تازة بريس
عبد السلام انويكًة
ما هو عتيق من مدن المغرب وما هو دفين في زمنها من عقليات وذهنيات وتراث وثقافة..، هو بحاجة لعناية ووعي أوسع. ذلك أن هذه المدن في تجلياتها وتركيبها ونسيجها، هي وعاءات حيوية حاضنة لحركة تاريخ بمشاهد حضارة وانسانية انسان. وبحكم زمنه وطبيعة موقعه وتفاعله البشري عبر العصور، يتميز المغرب بمدن عتيقة عدة جعلته بلداً بإرث مادي ولامادي هام. ومن هذه المدن نجد تازة ذات التاريخ الممتد منذ العصر الوسيط، وهي المنتصبة بإحدى شرفات جبال الأطلس المتوسط والمطلة منها على ممر شهير باسمها. بقدر ما يصل هذا الممر شرق البلاد بغربها بقدر ما يصل مقدمة جبال الريف بمرتفعات الأطلس. واذا كانت تازة تعود لزمن القرن السادس الهجري، مع أهمية الإشارة الى أن ما هو نشأة ونواة لها لا يزال بقراءات وتعدد تأسيس ونظر. فالثابت بقوة النصوص المصدرية كونها شهدت ريادة معبرة على عهد دولة بني مرين، والتي بنهايتها تكون تازة قد طوت حلقة ذهبية من زمنها، حيث أعظم ما تحضنه من إرث مادي ولامادي جامعٍ بين عمارة دين وفكر وسياسة وأعلام وغيرها. ويسجل أنه رغم ما شهدته المدينة من فتور بعد حكم بني مرين، ظلت محطة ذات أهمية خلال الفترات اللاحقة، لِما لها من سلطة موقع فاصل فضلا عن محورية ممر. قبل أن تبرز من جديد وبشكل لافت مطلع القرن الماضي، لِما ارتبط بها من تطورات سياسية وأمنية وما طبع ممرها من وقع استراتيجي خاص، إثر ما شهدته حدودها الشرقية من أطماع استعمارية وتطلعات انتهت بفرض الحماية الفرنسية، فضلا عن نقل عاصمة البلاد من فاس الى الرباط، وهو ما تقلصت معه أهمية تازة بعد ما كان لها من تفاعل وثيق على أكثر من مستوى مع فاس على امتداد قرون.
صوب زمن تازة وحول وقائعها وتحولاتها وكيانها وهويتها وما يهم عموما تاريخها الاجتماعي خلال العصر الوسيط، لا بديل عن أهمية الانصات لِما هناك من ارث وثائقي محلي أصيل حرص السلف على حفظه هنا وهناك، قبل أن يشهد أرشيف البلاد ما شهده من التفات مؤسس وتدبير ورؤية وتحديث وفعل تقني منذ حوالي العقدين، ليس فقط من خلال ما أحيط به هذا الأرشيف من نص وتأطير ومؤسسة ونظم تدبير ومساطر وغيرها، انما ايضا لِما حصل من وعي به وبأهمية ما من شأنه مساعدة الباحث على نبش قضايا مدن البلاد العتيقة، وتأسيس لحظات كتابة رافعة بقدر معين من انتقاء وتناسب ومعطيات. ويسجل ما هناك من تطلع يهم ما هو أرشيف في أفق ما ينبغي من استثمار رافع لنماء وتفاعل حاضر ومستقبل بلاد وعباد، فضلا عن بحث علمي انساني عبر جمع ذاكرة وطن لا تزال بتوزع هنا وهناك بين أفراد وأسر ومؤسسات وغيرها.
حول الرصيد الوثائقي المغربي الأصيل في علاقته بتازة وبما ينبغي من بحث منفتح على المدينة العتيقة خلال العصر الوسيط، ارتأينا اطلالة على تيمة الحوالات الحبسية أو الوقفية أو الحبوسية التي ارتبطت لدى المغاربة بوضع أملاك معينة في خدمة صالح عام، تلك التي توزعت على محلات تجارة وأراضي وبساتين وغيرها، كانت مداخيلها تشكل روح حياة واستمرارية نشاط مدارس وجوامع وزوايا ومرافق اجتماعية وغيرها. وغير خاف ما هناك من صعاب تخص نبش الباحث والمهتم لقضايا زمن مدن مغرب العصر الوسيط الاجتماعي، وهو ما يجعل من البحث والكتابة بقدر معبر من الجهد ومن ثمة ما يمكن أن تسهم به حوالات هذه المدن الحبسية من معطيات ذات أهمية. تلك التي تشكل تراثا رمزيا وعلميا مغربيا اصيلا كان ينظر اليه الى عهد قريب على أنه بجفاف معرفي وببعد عن حقل التاريخ وكتابته، علما أن هذه الحوالات هي بتنوع جوانب تخص قضايا عيش وتنظيم وعلاقات ومظاهر حياة وغيرها، تلك التي من شأن ابرازها ملأ بياضات تطبع نصوصا تاريخية مصدرية كما بالنسبة للحوليات حيث تخمة ما هو سياسة وحروب وبطولات وزعامات وغيرها.
وحوالات المدن العتيقة الحبسية التي تجمع في مضانها بين ما هو ممتلكات وخبر مرافق وعقارات واحصاءات ومصاريف ونصوص عدلية لتحبيسات وغيرها، اعتمدت واستخدمت أول الأمر على عهد دولة بني مرين التي اشتهرت بخدماتها الوقفية خلال العصر الوسيط. وكان بنو مرين قد احاطوا تدوين معاملات الوقف بقدر كبير من العناية، من خلال دفاتر خاصة هي الآن مساحة ارشيف تاريخي بأهمية بحثية في قضايا المغرب الوسيط الاجتماعية والاقتصادية والفكرية. ولعل بقدر ما تقاسمت حوالات تازة الحبسية المرينية جوانب دفينة من زمن المدينة، بقدر ما توزعت على محبسين صوب مدارس وأضرحة فقهاء وأعلام ومجاري وسواقي ودور عبادة وزوايا وجوامع وحمامات وغيرها. حوالات ووثائق تاريخية بمعطيات هامة تشكل جوهر عمل كل باحث مهتم. وغير خاف ما هناك من صنف رسمي في هذه الحوالات لدقة تدوينه وتوثيقه وصدقيته ومن ثمة أهميته في الكتابة التاريخية، أما الثاني غير الرسمي من هذه الحوالات فهو الخاص بقضايا وممتلكات بطبيعة أسرية كثيرا ما يصعب على الباحث بلوغها.
وتازة هي بأرشيف تراثي أصيل هام من الحوالات الحبسية، لِما طبع أهلها من ثقافة توقيف باعتبارها عملا خيريا انسانيا، خدمة منهم لما ينفع الناس من خدمات عبر هذا المرفق والكيان والأسلوب أو ذاك، وهو ما دونوه وأشهدوا عليه في وثائق حبسية تناولت جوانب عدة وأمكنة بمعطيات هامة، لابراز ما كانت عليه المدينة من علاقات وتفاعلات وقيم وغيرها. خاصة وأن تازة كانت بوقع وموقع متميز زمن دولة بني مرين، جعلها في مقدمة مدن البلاد لِما كانت عليه من نشاط ومرافق مجتمع وتجليات تفاعل. من جملة ما أورد الحسن الوزان عنها، كون المدينة كانت تشتمل على حوالي خمسة آلاف أسرة وأن قصور اشرافها وما كان بها من مدارس ومساجد هي في غاية الاتقان، مشيرا لنهر صغير ينحدر من الجبل المجاور ويمر بالمدينة ويخترق جامعها الكبير، مضيفا أن هذا المجرى المائي كان يتعرض من حين لآخر لتغيير مجراه من قِبل الجبليين كلما حصل خصام مع سكان المدينة، وأن بصرفهم لمياه هذا المجرى الى مكان آخر كانت تتأذى المدينة كثيرا، من حيث طحن الحبوب والحصول على الماء الصالح للشرب. قبل أن يشير حول وضع المدينة الترابي الاجتماعي الفكري، الى أنها تحتل الدرجة الثالثة في البلاد لمكانتها وحضارتها، مضيفا أنها تتوفر على جامع أكبر من جامع فاس وثلاث مدارس وحمامات وفنادق وأسواق منتظمة، فضلا عن شجاعة وكرم الأهالي الذين منهم علماء واخيار وأثرياء، وما هناك من تعايش مع فئة يهود هم بحوالي خمسمائة دار بالمدينة. معرجا في اشاراته الى أن ملوك مدينة فاس من بني مرين عادة ما يعينون ثاني ابناءهم على المدينة، مشيرا أنها تستحق أن تكون حاضرة المغرب لِما يطبعها من مناخ جيد وطبيعة ومياه، بل من جملة ما أورده عن تازة اشارته الى أن ملوك بني مرين كانوا يقضون بها الصيف كله.
هكذا اذن هي صورة تازة بعيون الحسن الوزان في مغرب العصر الوسيط، وهذا ما اثاره من اشارات حول مكاننها كأنشطة وعلاقات وتفاعلات ومرافق مجتمع أطرتها متون حوالات حبسية بمعطيات هامة. تلك التي يسجل أن أول من انفتح عليها واستثمرها في عمله من الباحثين حول المدينة قبل ما يزيد عن ثلاثة عقود، هو الأستاذ مبروك الصغير الذي أثث أطروحة من طراز رفيع نال بها شهادة دكتوراه بجامعة السربون بباريس، ومن خلالها أثث مؤلفا بحوالي سبعمائة صفحة هو بقدر كبير من الأهمية التاريخية والاركيولوجية والترابية حول تازة، نص بحثي أكاديمي لا يزال لحد الآن أعظم وثيقة تحتويها خزانة تازة التاريخية العلمية باعتباره حلقة مرجعية بقدر كبير من الأهمية لكل باحث ودارس. وكانت حوالات تازة الحبسية التي يعود اطلاعنا على جزء منها ولأول مرة الى أواسط تسعينات القرن الماضي، قد استحضرت المدينة ضمن مشاهد بيئية واجتماعية فضلا عن تجليات علائقية وتفاعلات معيشية وتعايشية. من خلال ما ورد فيها مثلا رغم صعوبة قراءة مضامينها لشدة تقادمها، نجد ما ارتبط بدُور علم وفكر وتربية من قبيل المدرسة المرينية (مدرسة المشور)، وما خص به السلطان أبي الحسن وابنه السعيد هذه المعلمة من التفات عبر أملاك بفاس وتازة تم تحبيسها عليها لضمان نشاطها ومهمتها واستمراريتها، ومن هذه الوثيقة الحبسية يستشف ما كانت عليه هذه المدرسة من بناء وتوجيه ومحراب وموضع صلاة وعلاقة بأزقة مدينة وتواريخ ذات صلة واسماء سلاطين وغيرها. نفس الشيء ما ارتبط بوثيقة تحبيس تخص ضريح بن بري التازي امام القراء المغاربة، تضمنت اشارات هامة تخص شخصية فقهية تازية من حيث مؤلفاتها واهتماماتها ونبوغها فضلا عن تاريخ ولادة ووفاة. ناهيك عما جاء في حوالات تازة الحبسية زمن بني مرين، من اشارات توزعت على حاجات المدينة من ماء وسواقي في علاقة بدُور عبادة وأمكنة وأكرية ومنتوجات ونظافة وأزقة وغيرها، كلها مساحات من شأنها بلورة معطيات بحقيقة تاريخية نسبية طبعا. مع أهمية الاشارة الى أن رصيد تازة من وثائق تحبيس لا يقتصر على فترة العصر الوسيط، بل يمتد ليشمل ويستحضر ما طبع زمنها الحديث من علاقات ومعاملات ومبادرات وعناية سلطانية بعمارتها الدينية، خاصة جامعها الأعظم وأثاثه الروحي وتقاليده من أنشطة قراءات حزبية ومجالس وغيرها، وكذا من دعوة للتعاون وتجاوز للنزاعات وتيسير حاجيات المدينة في علاقة بمحيطها.
جدير بالاشارة الى أن المستشرقين هم أول من انتبه للوثيقة الحبسية ولأهميتها التاريخية حول المجتمع المغربي، ومن هؤلاء نجد الفرنسيين من قبيل ”ألفريد بيل” و”لفي بروفنسال” و”جاك بيرك” وغيرهم. مع ما يسجل حول تأخر انفتاح اعمال بحث المغاربة التاريخي على هذا الوعاء الوثائقي حتى نهاية سبعينات القرن الماضي، وعليه ما كان من قيمة مضافة وما يحسب لجهود من انفتح منهم على هذا الأرشيف، من قبيل الأستاذ عبد الله العروي ومحمد المنوني ومحمد بن شريفة وغيرهم. الى حين ما ينبغي من التفات لأرشيف مدن المغرب العتيقية، وما ينبغي من وضع لأرشيف تازة وحوالاتها الحبسية رهن اشارة باحثين ومهتمين من خلال مؤسسة أرشيف المغرب، والى حين أيضا ما ينبغي من جيل باحث جديد ومقاربات مندمجة واشكالات وتعميق نظر فيما تناوله هذا الأرشيف من قضايا، فضلا عن استثمار ما هناك من وعاء مادة مصدرية اتسعت بفضل ما تم تحقيقه من نصوص، وكذا ما ينبغي من حضور انتروبولوجي تاريخي/ رمزي ثقافي حول زمن مدن المغرب العتيقة، في أفق دراسات ومعرفة تاريخية بقدر من الجديد والنوع والقيمة المضافة.