تازة بريس
الأستاذ الباحث والمؤرخ العربي كنينح من رعيل الباحثين المغاربة الأول، الذي توجه بالعناية والدراسة لزمن المغرب المعاصر من خلال النهج المونوغرافي، وكان جهد ونبش وتنقيب هؤلاء بتراكمات رفيعة اغنت الخزانة التاريخية والاجتماعية المغربية بنصوص بحثية متفردة شكلت ولا تزال مرجعا مفيدا لكل الدارسين والباحثين. ولعل للأستاذ العربي كنينح عدد من الدراسات والمنشورات الرفيعة في مجال التاريخ والمجتمع، فضلا عن ابحاث عدة حول عدد من القضايا التي تخص بنية المغرب الثقافية وهويته الوطنية وغيرها. في علاقة بهذه الأخيرة ودفاعا منه عن هوية المغرب بعيون مؤرخ باحث متخصص في فترة ما قبل الاستعمار وزمن الحماية، وهي الفترة الحرجة التي طبعها ما طبعها من مناورات ممنهجة ودراسات استكشافية استخبارية استعمارية ومن توظيف استعماري للمعرفة التاريخية في تفكيك بنية المجتمع وهويته، وهو ما قام به دهاقنة الاستعمار من خلال زرعهم لبذور خبيثة تشتيتية. في هذا الاطار وتفاعلا مع مقال تحليلي بقدر كبير من الجدل والراهنية، وقد نشره الاستاذ كنينح على صفحته بالفيسبوك قبل سنوات وأعاد نشره مؤخرا، ارتأينا تقاسمه وتقاسم مضمونه ورسائله وافكاره وبعده الوطني عبر جريدة تازة بريس تعميما للفائدة والنقاش والتنوير المجتمعي. وهو كما يلي:
المؤرخ العربي كنينح:
“يحتفل في المغرب في13 يناير من كل سنة منذ بضع سنوات فقط ،”بالسنة الأمازيغية” نسبة إلى المكون الأمازيغي الذي يشكل فصيلا من الشعب المغربي. وهذا يعني أن هناك فئة معينة مميزة داخل الشعب أو دويلة داخل الدولة المغربية تنفرد بهويتها الخاصة بها، لها ماضيها لا يشاركها فيه أحد وتاريخها الذي يميزها عن باقي المكونات الأخرى، العربية والإفريقية(نسبة إلى المكون الإفريقي) والأندلسية والحسانية وغيرها من الروافد الأخرى. وهذه السنة تخصها وحدها لا شأن للأخرين بها، مع العلم أن هذا التاريخ 13 يناير يوافق فقط السنة الفلاحية المعروفة عند جميع المغاربة عربهم وبربرهم بحاكوزة . وهذا الاحتفال يستدعي بالمقابل من باب الجدل، أن يكون هناك احتفال أيضا بالسنة العربية والسنة الإفريقية، والسنة الأندلسية والسنة الحسانية نسبة للأصول الإثنية التي تنحدر منها هذه الفصائل، إلى جانب الإحتفال بالسنة الهجرية والسنة الميلادية والسنة العبرية ذات المدلول الديني، وكأننا في دولة ملوك الطوائف لا يجمع بيننا أي رابط تاريخي أو لغوي أوديني، أو جغرافي أو ثقافي أو غيره.
إن الحرص على الإنفراد بالإحتفال بسنة ذات حمولة طائفية والنضال من أجل الإنسلاخ عن وحدة الأمة المغربية، ينطوي على الكثير من المخاطر على المدى القريب والبعيد والإحتفال بالسنة الأمازيغية والكتابة بحرفين إثنين تفيناغ والحرف العربي في بلد واحد ورفع راية تحمل شارة خاصة طائفية، معناه أننا ذاهبون إلى حرب أهلية طاحنة لا محالة. هل وجد حرف تيفيناغ أيام المهدي ابن تومرت المصمودي (ق.12 ) الذي ألف كتابه باللغة العربية تحت عنوان “أعز ما يطلب”؟ ولماذا لم يكتب لحسن اليوسي ( ق. 17) كتابه الشهير”المحاضرات” باللغة الأمازيغية وبحرف تيفناغ بالذات؟ وأين كان حرف تفيناغ أيام الإفراني (ق.17 ) صاحب” نزهة الحادي”، وأبي القاسم الزياني(ت. 1833) صاحب”الترجمان المعرب عن دول المشرق والمغرب” و أكنسوس (ت. 1877 ) صاحب كتاب “الجيش العرمرم الخماسي…” ؟ ولماذا لم يؤلف المختار السوسي كتابه”المعسول” بالأمازيغية؟ وإلى وقت قريب، لماذا لم يكتب السيد محمد شفيق أطال الله في عمره، وهو سيد العارفين بأمور البربر، كتابه “لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغيين” باللغة الأمازيغية وحرف تيفيناغ؟ هل غابت عن هؤلاء الفطاحل الأمازيغ، في أيامهم أهمية وجود حرف تفيناغ لكتابة الثقافة المغربية؟ لمن يجهل تاريخ المغرب والأغلبية الساحقة من المغاربة لا يعرفون شيئا عن تاريخ بلادهم، نقول: إن حروف تيفناغ لم تبتكر إلا بعد احتلال فرنسا للجزائر سنة 1830 . وقد عمل إميل لوست،( Emile Laoust) أحد دهاقنة الإستعمار الذي كان أستاذا في معهد الدراسات العليا بالرباط ، على إدخال هذه الحروف إلى المغرب. هو الذي كان وراء صدور الظهير البربري في 16 ماي سنة 1930 ، وهو أيضا صاحب كتاب Mots et choses berbères ” الذي يحاول فيه عزل الثقافة البربرية عن الثقافة المغربية والغريب في هذا الصدد، أن المثقفين المغاربة المفروض فيهم أن يكونوا ضمير الأمة، يوجهون الرأي العام ويبصرون الناس بقضاياهم المصيرية كما هو الحال في الدول المتقدمة، يلتزمون الصمت ولا يدلون بأي رأي في هذا الموضوع وهذا مؤسف. وفي هذا السياق وبهذه المناسبة، نرى من المفيد هنا لجميع المغاربة عربهم وبربرهم، التذكير بأحد أبحاثي الذي نشرته على موقعي على الفيسبوك تحت عنون: “جذور النزعة الأمازيغية في المغرب”، وذلك تعميما للفائدة.
كان المغاربة قبل الفترة الإستعمارية يعيشون في وئام تام لا فرق بين عربهم وبربرهم، باستثناء النزاعات العادية التي كانت تنشب بينهم بين الحين والآخر حول المجالات الرعوية أومجاري المياه، أوحول القضايا التي تتعلق بسلوك الناس وانحرافاتهم كالسرقة أو انتهاك حرمات الجار، أو الإعتداء على الغير أو بسبب الإختلافات السياسية حول اختيار هذا السلطان أو ذاك أو ما شابه ذلك من النوازل اليومية، وهذه أمور تحدث في جميع أنحاء العالم وفي مختلف الأمم والشعوب وبين أبناء الشعب الواحد. ولم تكن هذه النعرات الطائفية التي أطلت علينا في هذه الأيام موجودة ولا حتى مفكر فيها، فقد كان البربر يعتزون بانتمائهم إلى العروبة والإسلام وكانوا يعتقدون أنهم لا يمكنهم أن يكونوا مسلمين حقيقيين، إلا إذا تعلموا العربية لغة القرآن، وأن مفاخر البربر لا يمكن أن تكتمل إلا إذا انتسبوا إلى العرب، وعرب قريش بالذات التي نزل فيهم الوحي متمثلا في الرسالة المحمدية. وفي هذا الصدد كان النسابة البربر يوصلون القبائل البربرية بأصول عربية. فقد ذكر ابن خلدون أن نسابة زناتة ينسبون أنفسهم إلى حمير، وإلى العمالقة البربر فرقتان هما: البرانس والبتر. فالبتر من ولد بر بن قيس بن عيلان والبرانس بنو برنس بن سفجو بن أبزج بن جناح بن واليل بن شراط بن تام بن دويم بن دام بن مازيغ بن كنعان بن حام”. وفي نفس الإتجاه أشار ابن أبي زرع الفاسي عند تأريخه لحكم بني مرين إلى أن أصولهم تعود إلى الجنس العربي من سلالة نزار بن معذ بن عدنان. وعندما تحدث مؤرخو الدولة الموحدية عن المهدي بن تومرت رفعوا نسبه إلى علي ابن أبي طالب، وحرصوا على التأكيد على نسبه الشريفرغم أنه ينحدر من قبيلة هرغة البربرية في الأطلس الصغير. و كان يعرف قبل ادعائه المهدوية بأسفوط الذي يعني المشعل أو النور بالعربية.
وعندما انتصر يوسف ابن تاشفين المرابطي الأمازيغي في معركة الزلاقة في الأندلس سنة 1086 م، سمى نفسه أمير المسلمين واستمر يخطب في المساجد بإسم العباسيين لأنهم ينحدرون من قريش، والإمامة لا تجوز إلا في قريش طبقا لحديث منسوب للرسول، مؤداه بتصرف الإمامة في قريش والقضاء في اليمن والآذان في الحبشة. و إلى جانب هذا عندما كانت تسوء الأحوال السياسية والأمنية في البلاد، كان الأمازيغ والعرب على السواء يلجأون إلى الشرفاء والمرابطين للتحكيم فيما بينهم، ويخطبون ودهم للتوسط في حل نزاعاتهم اليومية. فقد التف البربر حول ادريس بن عبد الله سنة172 ه، وزوجوه إحدى بناتهم ورأسوه عليهم، وبايعوه على التحكيم فيما بينهم وتدبير شؤونهم الدينية والدنيوية، فقامت الدولة الإدريسية، ومن هذه الأسرة خرج الشرفاء الأدارسة المنتشرون اليوم في جميع أنحاء المغرب. وفي عهد السعديين بايع أهل سوس العرب والبربر منهم في سنة 1511، الشريف محمد بن عبد الرحمان المدعو محمد القائم بأمر الله، في وادي درعة، لأنه ينحدر من قبيلة بني سعد التي تنتمي إليها حليمة السعدية مرضعة الرسول، وساروا وراءه لمقاومة الغزو البرتغالي الذي كان يهدد المنطقة والبلاد بصفة عامة. وبعد وفاة أحمد المنصور السعدي سنة 1603 ،عرف المغرب حروبا أهلية طاحنة دامت تقريبا حوالي 63 سنة (1603- 1666 )، بسبب تنازع أبناء السلطان المذكور على العرش وظهور عدد من الإقطاعيات المتناحرة فيما بينها، وتدخل الأتراك والإسبان في شؤون المغرب الداخلية لتآجيج حدة الصراع . ولما سئم المغاربة الحروب الأهلية و فشلوا في لم شملهم لجأوا مرة أخرى إلى الشرفاء العلويين وبايعوا مولاي الشريف بن علي في تافلالت وجعلوه سلطانا عليهم، ولم يحيدوا عن هذه الأسرة منذ ذلك التاريخ إلى يومنا هذا.
وعندما تأسست الزوايا في مطلع القرن السادس عشر وانتشرت الطرق الصوفية في جميع أنحاء البلاد، انخرط المغاربة عن آخرهم فيها لافرق بين عربهم وبربرهم فتجد في نفس الزاوية، الكتانية، أو التجانية، أو الوزانية ،أو الدرقاوية ، أوغيرها، الناس يجتمعون، من كل حدب وصوب من عرب وبربر، يرتلون نفس الأوراد ويتبعون نفس الشيخ، ويقومون بنفس الطقوس. وبذلك ومع مرور الزمن، تعرب البربر في جميع مناطق المغرب، وترسخت العقيدة الإسلامية في نفوسهم، بسبب نشاط الزوايا، وتمكن الشيوخ من نشر تعاليم طرقهم الصوفية في جميع ربوع البلاد. وإلى جانب هذا، عملت الدولة من جهتها منذ عهد الأدارسة كما بيناه في مقالنا السابق” في المسألة الأمازيغية”، المنشور على موقعنا على الفسبوك، على صهر المغاربة في قالب هوياتي واحد، تجمع بينهم عدة روابط مشتركة تشد بعضهم إلى بعض. وهذه الروابط هي: الوطن، واللغة ، والدين، والعادات، والتقاليد، والماضي المشترك … ومن هذا المنطلق يحق لنا أن نتساءل هنا ما هي جذور المسألة الأمازيغية؟ ومتى دخل هذا الفيروس(نعني به النعرة الطائفية) إلى المغرب وبدأ ينخر كياننا من الداخل؟ إن الروايات التاريخية التي وصلتنا عن بلادنا، عبر مختلف العصور، روايات ملغومة تحمل في طياتها سموما خطيرة و بذورا خبيثة قد تؤدي إلى ما لا تحمد عقبا.
لذا وجب التنبيه هنا إلى أنه عندما يهم المرء بالبحث في تاريخ المغرب أو المشرق العربيين، يجد نفسه أمام ثلاث روايات :1) الرواية التقليدية: وهي روايات الحوليات التاريخية، وكتب التراجم، والمناقب، الأنساب، والرحلات، وغيرها. وهذه الرواية غالبا ما تحجب عنا الحقائق، وتسدل أمامنا ظلالا قاتمة من الشكوك والأوهام، كلما تطلعنا إلى معرفة العوامل التي تحكمت في صيرورة هذه البلدان وتطور بنياتها الإقتصادية والإجتماعية والسياسية. لأن أصحابها وضعوا مؤلفاتهم إما تحت رقابة السلطان السياسي القائم في عصرهم وبتوجيه منه، وإما للدفاع عن منظومة فكرية أو مذهبية أو سياسية، تخدم مصالحهم وتبرر مركزهم الإجتماعي والسياسي. – 2 الرواية الإستعمارية: وهي مجمل أدبيات ونصوص الأسطوغرافية الكلونيالية والإستشراقية بصفة عامة، وهذه الرواية وضعت أيضا في ظروف سياسية ودولية، وظف أصحابها التاريخ وعلوم الإنسان للدفاع عن إديلوجية السلطة الحاكمة الرامية إلى طمس هوية الشعوب المستعمرة وتوجيه تاريخها في المسار الذي كانت تريده، لتعبيد الطريق أمام الغزاة والمعمرين لتحقيق مشروعهم الإستيطاني في البلدان المسماة اليوم بالعالم الثالث. وهذه الرواية كما سنبينه، فيما بعد، هي التي أدخلت إلى بلادنا بذور النعرة القبلية التي نحن بصددها اليوم.3 – الرواية العلمية أو الموضوعية، وهي التي يسعى الباحثون الأكادميون في مختلف جامعات العالم، إلى تأسيسها اليوم على أنقاض الروايتين الأولى والثانية. وهي تخضع لمناهج ومقاييس علمية صارمة كلما أمكن ذلك. ومن هذا المنطلق نلاحظ أن تاريخ المغرب، لازالت تعشش فيه الطروحات الإستعمارية (وهي التي يقرأها الغلاة من مواطنينا اليوم)، وأحكام الرواية التقليدية الموسومة في كثير من الأحيان بسمات الأسطورة والملحمة التاريخية. وسنكتفي في هذا المقال بالرواية الإستعمارية لأصول البربر على أن نعود في دراسة لاحقة للروايتين التقليدية والعلمية.
الرواية الإستعمارية هي أصل النعرة القبلية التي أطلت علينا اليوم: أصول البربر حسب الرواية الإستعمارية: عندما دخل الفرنسيون إلى الجزائر في سنة 1830، واحتلوها وقرروا اعتبارها جزءا من التراب الوطني الفرنسي، راحوا يبذلون مساعيهم على عدة أصعدة لإفراغ الشخصية الجزائرية من مضامينها الوطنية. فأخذوا يبحثون عن ثغرة يمكن التسلل منها لتمزيق وحدة الشعب الجزائري. وفي هذا الإطار أوصى الجنرال ( Daumas) عشية الحملة العسكرية التي نفذتها كتائب الضابط Randon)) على منطقة القبايل (La Kabylie، بضرورة العمل على كسر بنى اتحاديات قبائلها وتفكيك نظمها، لتدجينها والتمكن بالتالي من الإمساك بعنانها. وفي نفس الإتجاه أعاب أحد دهاقنة الإستعمار، “لدريد دلشريير”( Ladreit De Lacharrière) في سنة 1924 على غزاة الجزائر، كونهم لم يتفطنوا في بداية استعمارهم لها، من التمييز بين مختلف الفصائل الإثنية المكونة لشعبها وإحداث شرخ وسط سكانها ، ثم العمل بعد ذلك على توسيعه ، لتفتيت هذه الكتلة البشرية الغير المتجانسة في نظره، وعزل بعضها عن البعض الآخر. ( Ladreit De La charrière, rappelant une faiblesse ancienne, mais corrigée depuis, il reprochait aux conquérants de L’Algérie de n’avoir pas, à leur époque, su distinguer « les éléments ethniques dont se composait le conglomérat des populations hostiles omettant de la sorte, de rechercher dans ce bloc, la faille à élargir pour le désagréger ») Jacques Ladreit De Lacharrière ; Les études berbères au Maroc et leur intérêt nord-africain, « in » « Renseignement coloniaux » , 1924 , p.315.
وفي المغرب بدأت فرنسا، منذ 1914 تخطط لعزل البربر عن العرب، فراح ضباطها ومنظرو سياستها يروجون لفكرة وجود شعبين في المغرب يختلفان من الناحية العرقية، والدينية ،والقانونية، والثقافية وأن بربر شمال إفريقيا بصفة عامة لايمتون بأية صلة للجنس العربي، وليسوا ساميين مثلهم، بل هم من أصل أروبي آري هاجروا من أروبا وسبقوا العرب إلى هذه البلاد. ولتدعيم هذا الإتجاه، صدرت تعليمات إلى المؤسسات الثقافية الفرنسية بشمال إفريقيا لإبراز الأصل الأروبي للبربر، واعتبار العرب مجرد غزاة محتلين يجب طردهم والتخلص منهم، ليسهل على فرنسا إدماج هذه المنطقة بصفة نهائية في حظيرة أمبراطوريتها الإستعمارية. Voici comment s’exprime Gautier à cet égard : « La colonisation idrisside au sud du limes (romain) déchaîna des possibilités nouvelles. Elle ouvrit les portes du nord aux almoravides ( amazighs) , puis aux almohades ( amazighs) Ce qui commence là est l’histoire du Maroc, un compartiment distinct dans l’histoire du Maghreb ». Gautier ‘E.F), Le passé de l’Afrique du Nord, les siècles obscurs, Payot, Paris, 1937 , p. 315. وفي هذا الإطار، اهتم عدد من الباحثين الإستعماريين بالحياة الإجتماعية والثقافية للقبائل البربرية، وشيعوا أن الأمازيغ قوم غير متمسكين بالإسلام وأن إسلامهم إسلام سطحي غير متجدر في أعماقهم ووجدانهم. وفي نفس السياق، جمع عدد من الحقوقيين الفرنسيين الكثير من المعلومات عن عرف القبائل البربرية، وحرصوا على حفظها وتدوينها، كما تناولوها بالدراسة والتحليل وبالغوا في تمجيدها وإبراز أهميتها. فذهبوا إلى القول : إن القوانين العرفية التي كان العمل جاريا بها في القبائل المذكورة، هي أقرب في مضمونها وروحها إلى القوانين الفرنسية منها إلى الشريعة الإسلامية. واهتم البعض الآخر بمقارنتها بأحكام الشريعة الإسلامية ورأوا فيها مميزات وخصائص تنسجم تماما مع الميولات الديمقراطية للقبائل البربرية وطبائعها. وقد استهدف مروجو هذه الأحكام والمزاعم، الإعداد إديولوجيا للخطة الإستعمارية التي كانت ترمي إلى تقسيم البلاد إلى منطقتين قضائيتين إثنتين ، شرعية وعرفية، في إطار تطبيق السياسة المسماة بالبربرية والتي توجت بصدور الظهير البربري الشهير في 16 ماي 1930. وفي نفس الإطار اهتم الباحثون الفرنسيون أيضا باللهجات البربرية، ودونوا البعض من التراث الثقافي الشفوي للناطقين بها. وبما أن البربر، حسب زعمهم ينحدرون من أروبا وأن البربرية مجرد لهجة، فقد أعاروها الحروف الللاتينية وبلغت بهم الجرأة إلى إصدار مجلة بالقبايلية في الجزائر، وتدوين جوانب معينة من الحياة الثقافية لعدد من القبائل الأمازيغية المنتشرة بجبال الأطلس المغربية بالحروف اللاتينية. وقد استهدف الفرنسيون من وراء عزل البربر عن العرب وإثبات أصلهم الأروبي، التمهيد لإدماج إفريقيا الشمالية برمتها في المجموعة الفرنسية. وبما أن هذا الإدماج لا يمكن أن ينجح إلا إذا كان البربر والأروبيون ينحدرون من أصل واحد، فقد عمد دهاقنة الإستعمار إلى توظيف التاريخ وتزوير الحقائق، لإثبات أروبية البربر وسلخهم عن إخوانهم سكان شمال إفريقيا، وهذه هي جذور النزعة البربرية والبذور الخبيثة التي زرعها دهاقنة الإستعمار في كياننا والتي بدأت ..تعطي ثمارها.”