تازة بريس
سعيد عبد النابي
الكل انتظر عودة خالد، رافق التقني في مهمة دبلوماسية، نوعا ما، منفذا أوامر أبيه بالحرف : بلغ الطيف للمحطة، و ما درجع حتى يركب، ايلا ما جبرتو حديد …جيبو معك يقصر معنا حتى للصبح، حنا ما نجيبوشاي الذل للبرانس، أو دنسمع علينا فرطنا ف الطيف . وطد العزم على اقتحام كل العقبات، وما إدراك ما العقبات، أهونها عندنا بدائرة تايناست تنهك القوة وتخضع الرقبة. بينه و بين باب المروج أكثر من واحدة، تتفرق منها مسالك صعبة، تتطلب مجهودا تصطك له الركبة، لا مفر له إذن من الجد و الاجتهاد مع الطبيعة، والكياسة و السياسة مع الضيف، لأهمية مقامه، و هو الموضوع على اعلى الرتب، الواجب اتجاهه يقتضي تيسير سفره . الحمد لله الذي جعل وصوله القرية، لم يتحقق إلا بعد تعبيد طرقها، وإلا كان العناء الشديد أترع تنقله، لم تكن تصلح لمخلوق بالأمس القريب، لكثرة حفرها، وأخاديد السيول عليها كجروح غائرة مفتوحة، تنال نتوءاتها الصخرية من حدوات البغال، وأعسى بمن لا يملك حذاء أوروبي الصنع انتظار متسوق ليردفه على متن دابته، وإلا أكمل المشي كحافي القدم، لم يكن مرحبا بأبناء الفشوش، لتسلط العجز و الوهن على تحركاتهم، يصبحون عالة على المضيف بمجرد وصولهم، وعرقلة مع أول خطوة يخطونها، وهذه الأرض خلقها الله بتلك الطبيعة لتبقى رباط جهاد، لا تصلح سوى لرجال المقاومة الأشاوس.
تواترت أنفاس التقني نهجا وهو يصعد العقبة، قل الأوكسجين في محيطه فضاق صدره، وصعب عليه التنفس. تواتر حرمه طلاقة الكلام، ابتلع لسانه كي لا يظهر ضعفا، فخيم السكون التام للحظات، لم ينبس فيها بحرف، الخطوات وحدها عبرت عن نفسها من خلال وقعها المتوالي واحتكاك النعل بالحصى، خرش خرش خرش، كأنها كانت تحصي الأمتار المنهوبة. سمع لبعض الأشجار تسبيحا وصل الآذان عبر حفيف الأغصان، وتعالى صفير الرياح المرتطمة بأسلاك الكهرباء ينذر بسوء ما سيأتي، ونبحت كلاب.. هنا و هناك مؤكدة للغريب يقظتها، ونهق حمار مذكرا بحضور الشياطين، و سحل بغل تحت شجرة زيتون معمرة معبرا عن أساه وتعبه و هو المحكوم بالوحدة الأبدية. تباينت الأصوات حسب البيوت التي مرا بمحاذاتها، وأبدى التقني استعدادا لتحدى كل شيء، العقبة، المنحدر، الجو، الناس، كل شيء، كي لا يقال عنه ابن المدينة الموسـوم بنفاذ الصبر وضعف التحمل وقلة الحيلة، ولكي لا يبقى من أروع نوادر سهرات دكان الدوار، تحدى حتى رئته، المكتوية بدخان السجائر، كلفها جهدا ليتأكد من سلامتها، لا تزال تتنفس، لاشيء فيها يعترض الهواء، وعضلاته التي ألفت الراحة، هاهي منصاعة لكل الأوامر، بلا تهاون.
أما خالد فكان يفكر في مهمته، لا غير، كيف سينهيها؟ هو أدرى بوفرة عدد السيارات بعد صلاة العصر، في ساعات من النهار، تصبح جماعة الطايفة قطعة من صحراء خالية، لولا ساكنيها و دوابهم، لانعدمت مؤشرات الحياة فيها، وهذا الفراغ المثقل بالصمت ابتلع خالد، لم يغب عن تفكيره لحظة ما سيعترض سبيله إن هو تأخر. أصبح السكون مملا، ألزمه الكلام، لا ملجأ للخائف سوى الثرثرة، والمخاوف التي طاردت خالد في تفكيره كثيرة و متعددة، وعلى طريقة والده فاجأ صاحبه بسؤال : ريت لعروبية منين ايدخلو لمدينة؟ … ادشوفم بحال عيوج ياك … ايحطو رجلاهم بحال خيفين يهرسو البيض … ياك ؟ لغرابة السؤال لم يجد التقني من رد لائق سوى الضحك، توقع موضوعا آخر وراءه، قد يكون أهم من السؤال ذاته، قد يكون عنوانا مثلا، أو شطرا مثيرا من فكرة مهمة سيبسطها بالشرح لاحقا، أسرته مصطلحات البرانس واستعذب لكنتهم فصار يتحين الفرص لينهل منها أكثر لتنويع مكتسبه، لم يتعجل الرد، حرص على اقتفاء أثر الكلمات، لم يكن يعرف من قبل أن، ريت، هي تحريف لكلمة أرأيت. و،بنداك، هي تحريف لجملة بين يديك، و،أينجهز، بنطق الجيم على الطريقة المصرية هي بمعنى انتهى، أو أنجز، أملى النظر إلى خالد كالأبله، رغبة منه في سماع المزيد، أدرك أن كلام البرانس جله عربي الأصول، من يسمع بعض كلماتهم يعتقد أن لا وجود لها في القواميس، والحقيقة عكس المعتقد.
كان هم خالد الكلام، الكلام لأجل الكلام، ولا شيء غير الكلام، الكلام فرارا من جثوم الصمت، به انتشي ومنه استحلب هرمونات الدوبانين، لعله ينسى، يود النجاح في مهمته، و النجاة من المخاطر التي تحفها، وتابع كلامه، غير مهتم باندهاش رفيقه، طبع تلحين الكلمات تعبيره، ليكون وقعها أكثر تأثيرا، بدأ بإيقاع بسيط.. منخفض، سرعان ما رفعه، كأن قوة الإقناع في عرفه من قوة حدة الصوت : ايوا هادي هي العقبة اللي اضيع الوقفة د البرنوسي ، ايشبك يداه مور طهرو و ايزيد فالفاتيس باش يبلغ بكري …ومنين ايوصل لوطا و ايبغي يعلي راسو ايجبر طهرو تكرف. و بنداه حجر و طوب، الواحد ايختار رجلاه باش ما ينقرط … وهيت ..ايتوالف على المشية ديالو .. منين ايدخل للكودرون دلمدينة… وايجبرو لحبيب واطي كي الزربية … أيبقى غا ايهركس ، ايمد ويحط رجلاه.. كي شغول لبواردية ، جاء حكيه كحكي الراوي في ساحة جامع لفنا، جمع تشخيصه بين الصوت و الصورة و الحركات، و ختمه بقهقهات فريدة، لتحقيق السلاسة وشد انتباه التقني، تصبب جسمه – التقني – عرقا، أي نعم، لكن سمعه بقي حادا مرهفا، تجاوز الإجهاد و التعب إلى الانتباه و الحرص، مر الزمن كأنه ارتداد طرف، وجدا نفسهما وسط محطة بدت مهجورة لأول وهلة، كالقبور المنسية، تهيم على أرضها الكلاب الشاردة، من المسجد إلى دكاكين جزارة بلا أبواب، شبيهة بأسوأ المراحيض في العفن، ساعية وراء رزقها، باحثة عن أي شيء صالح لسد الرمق. لم تكن بناية مشهورة بأسوارها العالية المنيفة، المحطة، أمتار اقتصها المسؤول من الطريق المعبدة، خصها لأصحاب سيارات الأجرة، عرفها الناس فيما بينهم، على أنها، محطة .
المسافر في هذا الركن من المملكة يعيش كرها حالة طوارئ سرمدية، البقاء خارج البيت ليلا يعني الموت، أو الجنون، للكثير، إن لم تتلقفه الأشباح، نهشت لحمه الوحوش، اتخذت الخنازير البرية أراضي الجيران مرتعا لتجاوز الضيق، لم تعد مساحة غابة «أزدم » تسعها، وجاء المخزن بقطعان من ذئاب، أقل ما قيل عنها، أنها ألمانية الأصل، فتعشمت الساكنة منها الحد من تناسل الخنازير، لكنها أبرمت على ما بدا صلحا معها، فأعطتها و خنانيصها الأمان، على حساب مال الساكنة، وصارت هي و الكلاب والثعالب والمناخ المتقلب غضبا إلهيا، انضاف إلى سلسلة ممتدة من اللعنات. يعلم خالد واقع قريته جيدا، الويل لمن أليل، مجرد التفكير فيما سيعترض طريقه أرعد فرائصه، جلس على السور المطل على السوق يحملق في نهاية طريق رئيسية يتيمة تمر بمحاذاة الغابة كأنها لها سياجا، تختفي عبر فج، وراء جبل صغير، تسميه الساكنة باب جنان، يبدو أنه احتفظ بالاسم من أيام خوالي، كان فيها مناخ باب المروج لا يختلف عن مناخ مدن أوروبية، متميز ببرودة ليالي الشتاء، يومها كانت الأشجار وارفة الظل، تحجب عن الأرض حر الشمس و نور القمر، تطيل أمد الاخضرار في الحقول، إلى أواخر فصل الصيف، اليوم هي مروج إسما لا واقعا، بارت الأراضي رغم وفرة السواقي، لأن الخنازير أتلفت الغلات، أنيابها كسكك المحراث، تشق المروج، تحرك الصخر عن موضعه، بثت اليأس في قلب فلاحين لا حول لهم و لا قوة، رفضوا زراعة لم تعد مجدية، لا تستمر سوى بجهد جهيد.
الحلوف عندو الزهر علينا فهاد لبلاد، جملة رددها كثيرون، وعبثا تساءلوا.. أين هي الدولة ؟ ما هو الحل؟ بل هددوا السيد مدير المياه والغابات في إحدى لقاءاتهم به، بحرق كل أخضر و تجفيف كل نبع، فلا هذا انفعل، ولا أولئك الغاضبين أتموا تهديداتهم إلى فعل. طحن زمن الانتظار دواخل خالد وأثار مخاوفه، تمنى لو أنه بنى سدا في الفلك بين الأجرام ليعطل دوران الأرض وإيقاف حركتها بالمرة، تمنى.. لو أن الشمس سمعت رجاءه، فلا تسحب بساطها البتة، إن خبا نور أشعتها أبدت الغابة وجهها المخيف، هداة الليل بالدوار تتحول الى عرس للارواح الشريرة، وهو فتي رعديد، لاحول له ولا قوة، فكيف سيواجه؟ لم يفارق الدعاء لسانه، رغم أن تراب الأرض لم يعفر جبهته يوما ساجدا، ولا شاب بياضها الناصع سواد ختم التقوى، يا ربي دبان شي قزديرة … ياربي . كان المكان أدراجا خمسة، الأول للحي الإداري وسكن المعمرين، الثاني للمقاهي و السيارات و الشاحنات، الثالث للتجارة المتنوعة، الرابع لبيع الخضر و الفواكه، أما الخامس، فخص المسؤول جزء منه لبيع الأغنام و الأبقار، وجزء آخر منه جعله موقف بهائم، كانت تنشط فيه الحمير بكثرة، و كان أطفال القرية بسفادها يستمتعون، فينبري رجل صالح في كل حين لفض جمعهم، و تهديدهم بمدرسهم أو مديرهم، لكن عدد المتطفلين ازداد زيادة مطردة مع تشييد الإعدادية الوحيدة، رغم محاولات تغيير المنكر، من كل من كان في قلبه إيمانا، أو حب وطن.. ولذلك، كانت مؤشرات الحياة في القرية لا تتجلى للكل سوى أيام الدراسة و المواسم و يوم الخميس، وعلى ما يبدو، اليوم من أيام عطلة، غاب فيها الرئيس و رموز السلطة فشلت الحركة، وبدت القرية للتقني ميتة مهجورة.
أخذ التقني له مقعدا في أول مقهى على يساره، ونادى النادل فطلب قهوة سادة، ثم نادى خالد : اجي تدير لك شي تنسيقة ، واش التحنزيز ديالك هو اللي غادي يجيب لحديد؟ اجي دير لك شي كارو ، انا عارفك مبلي ، قبيلة كنتي معصور حدا الوالد ، اجي شرب قهوة و سير فحالك يلا بغيت سير فحالك … جملة نزلت عليه نزول الندى على زهور عانت من الرياح الجافة أياما، ما قيمة القهوة أو الشاي أمام الإنعتاق و التحرر؟ أقبح الأغلال تلك التي تتمكن من القلب والفكر.. يستطيع الصيام على كل المنبهات ومعها العصائر، لكن السير وحيدا ومواجهة وحوش الليل لا يملك لهما حلا. «سير فحالك » ذاك ما كان ينتظره، لكن رجولته تمنعه من الانسحاب، هكذا دون عذر مقنع، خوفه يحفزه على ترك الجمل بما حمل، لكنه من أصل طيب، من قوم يموتـون ولا يخونون، إن كان لابد من النوم في المحطة فعل، أما أن يسمع عنه خذلانه ضيفه، أو أن يكون سبب متاعبه، فهذا ما لن يكون، إطلاقا. لكنه حاول وضعه في الصورة ليتحمل مسؤوليته : شوف الحبيب / مع الخمسة.. ايلا ماجاتش لحديدة غي كفط على اركابك … وديك العقبة دي ادبانك ليهن ، ريتا او لا لا ؟ أشار التقني برأسه مبتسما، إشارة فحواها موافقته الرأي فيما يقول، وترقب من خالد إجابة عن سؤاله، لكن الأخير إسترسل في كلامه: ردا وطا و لا حدورة ، كي دبغي .. والله وبقيت للليل,… يا حتى يجبروا الصباح غير عطامك مودرين بين لحجر ، يلا ما كتابش المركوب بات معانا , راه مازال بابا باغي يسقسيك ، السواول ديالو ما يسالاوش… وخا دسكن معانا يسولك..هو يسول يسول… وكان للتقني رايا آخر ما تخافش ، اجي رتاح .. و ايلا ترونت نكريوا القهوة ونديروا نوي بلانش ..هههه.
وفهم خالد من كلام التقني انه يكلمه عن اللوح و الخشب، اذ لم تعلق بذهنه غير بلانش، التي تعني البياض، و نوي بلانش في لغة التقني ليلة بيضاء لا يغمض فيها جفن، لكنها في عرف خالد هي خشب، كونه اعتاد الاسم مع البنائين، و بمجرد ظهور شاحنة نقل هاتف سائقها، ساله عن امكانية عودته الى المدينة، و تلقى جوابا بالإيجاب لا النفي، فاهتزت دواخله من الفرح، كطفل صغير، ورد على التقني : لبلانش ؟… ربح بيه انتين ، الله يهنيك المرضي .. وكانت هاته آخر نكتة تلقفها التقني ورسخت في عقله و قلبه و أنفاسه .. واستمرت قهقهاته تلاحق خالد و هو يركض ، و يهمهم : اطحك انتين المرهط ، بابا ما يبرى من سمك على عام ..
كاتب وجمعوي