل مما جعل هذه القصيدة بما شهدته من صدى فضلا عن جمالية نص وايقاع، ما يطبع التراث الفني المغربي ومنه فن الملحون الذي يوجد في قلب ذوق المغاربة منذ القدم، ولِما لفن الملحون من تعبير صادق منسجم ومتناغم مع ذات وهوية وخصوصية. ذلك أن ما حصل مع قصيدة الولي سيدي عزوز للفنان نور الدين العماري، كونها توجهت بعنايتها لجزء من وجدان وثقافة وحضارة وهوية المدينة الرمزي.

يُذكر أن اكتشاف موهبة الفنان الحاج نور الدين العماري تعود لفترة طفولته ولسنوات تمدرسه الابتدائي بمدرسة خالد ابن الوليد بتازة العليا مطلع ستينات القرن الماض، وكان ممن اكتشف ميوله وتميزه وموهبة هذه هو الحاج محمد البراهمي رحمه الله وكان استاذا متمكنا متميزا في اللغة الفرنسية. ففي لقاء اجوته جريدة تازة بريس مع الفنان نور العماري حول الموضوع أشار الى أنه كان يتقن قراءة ما كان يكلفه به وما يعرف بالمحفوظات باللغة الفرنسية بنوع من الوزن والصوت الجميل، وهكذا كان يستدعيه ليردد بعض هذه المحفوظات في الفصول من حين لآخر، قبل أن يتم اختياره وانتقاءه لتمثيل مدرسته في تجويد القرآن بجامع الأندلس الشهير بالمدينة ضمن مسابقة محلية. وقبل أن تبدأ بعض مشاركاته في اعمال مسرحية متضمنة لمقاطع فنية لحنية تعبيرية بثانوية علي بن بري نهاية ستينات القرن الماضي. بل ويضيف أن من جملة ما كان عاملا في ابراز موهبته ما كان يؤطره جوق “الخليفي” رحمه الله من أنشطة موسيقية احتفالية بالمدينة، مع أهمية الاشارة الى أن الخليفي كان من الموسيقيين المتميزين آنذاك ومن العازفين الماهرين على آلة الكمال، وكان بفضل كبير في طبع تازة بما هو موسيقي حديث قبل إحداث المعهد الموسيقي، لِما كان للرجل من معرفة موسيقية واطلاع وموهبة عزف خاصة استقاها واكتسبها من اساتذة متميزين بفاس، وهذا موضوع آخر ذو شجون في علاقة بتازة. ويذكر الفنان نور الدين العماري ايضا حول مساره الفني أن ممن كان يؤثث العزف والغناء والحفل بتازة منذ الستينات، الشهير ب “بوعمر” الذي كان بقدرة عزف عصامية وموهبة خاصة، يقول أن معه كانت تجاربه الأولى وانفتاحه على الحفل والغناء واحياء المناسبات الخاصة بالمدينة لفترة من الزمن.

وعن بداياته وعلاقته بفن الملحون أورد الحاج نور الين العماري أن جده كان مولوعا ومتعاطيا لهذا الفن وكان شهيرا ب”الشيخ محمد العماري، ولم يكن هذا خافيا عن بعض رموز الفن بالمدينة آنذاك ومنهم الشهير بتشيكا (بلغيت) وبسكًمار والشهير ايضا بالمعلم عبد الرحمن ثم الجيلالي كًرام رحمهم الله جميعا وغيرهم من الرعيل الأول لسنوات ما قبل وما بعد الاستقلال. مضيفا أن جده كان عازفا على “الألطو” وبعلاقات مع اجواق فاس وشيوخ ملحونها. ومن جملة ما تحفظه ذاكرة الفنان الحاج نور الدين العماري ، أن من عمال الاقليم الذين كانوا بدور وأثر معبر في انعاش الحركة الموسيقية بالمدينة عبر التحفيز والدعوة للتكوين والابداع ،هناك صالح زمراكً وحجاج ومصطفى طارق ثم مصطفى قميحة، بل يذكر أن هذا الأخير كان بدور في التحفيز للتعاطي للطرب الأندلسي وفن الملحون، ولعله من كلف الحاج محمد بلغيت رحمه الله بتأسيس جمعية في الشأن لتطوير المواهب وابراز مؤهلات المدينة، وغير خاف ما كان للحاج محمد بلغيت من حضن ودور كبير في التأسيس للفعل الموسيقى بالمدينة، بجعل منزله فضاء للتدريب والاتصال والتلاقي والتعلم والحقل والاحتفاء، ومن ثمة ايضا ما حصل من تواصل مع كبار الموسيقيين التراثيين بفاس وما ادراك ما فاس آنذاك، خاصة منهم الحاج عبد الكريم الرايس وغيرهم من أجل ترسيخ طرب الآلة بالمدينة خلال فترة ثمانينات القرن الماضي.

ويذكر الفنان الحاج نور الدين العماري حول مشواره وعلاقته بفن الملحون، ما تمكن من نسجه من علاقات مع أسماء ملحونية فاسية رائدة من قبيل الحاج محمد بوزوبع ومحمد السوسي وغيرهم، وما لقيه من ثناء وتحفيز اثر ما حصل له بفاس من مشاركات في عدد من الأمسيات بحضور شخصيات موسيقية تراثية وازنة. مشيرا الى أنه كان بتأثر كبير بأعمال اعلام ملحون فاس وقصائدهم، وأن كل هذا وذاك من التفاعل والتجربة هو ما اغنى مساره بل اقدامه على القصيدة والكتابة، تلك التي انتهت بقصيدة “الولي سيدي عزوز” التي يزيد عمرها الآن عن أربعين سنة. مع أهمية الاشارة لِما كان للفنان نور الدين العماري وهو في فترته الفنية الملحونية الذهبية، من علاقة وتردد واقبال على المعهد الموسيقي بتازة خلال نهاية ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، وخلال فترة ادارة الأستاذ عبد اللطيف المزوري الذي يقول أنه شكل حلقة نوعية وفترة انتقالية خاصة ليس فقط بالمعهد الموسيقى، بل في علاقة بالمشهد الموسيقى الحديث عموما بالمدينة وهذا موضوع ايضا ذو شجون. وجدير بالاشارة الى أن فنان تازة هذا هو بتجليات مقامية صوتية ومؤهلات على أكثر من مستوى، فقد كان من المتميزين فيما يعرف بالتهلال” بجامع تازة الأعظم كل ليلة خميس بين صلاة المغرب والعشاء لسنوات. وهو بتجربته هذه واداءه الروحي بصوته الشجي بهذا الفضاء الأثري التاريخي بالمدينة، جعل صوته مؤثثا للمدينة العتيقة ولتراثها الرمزي، وجعل صوته بتوقيع خاص نافد منغوم  لذى المستمع. وكانتهلال” الحاج نور الدين العماري بجامع تازة هذا، من ضمن ألذ الأصوات والنغم الروحي الذي كان يطبع سماء تازة لفترة من الزمن.

يبقى ختاما أن اسم الحاج نور الدين العماري التازي، لا شك أنه ارتبط في تازة بالفن والموسيقى والتراث وخاصة منه طرب الملحون، وأن هذا الأخير هو شعر بصور حياة بليغة في معانيها تلك التي تجمع بين ما هو روحي وما هو اجتماعي ثقافي فضلا عما هو طبيعة وجمال وغزل، بل كانت مكونات فن الملحون سبيلا للتوسل الى الله تعالى ومدحا لرسوله الكريم، وعليه ما طبع هذا الفن الذي جذب مسار الفنان نور الدين العماري من مكامن تعبير صوفي، وما كان وراء رائعته وقصيدة الملحونية التي باتت جزء من ذاكرة تازة وتحفها الرمزية منذ عقود. وعليه، بقدر ما ينبغي من التفات واعتبار لعدد من علامات الفن عموما التراثي الروحي بالمدينة، بقدر ما ينبغي من دعم وتحفيز وتثمين وابراز وتوثيق وارشيف، من خلال ما ينبغي من بحث ودراسات لفرز ما انفردت به تازة وما كان عليه أعلامها من نبوغ وعطاء، وعيا بما لذلك من أهمية في تلاقح تجارب اجيال وإطلاع ناشئة وعلاقة بين سلف وخلف، ومن أهمية على مستوى خدمة وحماية فنون المغرب وتراث مدنه الرمزي، لِما هناك من هوية محلية وامتداد تجارب ومن ثقافة ومشترك جامع لاهتمامات وموضوعات ومعانٍ وانسانية انسان.

إلغاء الاشتراك من التحديثات