تازة بريس
عبد السلام انويكًة
فاعلا كان ومحركا لحياة فرنسا الثقافية والفكرية لعقود من الزمن، وأحد مراجع علم الاجتماع المعاصر لِما ميزه من طرح فكري وبعد نظر كان بأثر في إغناء مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية منذ ستينيات القرن الماضي، فقد برز بعد إصداره كتاب”الورثة” الذي كان بصدى دولي كبير، ثم كتاب”إعادة الإنتاج” مطلع سبعيناته وخاصة كتابه “التميز” نهاية نفس الفترة، وهو ما جعله بموقع خاص في علم إجتماع العالم. هذا قبل كتابه”اللغة والسلطة الرمزية” فيما بعد تحديدا زمن الثمانينات، والذي شكل مساحة تفكيك وبناء في رؤيته صوب المجتمعات. ولعل من جمله ما تناوله حول هذه الأخيرة، ما هناك من أنماط هيمنة فيها بتحليله لما هو إنتاجات ثقافية، مبرزا من خلالها آليات إعادة انتاج بنياتها معتمدا على ما تراكم من مناهج بحث بمختلف حقول المعرفة الانسانية وتخصصاتها، مستهدفا كشف ما هو خفي من بنيات محددة لأنماط التفاعل الاجتماعي.
ذلك هو”بيير بورديو” عالم الاجتماع الفرنسي الذي توفي قبل عقدين من الزمن، وقد تباين ما تناوله وميز طرحه من قبيل قوله بكون السلطة تنطلق من تقسيمه الوسط الاجتماعي لحقول مستقلة نسبيا، ومن كون فهم هذا الوسط يتوقف على بحث عميق في كيفية اشتغال آليات حقوله، للكشف عن واقعها ومنطقها الداخلي في علاقة جدل بمفهوم سلطة. معتبرا أن هذه الأخيرة ليست شيئا متموضعا في مكان ما إنما هي نظام من علاقات متشابكة، وأن كل بنية هذا الوسط ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار لفهم آليات هيمنة ما. فالسلطة في رؤيته نظام معقد يخترق كل ما هناك من علاقات وترابطات، تشتغل داخليا بواسطة آليات دقيقة فعالة تتحكم في بنية هذا النظام. وانطلاقا من دراسات ميدانية ونظرية أنجزها “بورديو”، لاحظ أن السلطة الرمزية تستند دوما إلى أسلوب الاختفاء، وأنها لا يمكن أن تحقق تأثيرها بشكل فعال وإيجابي سوى عبر التعاون الذي يجب أن تلقاه من طرف أغلبية معنيين بها من الناس. وهكذا فالسلطة الرمزية في وعي “بورديو” ليست مرئية ولا يمكن أن تمارَس إلا بتواطؤ من الذين يرفضون الاعتراف بكونهم خاضعين لها. وعليه، يرى أن تأثير السلطة الرمزية أمر عميق وخطير لكونه يستهدف بنية نفسية وذهنية لمتلقين لها.
وحول مفهوم”الشعبي” في كتابه”اللغة والسلطة الرمزية” الصادر سنة ألف وتسعمائة وأربعة عشر، يرى أنه لا يحتاج لكل ما يرتبط بكلمة “شعبية” ولا الى تدقيق وتحليل نقدي يمس المجتمع، لِما قد تتعرض له كلمة “شعبي” من ردود فعل عن واقع رمزي من قبل من يشعرون أن من واجبهم تبني قضايا “الشعب”. ونفس الشيء بحسب تقديره ما يشمل مفهوم “اللغة الشعبية” التي تمثل ما هناك من تعبيرات في مجتمع ما (فن شعبي، عبادة واعتقادات، دين شعبي..)، لا يمكن تعريفها سوى في علاقتها ببعضها البعض بعيدا عما هو شرعي(لغة شرعية) وتنشئة رسمة ونظام تربوي مدرسي، بحيث القاموس” الشعبي” في نظره هو مجرد مجموعة كلمات مستبعدة من قواميس اللغة الشرعية.
ولعل الإشارة اللغوية في نظر”بورديو”، بقدر ما تشمل فئات شعبية بقدر ما لها من أهمية وفضل في الإنتاج الأكاديمي، لدرجة أن كل شخص يمكنه توسيع الاشارة في اللغة لتكييفها مع اهتماماته وتخيلاته وتمثلاته الاجتماعية. وهكذا عندما يتعلق الأمر بتحديد متحدثين ب “اللغة الشعبية”، سيوافق الجميع على أهمية الوسط الاجتماعي على أساس أن من هم فاعلون أقوياء في مجتمع ما هم من يلعب دورا هاما حاسما في إنتاج اللغة العامية(الشعبية) وتداولها بعيدا عن قواميس شرعية رسمية. وهنا تحضر أهمية ما هناك من أصول اجتماعية وطبيعة أنشطة مهنية في علاقتها بطبيعة اللغة المتداولة الشعبية وتعبيراتها، ( مدينة، بادية، فلاحة، تجارة، فقراء، اغنياء، متعلمين، غير متعلمين)، هذا اضافة لما يمكن استنتاجه حول الموضوع في وسط مهاجرين ما ضمن مجتمع ما، مثل المجتمع الفرنسي ما يحتويه من مهاجرين إسبان وبرتغاليين ومغاربة جزائريين وماليين وسنغاليين..، والذين يحتلون مكانًا هاما في الوسط العمالي وفي ما سماه “بورديو” بالبروليتاريا الوهمية.
ويكفي فحص السكان الذين يفترض فيهم انتاج واستهلاك ما هو عليه واقعهم ووسطهم المعيش من تماسك جزئي هو بدور أساسي في “اللغة الشعبية” يقول بورديو، لفهم ما هناك من صعوبات في مجال هذه اللغة ومن حاجات رمزية ومعنوية وروحية للمجتمع (الدين الشعبي مثلا)، والتي تجعل من الصعب الاستغناء عن الشعبية كما لدى الفلاحين في العلاقة ب”اللغة الشعبية”. التي عند التعامل معها على أنها لغة بكل ما هناك من صرامة عادة ما تكون مخصصة للغة الشرعية الرسمية، فإن كل من حاول وصف وكتابة أمر معين بعيدا عن اللغة العادية التي يتحدث بها معظم الناطقين الأجانب، معتمدا على اللغة الشرعية الرسمية في توافق مع القاموس السائد في المجتمع والذي يسجل فقط كلمات متداولة مصادق عليها اجتماعيا، نجده يعتمد قواميس غير تقليدية تنحصر في نصوص متكلمين معنيين ضمن مجموعة مختارة.
ويذكر “بورديو” أن كتابة خطاب معين يستبعد النية الأدبية، يجب أن يكون صاحبه خارج مواقف وحالة اجتماعية يتحدث عنها، معتبرا الاهتمام بالفجوات هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يغير بنية ترددات، وأنه على الرغم من تباينها وعدم اتساقها فإن بفضلها تنتمي مفاهيم إلى معنى ومجال “الشعبية”، تلك التي يمكن أن تقدم كثيرا من الخدمات حتى على مستوى الخطاب الأكاديمي. فهذه الترددات في فهمه تبقى مغلقة بعمق في شبكة تمثلات تولدها قضايا اجتماعية، ضمن احتياجات معرفة عادية لوسط اجتماعي يبقى له منطقه الأسطوري ورؤيته، خاصة ما يتعلق بتصور الآخرين من أجانب عنه حول طبيعة وجود وقوة ورؤية وسلطة مادية وتعبيرية، والذين يتم تنظيم صوتهم ونطقهم ومفرداتهم وفقًا لمعارضات مترابطة ومستقلة جزئيًا. كل هذا يسمح بحصول فكرة عن طبيعة أوساط أجانب من خلال تحديد ما هناك من موارد تعبيرية مودعة محفوظة في اللغة، لا سيما في نظام أزواج صفات يستخدمها مستخدمو اللغة الشرعيون الرسميون لتصنيف آخرين والحكم على جودتهم.
وإذا كان يجب أن تكون هناك مكانة للعلوم الاجتماعية في علم معرفة الأوساط الاجتماعية- يقول بورديو-، فإن هذه العلوم ليست بنية فقط تهدف للجمع بين هذه الأوساط مع جميع الافتراضات التي تميل لقبولها من خلال كلمات عادية وأشياء يتم بناءها (“لغة شعبية” و”عامية”)، وأن المعرفة العملية هي التي يجب بناء العلم على أساسها لتحقيق هدفها، باعتبارها جزء لا يتجزأ من معرفة مساعدة على صنع هذا الوسط(عالم)، من خلال المساعدة على تكوين رؤية يجب أن يتمتع بها كل فاعل ونشيط ومعني بالأمر من باحثين، عبر توجيه أفعالهم لاسيما التي تهدف للحفاظ عليه أو تحويله. وعليه، فعلم المعرفة العملية علم صارم في اللغات الاجتماعية التلقائية (الشعبية)، التي يستخدمها هؤلاء لتوقع ردود فعل آخرين وفرض تمثلات يرغبون في تقديمها لأنفسهم، ولفهم أمور عدة تخص ممارسة لغوية في مجتمع ما. ولعل الموضوع في وعي بورديو هو تدخلات واعية فردية أو جماعية عفوية أو مؤسسة، تستحضر ما هناك من ارتباطات يفرضها متكلمون عن أنفسهم سواء في أسرة أو مدرسة..، على أساس معرفة عملية مسجلة جزئيًا باللغة في ارتباط وعلاقة باختلافات لغوية واجتماعية.
وحول مفهوم اللغة الشعبية يرى بورديو، أنه أحد نتائج تطبيق التصنيفات المزدوجة التي تبني الوسط الاجتماعي، وفقًا لمستوى الفئات اجتماعيا ووفق تعبيرها وكلماتها المتميزة أو المبتذلة أو النادرة أو الشائعة ووفقا ايضا لِما هناك من مظاهر لباس وثقافة وغيرها. مضيفا أن هناك فئات أسطورية تسمح بوجود بياضات في سلسلة علاقات، متجاهلة ما هناك من تداخلات بين خطابات متحدثين مهيمنين. مع اشاره له حول ما هناك من تنوع كبير في الكلمة المنطوقة، وهو ما يتم رفضه بشكل عام في الطبقة السلبية من “اللغة الشعبية”. ومن خلال تكرار متناقض كأحد الآثار العادية للهيمنة الرمزية عبر اللغة، يرى بورديو أنه يمكن تحقيق هيمنة على المجتمع أو بعض الأجزاء منه، ومن هنا ما ينطبق على مبادئ التقسيم الاجتماعية الخاصة بهذه الفئات مثل القوة/الضعف، الخضوع، عدم الارتباط، المرونة، المكر،.. الخ، وهي المبادئ التي تعيد بترتيبها الهيكل الأساسي لنظام التناقضات بشكل دائم، من خلال ما يحدث من تعارض بين الطاعة والقوة والضعف والاحتقار والخضوع وغيره. ولعل اللغة هي نتاج تناقضات تؤدي إلى تطبيق “اللغة الشعبية” نفسها على مبادئ التقسيم التي هي انتاجها، كما أن الشعور الغامض بكون التوافق اللغوي يجسد شكلاً من أشكال الاعتراف والاستسلام، قادر على نشر شك في قضايا ومكونات عدة مما يؤدي لرفض جوانب اكثر وضوحًا في خطاب سائد، لا سيما النطق الأكثر توتراً أو الأشكال النحوية، وفي نفس الوقت البحث عن التعبير بناءً على تجاوز رقابة مهيمنة بين الأفراد واختلافاتهم والرغبة في تمييز أنفسهم عن أشكال التعبير العادية ضد الهيمنة. ولعل رخصة اللغة هنا هي جزء من عمل تمثيل يجب على”الأقوياء” توفيره لكي يفرضوا على الآخرين وعلى أنفسهم، صورة الفرد الذي جاء من أي شيء ومستعد لأي شيء رافضا استسلامه للمشاعر. وفي الواقع حتى لو كان بإمكان هذا الفرد من خلال الكشف عن نفسه مواجهة مهيمن ما لتحقيق التمييز، فإن أي اختلاف محدد في مشترك بيولوجي وأي تدهور لقيم عاطفية اخلاقية وجمالية وأي تحليل وادراك عميق لمعجم عامي في المجتمع، هو أولاً وقبل كل شيء تأكيدا للأرستقراطية.
وحول ما سماه بورديو باللغة “العامية” ولكونها مهيمنة ونتاج بحث عن تمييز، فهي منتجة لتأثيرات متناقضة لا يمكن فهمها عندما يتم حصرها كأسلوب وبديل لمقاومة وخضوع يحكم تفكيرا عاديا في اللغة والثقافة الشعبية. ولا يمكن لأحد في نظره أن يتجاهل ما هناك من قانون لغوي وثقافي، لِما هناك من تفاعل بين فئات داخل مجتمع في اطار رسمي يفرض على متحكم فيه الاعتراف العملي والمادي بقوانين تكوين انتاج لغوي. ويبقى بحسبه ايضا أنه يمكن تصنيف هذه الفئات وما تواجهه وفقًا لدرجة استقلاليتها وخضوعها لمعايير سائدة، مثل التي تم تأسيسها في علاقة مع قضاء وطب ومدرسة وغيرها، أو التي تخص مجالات أكثر تحررًا من القوانين مثلما يتشكل مثلا في السجون. ولعل الشرعية اللغوية المضادة وفي نفس الوقت إنتاج خطاب قائم على جهل متعمد لمشترك من ثقافة مهيمنة ومنها اللغة، لا يمكن تحقيقهما إلا في حدود حرية تحكمها قوانين ضمن مساحات خاصة بفئة مهيمنة رمزيا، وضمن المعترف بهم وبمهاراتهم لغويا في المجتمع.
إن اللغة العامية في وسط اجتماعي باعتبارها انتهاكًا لمبادئ اساسية في شرعية ثقافية بحسب بورديو، تشكل تأكيدًا لهوية اجتماعية وثقافية ليست مختلفة فقط بل متعارضة وتمثل رؤية وسط يتم التعبير عنها من قبل طبقات مهيمنة في تبادلات لغوية داخلية، وبشكل أكثر تحديدًا في أكثر هذه التبادلات تحكمًا مثل تلك الخاصة مثلا بمقاهي تهيمن عليها قيم كأحد مبادئ المقاومة الفعالة ضد اللغة والثقافة المهيمنة. وتتميز فضاءات المجتمع الداخلية نفسها مثل المقاهي باختلاف ما يميزها من تفاعلات وتوترات، وفي نفس الوقت وفق درجة رقابة تفرضها هذه التوترات في هذه الفضاءات. ويمكن القول أن تواتر أشكال التعبير الأكثر رواجًا(لغة عامية)، تتناقص وتتقلص بحسب الحد الأدنى من التفاعلات الخاصة المألوفة مثلما يحدث في الأسرة مثلا، حيث يتم تمييز الاستقلال والحرية فيما يتعلق بمعايير الخطاب الشرعي، إلى حد تجاهل أعراف الخطاب اللغوي السائد وما يحصل ايضا من سجال لفظي وتفاخر في بعض محادثات المقهى.
هكذا يذكر بورديو أنه رغم ما ينطوي عليه هذا الفضاء من تبسيط (المقهى)، فهو يُظهر تنوعا لخطابات وتعبيرات لغوية يتم إحداثها في صلة بمهارات لغوية مختلفة مرتبطة بفئات وفضاءات منتجة لهذه المهارات. ويظهر تأثير الرقابة اللغوية التي تمارسها الفضاءات الاجتماعية، في طبيعة ما هناك من كلمات يتم تبادلها في أماكن عامة مثل المقاهي، وهذه الرقابة الرمزية اللغوية هي عبارة عن تقاليد وسلوك خاضع إلى حد كبير لقواعد صارمة، علما أن من يذهب من الناس مثلا إلى الحانة ليس فقط لحاجة معينة ذات صلة، ولكن أيضًا من اجل تشارك وتفاعل في ترفيه جماعي قادر على تزويد هذا الفضاء بنوع من الشعور بالحرية، لِما هناك من ضوابط لإنتاج جو من نشوة اجتماعية يساهم استهلاك الكحول فيها. فالحانة اجتماعيا ولغويا كفضاء اجتماعي هي فضاء ترفيه وتبادل كلمات وتعزيز تفاعل واحتفال بذات وثقافة اجتماعية. ولعل امتلاك موهبة الإثارة في فضاءات عامة هو اسلوب تواصل اجتماعي، ويرى بورديو أن أصحاب هذه الفضاءات(مقهى، حانة..) يوفرون شروطا تعبيرية مناسبة لها (نكات، قصص..)، فضلا عن قواعد لعبة وخصوصيات متفاعلين وأسماء مستعارة وهوس ومراوغات ومواهب وموارد لازمة للإلهام، من خلال حوافز وتفاعلات قادرة على إنتاج جو يطبعه انفعال اجتماعي ومن ثمة لغوي يسعى إليه الفضاء.
ويبقى الخطاب السائد في هذه الفضاءات مظهرا من مظاهر حرية لمن يجهل قواعدها ومبادئها، وبالتالي يرى بورديو أن البلاغة تشكل نوعًا من حيوية تفاعلية حرة نسبيا، تلك التي تقوم على أساليب تعبير قادرة على إعطاء من ليس لديهم شعور بمظاهر براعة، تحليلا ووضوحا نفسيا. من خلال ما يتسامح مع خطابهم ومن ثمة التحدث بشكل منهجي عن صور ملموسة تخص وسطا ما. ولعل هذا الخطاب يعبر عن رؤية مستقرة صلبة في وسط اجتماعي، من خلال نظام أدلة يتم تأكيده بشكل جماعي يعطي لكل فئة في فضاءات مجتمع ما جوهرها ومكانها.
مختبر البحث في المعارف التربوية والعلمية ومعالم الحضارة الإنسانية